تحليل: ملابسات رحيل باطرفي وتنصيب أمير جديد لقاعدة اليمن: ماذا بعد؟
يمن فيوتشر - مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية- عاصم الصبري: الجمعة, 31 مايو, 2024 - 09:59 مساءً
تحليل: ملابسات رحيل باطرفي وتنصيب أمير جديد لقاعدة اليمن: ماذا بعد؟

في 10 مارس/ آذار 2024، أعلن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وبشكل مفاجئ، وفاة زعيمه خالد باطرفي وتنصيب القيادي سعد العولقي خلفا له. لم يفصح بيان القاعدة الرسمي الذي ألقاه القيادي الجهادي خبيب السوداني، عن أي تفاصيل إضافية حول سبب وفاة باطرفي، ولعلها المرة الأولى التي يلف فيها كل هذا الغموض خبر رحيل أحد زعماء القاعدة، إذ لطالما كان الجانب الأمريكي هو من يبادر إلى إعلان خبر اغتيال القادة الجهاديين -كما حدث مع الزعيمين السابقين لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب ناصر الوحيشي و قاسم الريمي، وأيضا زعيميّ التنظيم الأمّ أسامة بن لادن و أيمن الظواهري- ثم يقوم التنظيم بنفي الخبر لاحقا أو تأكيده وإعلان الأمير الجديد. بالنسبة لفرع التنظيم في اليمن، اتسمت عملية تنصيب العولقي بالسرعة والسلاسة وهو ما خالف كثير من التوقعات بسبب معلومات عن خلافات داخلية على تنصيب القيادي اليمني.[1]

ستحاول هذه الورقة تقديم خلفية موجزة عن مسيرة صعود القياديين باطرفي و العولقي إلى قمة هرم التنظيم في اليمن، وشرح طبيعة العلاقة التنافسية التي جمعت بينهما خلال السنوات الأخيرة. كما ستتقصى ملابسات رحيل باطرفي ومسار تنصيب العولقي وانعكاسات ذلك على السلوك المستقبلي والتوجّه الاستراتيجي لتنظيم القاعدة في اليمن، وذلك بالاستناد إلى المعلومات الحصرية التي تم الحصول عليها من ثلاثة مصادر جهادية رفيعة داخل التنظيم،[2] إضافة إلى قيادي جهادي سابق في قاعدة اليمن ومصدرين محليين مقربين من التنظيم، وبالاستعانة أيضا بالتقارير والأخبار والدراسات المنشورة.

 

•باطرفي و العولقي: تنافس الأقران
في فبراير/ شباط 2020، تحدّت قيادة القاعدة كافة الظروف الأمنية المحيطة بها في اليمن بسبب الحرب والملاحقة المستمرة من الولايات المتحدة، ودعت أعضاء مجلس شورى التنظيم إلى الاجتماع بشكل عاجل في مقرها الحصين -آنذاك – بمحافظة البيضاء، فقد قُتل زعيم التنظيم قاسم الريمي بغارة أمريكية في 31 يناير/ كانون الثاني وتوجّب على الفور تعيين خليفة له.

بالتوازي مع تحركات القادة الجهاديين على الأرض، كثفت الولايات المتحدة من تحركاتها الجوية ونشاطها الاستخباراتي على أمل اصطياد المزيد من رؤوس التنظيم. انصب التركيز على اسمين رئيسيين: سعد العولقي وخالد باطرفي، حيث تم إدراجهما في نفس الشهر على قائمة برنامج “مكافآت من أجل العدالة” التابع لوزارة الخارجية الأمريكية[3] – الذي يعرض مكافأة مالية مقابل الحصول على معلومات – وألقت الطائرات الأمريكية بمنشورات ورقية على مناطق من محافظة البيضاء لتعريف المواطنين بصورة القياديين وشرح آلية التبليغ عنهما والتذكير بالجائزة المالية المُجزية.[4] تعاملت القيادة الأمريكية مع الرجلين باعتبارهما تهديدا متماثلا تقريبا، مع عرض مكافأة مالية أكثر قليلاً على باطرفي.

