يتذكر الأربعيني أحمد السلمي فقدانه لأربعة من أبنائه وتعرضه لجروح بالغة هو وزوجته عندما سقط منزلهم فوق رؤوسهم بسبب غارة عنيفة شنتها مقاتلات التحالف العربي بقيادة السعودية و الإمارات على حي الرقاص وسط العاصمة صنعاء صباح منتصف مايو/ أيار 2019.
حينها اعترف التحالف على لسان ناطقه تركي المالكي بالهجمة وقال إن قيادته أحالت نتائج ذلك القصف لفريق تقييم الحوادث للنظر باحتمال وجود حادث عرضي.
عقب الواقعة، وجد السلمي نفسه ومن تبقى من عائلته بلا مأوى، والحزن يحاصرهم من كل جانب، إذ انتظر أيام وأسابيع علّه يحصل على تعويض يخفف من هول الفاجعة التي كانت مثار سخط اليمنيين، لكنه لم يحصل على شيء يُذكر من قاتلي أبنائه وممن دمروا منزله الذي كان حصيلة سنوات طويلة من شقا العمر حيث كان يعمل في مهن مدنية متعددة.
يقول السلمي: "لم نتلق اعتذار ولا أي تعويض من قبل من دمر حياتنا، دون ذنب اقترفناه، وأجزم أن لا شيء في الدنيا سيعوض فقداني لأبنائي الأطفال الأبرياء الذين قُتلوا بدم بارد".
لم يقف أقارب وأهالي القرية التي ينتمي لها السلمي في محافظة إب، مكتوفي الأيدي وهم ينظرون بحسرة وألم جريمة قتل وتدمير منزل صاحبهم، حينها قرروا المساعدة في عودة أحمد لمنزله بعد أن عملوا على بناء منزل جديد على ركام ذلك المنزل المهدم، لكن التحالف على الرغم من إقراره بالجريمة إلا أنه لم يقدم شيء بحسب تأكيد السلمي.
قصص شبيهة لمأساة أحمد السلمي وقعت أحداثها في مختلف المحافظات اليمنية التي ما تزال تكتوي بنيران الحرب المستعرة منذ ثمانية أعوام ماضية، من بينها قصة مقتل ثلاثة من أبناء المواطن علي عبدالدائم أواخر أكتوبر/ تشرين الأول من العام الفائت، إذ سقطت قذائف أطلقها مسلحي جماعة الحوثيين على منزلهم الواقع في حي الكمب شرق محافظة تعز.
وفي حديثها تؤكد جميلة بشر، إحدى قريبات والدة الأطفال المقتولين، أن عائلة عبدالدائم لم تتلقى أيه تعويضات من أي جهة، وأن منزلهم ما يزال متضرراً جراء القصف، وأن لا تعويض يغنيها عن فقد أبنائها الثلاثة، وفقد قدم نجلها الرابع.
•لفت الانتباه
لم تسلم حفلات الأعراس ولا مجالس العزاء، ولا الموظفين الحكوميين ومن يعملون في القطاع الخاص، ولا العاملين في مختلف المهن الحرة، من آلة الحرب التي قتلت أكثر من 230 ألف شخص بحسب تقديرات رسمية وغير رسمية، وشردت ما لا يقل عن أربعة ملايين آخرين.
عائلات وأفراد لم يتلقوا أية تعويضات أو مساعدات جراء تعرضهم لقتل وتعذيب وسجن وانتهاكات قاسية بسبب الحرب المستعرة في مختلف المناطق اليمنية التي يقطنها مدنيون، وعلى الرغم من أن المأساة تتجدد إلا أن قصص أولئك أصبحت في طي النسيان مع انشغال أطراف النزاع المسلح باهتمامات أخرى.
(مواطنة) وهي منظمة يمنية تعمل في مجال حقوق الإنسان، أرادت تحريك الملف من خلال تسليطها الضوء على معاناة أولئك، من أجل لفت النظر لحق المدنيين في اليمن وضرورة حصولهم على جبر الضرر.
