نظرت إلى قدمي بسرعة وأنا أحاول ألا أسير على الدرج من محطة مترو (الدُّقي) أو فوق كشك صغير على الأرض يمتد إلى ممر مزدحم باستمرار ومتواجد على الهواء الطلق، وركزت على شئ وهو أن جميع الرجال تقريباً كانوا يرتدون الصنادل.
نظرت للأعلى عندما خرجت من المترو، بدا الأمر منطقياً لأن البعض كان يرتدي الدشداشة والصدريات التي بطول الكاحل، وآخرون يرتدون الجينز والقمصان، يردون على هواتفهم وهم ينادون الأصدقاء بلهجة عربية بدت غير مألوفة لأذني وغير معتاد عليها، كانت هذه اللهجة العربية غير المألوفة لهجة يمنية، وكان هؤلاء الأشخاص من ينادون أصدقائهم من بين مليون يمني أو نحو ذلك يعتبرون القاهرة موطناً لهم، وكثير منهم يقيمون أو يعملون في اليمن الصغير في القاهرة.
من الممكن أن يعود سبب تواجد بعض سكان اليمن الصغير بالقاهرة إلى عائلاتهم التي انتقلت إلى هناك منذ قرون، وقد انجذبوا إلى مكانة القاهرة التاريخية باعتبارها واحدة من المراكز العالمية الرئيسية للتجارة والعلوم والتعليم والفنون في المنطقة، والتي جذبت العرب من جميع أنحاء العالم.
و في الآونة الأخيرة ، العديد من التدفقات الكبيرة الأخرى لليمنيين إلى العاصمة المصرية تحكي بدلاً من ذلك القصة المحبطة للمنفى والحرب، حيث جاء الكثير من سكان اليمن الصغير في القاهرة إلى مصر في أعقاب الحرب الأهلية في شمال اليمن التي انتهت في عام 1970، ومؤخراً بسبب الحرب الأهلية اليمنية المأساوية التي تسببت في حسرة ودمار منذ عام 2014.
تم إنشاء اليمن الصغير في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي، وتتركز تحت جسر الدقي على شارع الدقي وتمتد إلى الخارج على طول شارع إيران وشارع سليمان جوهر والشوارع الجانبية.
بينما يمكن العثور على اليمنيين في جميع أنحاء القاهرة، وتوجد أحياء يمنية أخرى في المنيل وأجزاء من الجيزة، فإن المنطقة التي أصبحت تُعرف باسم اليمن الصغير أصبحت إلى حد كبير محور الطهي والثقافة للمجتمع اليمني في القاهرة، مع المطاعم والمقاهي اليمنية التي تقدم الأطباق اليمنية، ومحلات السوبر ماركت الصغيرة ومحلات التوابل التي تبيع المنتجات اليمنية، ومدرسة يمنية تدرس مناهج البلاد، ومحلات قديمة يرتادها اليمنيون بالكامل تقريباً، إضافة الى فنان محلي يرسم ويعرض شخصيات سياسية يمنية. اليمن الصغير بالقاهرة هو جزء فريد من نوعه وغني بثقافة البلاد ومن دواعي سروري استكشافه.
بعد أن خرجت من المترو مباشرة، مشيت حول أركان وتحت جسر الدقي الصاخب بحثاً عن بعض الطعام اليمني.
بعد أن زرت بعض هذه المطاعم قبل عدة سنوات، كنت أشعر بالملل إلى ما لا نهاية من الأصدقاء من خلال إخبارهم بمدى جودة الطعام اليمني وكيف يجب أن يذهبوا إلى اليمن الصغير في القاهرة.
ومع ذلك، في العام الذي انقضت منذ آخر مرة غامرت فيها بالخروج إلى تلك المنطقة لغرض وحيد هو إخماد جوعي للطعام اليمني، ظهرت العديد من المطاعم اليمنية على امتداد هذا الشارع، إضافة إلى العديد من المطاعم الرخيصة التي تكتظ بالزبائن والروائح المنبعثة من المطبخ، إضافة الى وجود المزيد من الأماكن الراقية، كان من الواضح أن هذه المطاعم لا تخدم المجتمع اليمني المحلي فقط ولكن حتى المصريين القائمين في القاهرة يأتون من جميع أنحاء المدينة بشكل متزايد إلى المنطقة للحصول على الطعام.