في غضون ذلك، شهدت الأوساط الجهادية داخل التنظيم استقطابا حادا بين أنصار المرشّحيْن، واستغرقت مداولات ونقاشات مجلس شورى التنظيم نحو ثلاثة أسابيع للتوصل إلى قرار. في البداية، كانت التوقعات تصب في مصلحة العولقي، كونه امتدادا طبيعيا لتقليد الزعامة اليمنية داخل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي تكرّس في حقبة الوحيشي والريمي. كما كان ترشيح العولقي، بحُكم نشاطه الميداني وصلاته التنظيمية، موضع توافق واسع على مستوى القيادة العليا للقاعدة، وعلى مستوى العناصر والمجندين العاملين على الأرض.[5]

إلا أن الأمور لم تَسر وفق التوقعات، فَقد ظهر تحالف تنظيمي ضم ثلاثة تيارات وازنة عملت على ترجيح كفة باطرفي: تيار السعوديين والحضارم بقيادة حمد التميمي (وهو من أعلن بيان تنصيب باطرفي في 23 فبراير/ شباط 2020)؛ وتيار المصريين بقيادة إبراهيم البنا؛ و أخيرا رجال الزعيم السابق قاسم الريمي وحلقته المقربة بقيادة عمار الصنعاني. سيتضح لاحقا أن مهندس هذا التحالف الثلاثي من خلف الكواليس كان “سيف العدل”، القيادي المصري المقيم في إيران والزعيم الفعلي الحالي لتنظيم القاعدة.[6]

لم ينجح هذا التحالف الثلاثي بترجيح فرص باطرفي وحسب، بل قوّض لاحقا دور العولقي في صناعة القرار داخل التنظيم. ومنذ ذلك الحين، انتهج العولقي موقفا رماديا إزاء القيادة الجديدة، إذ لم يتوانَ عن معارضة الكثير من قراراتها وانتقاد توجهها الاستراتيجي، لكنه في الوقت نفسه لم يتخذ أي موقف عدائي صريح يهدد شرعية باطرفي، ولم يُقدم على أي تحركات انشقاقية تُهدد وحدة التنظيم الداخلية.[7]

بالمقابل، عمل القيادي خبيب السوداني كَمُطفئ للحرائق؛ فَكلما اشتد الخلاف الثنائي بين باطرفي والعولقي، بادر السوداني إلى التوسط ودعوة الرجلين إلى لقاء مغلق في مكان آمن لإجبارهما على الحوار. إستمرت آلية فض الخلاف هذه على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، وأنقذت التنظيم عمليا وصانته من خطر الانقسام.[8]

آخر لقاء مباشر بين الرجلين (باطرفي والعولقي) كان في يناير/ كانون الثاني 2024، حيث احتدم حينها النقاش حول بعض القضايا التنظيمية والمالية دون الوصول إلى أية نتيجة. في نهاية فبراير/ شباط، تلقى العولقي دعوة من السوداني لمشاورات عاجلة في إحدى ملاذات التنظيم الآمنة بمحافظة مأرب، وحين وصل العولقي إلى هناك تفاجأ أن سبب الدعوة لم يكن مصالحته مع باطرفي، بل تحضيره لتسلّم زمام القيادة.[9]

 

•سلسلة من الوفيات المريبة داخل التنظيم
شهدت الحالة الصحية لخالد باطرفي تدهورا مستمرا منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2023. بالعادة، لا تتلقى قيادات التنظيم الرفيعة العلاج إلا من خلال اللجنة الطبية التابعة للتنظيم، ولكن حين تكون الحالة الصحية مستعصية يُضطر التنظيم لإسعاف قياداته إلى أفضل مستشفى متاح وقريب من ملاذاتهم الآمنة.[10] حدث ذلك في العام 2020، حين اضطر التنظيم إلى إسعاف قاسم الريمي خارج معاقله في محافظة البيضاء وهو ما أدى – على ما يبدو – إلى انكشافه وسهّل تصفيته في غارة بطائرة أمريكية مسيرة. رغم توجّس المسؤولين الأمنيين للقاعدة من هذا الخيار ومحاولتهم الدائمة لتجنبه، إلا أنهم اضطروا خلال الأربعة الأشهر الأخيرة من حياته إلى إسعاف باطرفي مرتين لإحدى المشافي الواقعة خارج ملاذات التنظيم الآمنة بسبب مشاكل في الكبد.[11]

بعد إسعافه للمرة الأولى، شهدت الحالة الصحية لباطرفي استقرارا ملحوظا استمر لأسابيع قبل أن يتعرض لانتكاسة أشد ويضطر التنظيم لإسعافه للمرة الثانية دون أي تحسن في حالته. ظل الوضع الصحي لزعيم القاعدة يتدهور بصورة مضطردة إلى أن توفي “على فراشه”،[12] وبحسب نفس القيادات الرفيعة في التنظيم التي تم الاستعانة بها كمصادر، يتراوح تاريخ وفاته بين (28 فبراير/ شباط و 1 مارس/ آذار).[13]