أجرت المنظمة- في سبيل ذلك- عبر فرقها المتوزعين على مختلف المحافظات اليمنية مقابلات مع آلاف المدنيين الذين تضرَّروا من التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات، والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، وجماعة الحوثيين المسلحة، والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، والقوات المشتركة المدعومة من الإمارات، والولايات المتحدة، وغيرهم في اليمن.
تلك المقابلات بجانب جهود أخرى مثلت ركائز لدراسة تتألف من 170 صفحة عُنونت بـ"عُدنا إلى الصفر" وهي أول دراسة مفصَّلة للالتزامات القانونية الدولية للدول الأعضاء في التحالف الحربي الذي تقوده السعودية والإمارات العربية المتحدة، والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، وجماعة (الحوثيين) المسلحة؛ لتقديم جبر ضرر عن الأخطاء الدولية التي يتحملون مسؤوليتها في اليمن.
بعد أن تلقى عدداً من المواطنين وهم ضحايا الأعمال القتالية، وعوداً من قبل بعض القوى المعتدية عليهم بجبر ضررهم وتقديم أي شكلٍ من أشكال المساعدة، أجرت (مواطنة) 81 مقابلة مع ضحايا مدنيين وأفراد أسرهم، بين مايو/ أيار 2020 ويناير/ كانون الثاني 2022.
كما أجرت في أوقات متفرقة مقابلات مع عشرات المدنيين الذين فقدوا ذويهم أو جُرِحوا أو تضررت أو دُمِّرَت ممتلكاتهم في 20 هجمة جوية مختلفة من قبل التحالف، وكانت مخرجات تلك المقابلات تأكيدًا ممن أجريت معهم المقابلات بأنهم ما يزالون يطالبون بتعويضات مالية كاملة بينما فضل آخرون وجود محكمة دولية لمحاكمة الجناة، كما أن آخرون لا يزالون يريدون الانتقام. وقد صرح الضحايا المدنيون مراراً وتكراراً إن المسؤولين عن الأخطاء هم من يجب أن يقدموا جبر الضرر.
•لا جبر ولا إنصاف
يلفت التقرير إلى أن بعض المواطنين وهم أقارب لضحايا مدنيين تضرَّروا في هجمات جوية نفذها التحالف، دفع لهم الأخير في العام 2021 مبالغ مالية كمدفوعات تعزية (مواساة)، بحسب رصد التقرير لبيانات فريق تقييم الحوادث المشترك التابع للتحالف، لكن البعض الأخر من المتضررين لم يتلق سوى جزء ضئيل من تلك المدفوعات؛ بحسب شهادات بعض المواطنين الذين أدلوا بها في التقرير.
يُذكر تقرير "عدنا إلى الصفر" بحادثة الحريق الذي نشب في مركز لاحتجاز اللاجئين الأفارقة بالقرب من مبنى الجوازات بصنعاء في التاسع من مارس/ آذار 2021.
أجرى معدو التقرير لقاءات مع بعض الناجين من الموت ممن كانوا داخل المركز في تلك الحادثة، لكنهم أصيبوا بجروح ناتجة عن الحريق، ومن بينهم "عفة" (اسم مستعار)، إذ اتهم جماعة الحوثيين بالعنصرية قائلاً: "إنهم، جميعًا، لا يعاملوننا كبشر. وهذا هو السبب في أننا لا نتوقع أيَّ جبر ضرر منهم".
أنشأت جماعة الحوثيين هيئة رفع المظالم ولجنة الإنصاف، للاستماع إلى الشكاوَى المقدَّمة ضد المنتسبين للجماعة ومطالبات التماس المساعدة والإنصاف.
بحسب تقرير "عدنا إلى الصفر" فإن مواطنة لحقوق الإنسان أجرت 11 مقابلة متخصصة بجبر الضرر خلال العام 2021، مع متضررين من انفجار ألغام زرَعتْها جماعة الحوثيين أو هجمات برية شنّتها الجماعة، قال جميعهم إنهم لم يتلقّوا أيَّ إنصاف ولم يسبق لهم التواصل مع أي هيئات متعلقة بالإنصاف ولم يكونوا على دراية بأي سبل أو إجراءات يمكنهم من خلالها تقديم الشكاوى.