عدت إلى أحد المطاعم التي أصبحت مغرماً بها، وبعد أن استقبلني طاقم الاستقبال كما يفعل دائماً، جلست متحمساً للطلب في أقرب وقت ممكن. وأثناء البحث في القائمة، تقريباً لم يكن هناك أي شيء اعرفه، ولكن مثل العديد من المرات السابقة في هذا المطعم، أجد دائماً أنه من خلال سؤال النادل عن التوصيات أو حتى مجرد الاختيار العشوائي، لم أشعر بخيبة أمل أبداً.
لكن هذه المرة، عندما نظر النادل إلى القائمة للحصول على توصية جيدة لي بعد السؤال عن نوع الطعام الذي أحبه، تم قطع اقتراحه الأول على الفور بواسطة نادل آخر مر بجانبنا مع الإصرار علي أن أجرب طبقاً آخر، بدأ الاثنان يتناقشان بشأن الطبق الذي يجب علي أن أطلبه، معربين عن تفاني مفاجئ في حصول غير اليمنيين على أفضل فكرة عن المطبخ اليمني واعتزازهم بهويتهم الوطنية.
وكان أحد الأطباق التي استقروا عليها أحد أشهر الأطباق اليمنية، يسمى الفحسة، ويتكون من لحم مطهي بالبهارات بالكمية المناسبة لإبراز النكهة وعدم التغلب على نكهة اللحم نفسه.
وعلى الرغم من أن التأثيرات الإيرانية والهندية للمطبخ اليمني تظهر بشكل واضح في كل وجبة، وتعطي الطعام اليمني مذاقاً فريداً من نوعه، مما يعكس المكانة التاريخية المميزة للبلاد باعتبارها البوابة التي تربط العالم العربي بالهند وإيران من خلال الموانئ، فإن طريقة تناول الطعام اليمني هي أيضاً طريقة رائعة للاستمتاع بالطعام، خاصة مع وجود مجموعات من الأشخاص حول أطباق مختلفة وبعض الخبز اليمني في متناول اليد، كانت كل طاولة تغمس في الأطباق وتخرجها وتخلط النكهات في منتصف الحوار القائم بينهم.
بعد تناول كمية من الطعام أكثر بكثير مما احتاجه، انتظرت الفاتورة وأنا قلق بشأن عدد الأشياء التي طلبتها وما إذا كنت سأضطر إلى الذهاب لنقطة سحب نقود إذا لم تتمكن العملات القليلة في محفظتي من تغطيتها.
ومما أثار دهشتي أن هذه الوجبة السخية اللذيذة والمكونة من مكونات باهظة الثمن مثل اللحوم واللبن تبين أنها واحدة من أرخص الوجبات المناسبة التي تناولتها في القاهرة منذ سنوات.
الآن، بسبب كمية الطعام التي كنت أتناولها، استكشفت هذا الشارع الذي كان مألوفاً في يوم من الأيام للعثور على المزيد من المطاعم اليمنية التي تم افتتاحها مؤخراً. حتى أن اثنين منهم قد صمموا واجهاتهم لتبدو وكأنها مبانٍ شهيرة من الطوب الطيني المشهور في البلاد، وكان بداخلها مطاعم فاخرة، ربما تشير إلى كيف أصبح الطعام اليمني، وهذه المنطقة على وجه الخصوص، تُعد مكاناً يأتي إليه الناس بشكل متزايد من جميع أنحاء المدينة لتأكل، على عكس الحي الصيني في العديد من المدن الغربية.
صادفت أيضاً محلات سوبر ماركت يمنية صغيرة ومتاجر توابل تبيع المنتجات اليمنية في بعض الشوارع الجانبية.
و بعد البحث في رفوف المنتجات اليمنية غير المألوفة، فوجئت بسماع تكلفة العديد من هذه الواردات، حيث أوضح لي صاحب المتجر أن ارتفاع أسعار المنتجات اليمنية كان نتيجة الصراع المستمر في البلاد والذي تسبب في نقص وصعوبات شديدة للشركات اليمنية التي تحاول إنتاج المواد الغذائية وتصدير المنتجات.
بالتفكير في سبب استمرار العديد من اليمنيين في القاهرة في دفع الأسعار المتزايدة باستمرار لعلب الحليب اليمني بنكهة الموز وبسكويت أبو ولد الشهير، أخبرني صاحب المتجر أن الأمر لا يتعلق فقط بمذاق أو جودة المنتجات، وأشار إلى رجل يمني مسن كان قد انتزع لتوه صندوقاً من بسكويت أبو ولد وخمن بأنه من المحتمل أن يتقاسمها مع أحفاده، و أخبرني كيف أن هذا البسكويت بالنسبة للصغار والكبار يمنحهم طعم المنزل.