لم يُعرف بشكل دقيق طبيعة المرض الذي ألمّ بباطرفي، حيث ذكر بعض المقربين منه أن الرجل لم يكن له تاريخ مَرضي متصل بالكبد،[14] ولعل هذا ما دفع عددا من قيادات الصف الأول إلى عدم قبول رواية “وفاته لأسباب طبيعية” خاصة أن موته كان مفاجئاً، وفي مقدمتهم المسؤول الأمني إبراهيم البنا[15] الذي ساورته الشكوك بتعرّض زعيم القاعدة لعملية تسميم منذ أن تم إسعافه في المرة الأولى. ومع مرور الوقت، بدأت هذه الشكوك تساور القيادات الجهادية الأخرى.[16]

فبعد أيام من وفاة باطرفي، قُتل القيادي الجهادي سليمان بن داؤود الصنعاني في حادث مروري تعرض له في إحدى الطرق الرابطة بين محافظتي أبين وشبوة جنوبيّ اليمن، علماً أن الصنعاني يُعدّ من أبرز العناصر الميدانية للقاعدة وأحد الخبراء المسؤولين عن سلاح الطيران المسير، والمحسوبين من ضمن دائرة نفوذ سيف العدل.[17] لاحقاً، في منتصف مارس/آذار 2024، نَشب حريق كبير بأحد المنازل الواقعة في ريف محافظة مأرب كان يتخذه نجل سيف العدل، المكنى “ابن المدني”، مقرا مؤقتا لإقامته، وأسفر هذا الحريق عن إصابته ووفاته بعد بضعة أيام.[18]

ساهم تسلسل حوادث الوفيات المفاجئة في تغذية الشكوك بوجود نمط من عمليات الاغتيال، لكن المصادر من داخل التنظيم قالت إن الزعيم الجديد لقاعدة اليمن سعد العولقي لا يبدو منشغلاً بالتحقيق في صحة هذه الفرضية، وهو ما يختلف عن التوجّه السابق للقيادة حين وجّه قاسم الريمي رسميا بتشكيل لجنة أمنية للتحقيق في ملابسات اغتيال الوحيشي وتحمُّل المسؤولية عن أية أوجه قصور أو إخفاقات.

ما لم يفعله العولقي بدأ آخرون في فعله، حيث بادر إبراهيم البنا فعلا بالتحرك لتقفي خيوط الأحداث والتأكد من تورط أي من عناصر القاعدة في تسميم باطرفي أو اغتيال الصنعاني وابن المدني.[19] لم يحتج البنا إلى انتظار التكليف الرسمي من الأمير الجديد للقيام بالتحقيقات، فهو يستند إلى إرثه السابق باعتباره الرجل الذي نجح في كشف أكبر شبكة تجسس داخل تنظيم القاعدة عام 2018.[20] يراهن البنا على إمكانية التوصل إلى نتائج سريعة فيما يتعلق بواقعة وفاة باطرفي، وذلك نظرا لما شهدته تحركات الأخير من تقييد كبير منذ نوفمبر/ تشرين الثاني – على أقل تقدير – بسبب المشاكل الصحية والمحاذير الأمنية المتزايدة، وبالتالي لن يكون من المستعصي حصر الحلقة الضيقة التي احتكّت به ومن ثم تتبّع الشخصيات المشتبه بها والتحقيق معها.[21]

 

•حيثيات تنصيب العولقي: عودة الإجماع
كان حضور سعد العولقي كمُرشح محتمل لخلافة باطرفي بديهيا، لكن اللافت هو حالة الإجماع التي تبلورت حوله داخل مجلس شورى التنظيم وبين مختلف الأجنحة المتنافسة، وهو ما لم يكن متوقعا على الأرجح. فَالفترة الزمنية الفاصلة ما بين وفاة باطرفي ومبايعة العولقي لم تتجاوز الأسبوع، وهي مُقاربة للمدة الزمنية التي فصلت بين وفاة الوحيشي وتنصيب الريمي في 2015 (التي لم تتجاوز آنذاك 5 أيام)، بخلاف المدة الزمنية الطويلة الفاصلة بين مقتل الريمي وتنصيب باطرفي التي استغرقت أكثر من 20 يوماً.