أما الأشخاص الذين تفاعلوا مع الهيئات المتعلقة بالإنصاف التابعة لجماعة الحوثيين وهم ممن سعوا في التماس المساعدة أو الإنصاف في القضايا المتعلقة بالاحتجاز التعسفي وحالات الاختفاء، ومنهم 16 شخصًا من المدنيين والمحامِين الحقوقيّين فقد أكدوا لمنظمة مواطنة أنهم، لم يتلقوا أيَّ شكل من أشكال المساعدة التي يمكن التحقق منها، وأن هيئة رفع المظالم ولجنة الإنصاف التابعة لجماعة الحوثيين غير فعّالة ولا تعمل بشفافية.
•مسؤولية مشتركة
ترجع جماعة الحوثيين مسؤولية تقديم جبر الأضرار لليمنيين ضحايا الحرب إلى التحالف، لكن التحالف يقر مسؤوليته عن بعض الجرائم ويسميها بالأخطاء العرضية في بعض الأحيان، ويتجاهل جرائم في أحايين أخرى.
كجزءٍ من بحثها، أرسلت مواطنة رسائل إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا وقوات التحالف وجماعة الحوثيين المسلحة والمجلس الانتقالي الجنوبي، تطلب فيها معلومات عن أي خطوات قاموا باتخاذها لجبر ضرر الضحايا المدنيين، لانتهاكاتهم للقانون الدولي في اليمن. ولم تتلقَّ مواطنة أيَّ ردٍّ من أي منهم، بحسب التقرير.
عيادة ألارد كيه. لوونستين الدولية لحقوق الإنسان في كلية الحقوق بجامعة ييل، وهي جامعة خاصة تعتبر ثالث أقدم معهد للتعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية، ساعدت مواطنة على صياغة تلك الرسائل وأجرت تحليل لكشف مدى استجابة الأطراف المتحاربة للأضرار المدنية في اليمن، بناء على التحقيقات التي أجرتها المنظمة الحقوقية اليمنية.
ركزت العيادة على حق الأفراد المتضررين نتيجة لأخطاء وقعت لهم في زمن الحرب، وكانت خلاصة ذلك التعاون؛ التوضيح بأن الهيئات التي أنشأتها دول التحالف والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، لم تقدم أي شكل من أشكال المساعدة المالية أو غير المالية - للغالبية العظمى من الضحايا المدنيين لهجماتها في اليمن.
ولم يتلق سوى جزء ضئيل من الضحايا المدنيين للهجمات الجوية مدفوعات تعزية (مواساة)، وتم تجاهل الضحايا المدنيين لأنواع أخرى من السلوك غير القانوني التي ارتكبه التحالف، والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، والقوات التابعة لهما، وأن جماعة الحوثيين لم تعترف بمسؤولياتها الخاصة في جبر الضرر الواسع الذي ألحقته بالمدنيين.
يقول المحامي علي الجلعي، معلقاً على فحوى دراسة "عدنا إلى الصفر":
"الأهم في الأمر أنه تم توثيق تلك الجرائم التي حدثت والأضرار وفقاً لتوثيق صحيح وقانوني يتطابق مع المعايير الدولية".
ويضيف:
"مطالبة الحقوق والتعويضات لا يوجد لها أوقات مناسبة متى ما أراد أصحاب الحق رفع القضايا يمكنهم رفعها ففي أي وقت، وأن ضحايا الحرب لديهم قوة القانون سواء الدولي أو المحلي لتعويضهم فحقوقهم لا تُسقط بالتعويض فقط".
ويشير الجلعي إلى أنه "لابد وأن يكون قانون للعدالة الانتقالية يجبر الضرر عن ضحايا الحرب".