كان خبيب السوداني -الذي تولى مهام القيادة مؤقتا مع اشتداد مرض باطرفي وخلال الأيام التي تلت وفاته- العقل المدبر وراء الانتقال السلس لزعامة التنظيم، وذلك باعتباره عضو القيادة العامة للتنظيم في اليمن وكذلك عضو مجلس شورى التنظيم.[22] خلال هذه الفترة تحول السوداني من مطفئ للحرائق إلى صانع للأمراء، و لعب دورا محوريا في صياغة الإجماع حول العولقي.

إلى جانب دور السوداني، برزت جملة من العوامل المساعدة لتنصيب العولقي في مقدمتها رصيده الجهادي وقدراته القيادية. انضم سعد العولقي –المتحدرة أصوله من شبوة- إلى تنظيم القاعدة في سن مبكرة وحظي بمكانة مُقربة من الزعيم المؤسس لفرع اليمن ناصر الوحيشي، حيث تشرّب نهجه التنظيمي والاستراتيجي القائم على ما يُعرف أحياناً بـ “يمننة قاعدة الجهاد” من خلال تعزيز علاقات التنظيم التحالفية مع الحواضن المحلية والقبلية، وتعزيز دور القيادات اليمنية على حساب الأجانب وتعظيم استقلالية الفرع اليمني عن القيادة المركزية للتنظيم، باعتبار ذلك السبيل الأنجع لتحقيق المرونة الهيكلية بما يسمح للفرع بالتكيف مع شتى الظروف الأمنية.[23]

في 2011، كان العولقي أحد المؤسسين لتنظيم “أنصار الشريعة” -الظهير المحلي لتنظيم القاعدة- ثم تولى ولاية شبوة لمدة خمسة أعوام، حيث أُسندت إليه في نفس التوقيت العديد من المهام التنظيمية والعسكرية في المحافظات المجاورة (أبين، البيضاء، مأرب، وحضرموت). وقد دفعه هذا بقوة إلى الترقي ليصبح عضو القيادة العامة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وعضو مجلس شورى التنظيم عام 2015 تقريباً.[24]

خلال حقبة قاسم الريمي، لم يبرز أي منافس حقيقي أمام العولقي سوى الجهادي السعودي/ اليمني الأصل خالد باطرفي، الذي رجَحت كفته نظرا لشبكة تحالفاته التي ساندته. بدأ دور العولقي في صناعة القرار بالتراجع خلال حقبة باطرفي، فرغم أنه ظل قطبا مهما في توازنات القوى الداخلية للتنظيم إلا أنه لم يَعُد بنفس درجة التأثير، بل برزت على الساحة الجهادية نخبة قيادية جديدة من نفس جيل العولقي بدا أن لها نفوذا أكبر، ومن أبرز هذه الأسماء “حمد التميمي، عمار الصنعاني، حسان الحضرمي، وعبد الواحد النجدي”. شكل هؤلاء الأربعة خلية قيادية في تنظيم القاعدة كانت مسؤولة عن العمليات النوعية الخارجية والداخلية[25]، ولعبوا دورا مهما في ترجيح الكفة لصالح تنصيب باطرفي، وبالتالي كان من المنتظر أن يلعبوا دورا محوريا في تنصيب خليفته. لكن القدر كان حليف العولقي، حيث تمت تصفية جميع أعضاء هذه الخلية بغارات أمريكية على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، وساهم هذا الفراغ القيادي في تسهيل انتقال الزعامة إليه في 2024.

هناك عامل آخر مهم ساعد العولقي، ألا وهو نفوذ سيف العدل. فرغم أن القيادي المصري استطاع خلال السنوات الاخيرة بسط نفوذه على فرع تنظيم القاعدة في اليمن من الخارج، لم يستطع إحكام سيطرته المطلقة على كامل مفاصل التنظيم.[26] ومنذ تنصيبه أميرا لفرع التنظيم في اليمن عام 2020، اعتمد باطرفي على شخصيتين محوريتين لمساعدته (حمد التميمي وعمار الصنعاني)، حيث كان هذان القياديان محل توافق مشترك بينه وبين سيف العدل.

في مارس/آذار 2022، قُتل عمار الصنعاني القائد العسكري للقاعدة بغارة أمريكية، و اقترح سيف العدل تعيين نجله “ابن المدني” محلّه كمسؤول عن اللجنة العسكرية للتنظيم، إلاّ أن باطرفي تهرّب وكلّف أبو علي الديسي (مسؤول اللجنة الشرعية) كي يغطي مكان الصنعاني.[27]

في فبراير/شباط 2023، تمت تصفية قيادي رفيع آخر وهو حمد التميمي في غارة أمريكية، علماً بأن التميمي كان يتولى ثلاثة مناصب حساسة: عضو القيادة العامة لتنظيم القاعدة في اليمن؛ ومسؤول خلية العمليات النوعية الخارجية؛ و مسؤول اللجنة الإعلامية. بعبارة أخرى، كان هو فعلياً الرجل الثاني في التنظيم بعد باطرفي.[28]

مجدداً، ضغط سيف العدل بقوة لنقل صلاحيات حمد التميمي إلى نجله، وفعلا تم تسليم “ابن المدني” بعض المهام المتصلة بالعمليات الخارجية، إلاّ أن باطرفي قام بتعيين أحد المقربين منه على رأس اللجنة الإعلامية، بينما ظل موقع التميمي في القيادة العامة للتنظيم شاغرا.[29]

خلال شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان 2023، تزايد الشدّ والجذب بين سيف العدل وباطرفي بهدف السيطرة التنظيمية، فقد قادت المجموعة المصرية حراكا داخليا يدعو إلى إعادة هيكلة تنظيم القاعدة وتقليص صلاحيات باطرفي مستغلة حالة الاستياء العام لاسيما من قبل العولقي ورجاله.[30] بالمقابل، لوّح باطرفي بأنه قد يتحالف مع سعد العولقي ويوقف العمليات الداخلية في جنوب اليمن (ضد قوات الحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي) وأنه سيعيد النظر في استراتيجية التحالف مع إيران، وقد يستأنف العمليات الداخلية ضد جماعة الحوثيين.[31]

لم يستمر هذا التجاذب طويلا، إذ برزت ملامح تسوية داخلية تضمنت إبقاء التنظيم على نفس سياسات سيف العدل، مقابل الدعم الكامل لصلاحيات باطرفي القيادية. سرعان ما تجلت مفاعيل هذه التسوية في مايو/أيار 2023، حين تحصّل تنظيم القاعدة لأول مرة على سلاح الطائرات المسيرة كتتويج لتقاربه مع جماعة الحوثيين.[32]

بالمقابل، وجّه باطرفي بتكثيف العمليات العسكرية في جنوب اليمن وتوسيع بنك الأهداف ليشمل قيادات رفيعة كان أبرزها “عبداللطيف السيد” قائد الحزام الأمني التابع للمجلس الانتقالي الجنوبي في أبين، والذي قُتل في أغسطس/آب 2023. إضافة إلى ذلك، استأنف التنظيم عملياته الأمنية في تعز ومأرب وحضرموت، وهو ما اعتبره مراقبون عودة قوية لنشاط التنظيم بعد فترة من التقوقع.[33]

بالمحصلة أتاح هذا التحالف “التعاوني/التنافسي” بين باطرفي وسيف العدل (المقيم في إيران) هامشا أكبر لسعد العولقي للمناورة، وأبقى على أهميته لدى الطرفين كقوة مرجحة في حالة الاستقطاب. في الوقت نفسه، قوّضت التوترات الكامنة من قدرة كلا الطرفين على فرض هيمنتهما المطلقة على التنظيم في اليمن، وبالتالي فرض إرادتهم المستقبلية على هوية الزعامة الجديدة، وعندما حانت لحظة انتقال السلطة، استطاع سعد العولقي أن يتقدم بسلاسة لتولي الزعامة كمرشح توافقي.

استفاد العولقي من قاعدة التأييد الواسعة داخل مجلس شورى التنظيم (غير معروف عدد أعضائه)، واستفاد أيضا من تلميحات أمير التنظيم السابق وهو على فراش المرض، حيث طلب باطرفي حضور العولقي إلى مقر إقامته قبل أيام من وفاته. لا يسعنا سوى التكهن بأسباب باطرفي التي دفعته لهذا، حيث سعى على الأرجح على إظهار مزيد من الثقة بالعولقي لضمان بقاء التنظيم، وإظهار ما يخامره من شكوك حول سياسات وخيارات سيف العدل (ومن خلفه إيران). وأخيرا، استفاد العولقي من عجز الجناح المصري عن تقديم مرشح بديل مما أفسح له المجال لتولي زعامة التنظيم. [34]

 

•العولقي أمير لقاعدة اليمن: ماذا بعد؟
أظهرت حالة التكتم الشديدة على خبر رحيل باطرفي، وكذلك سرعة تنصيب العولقي وسلاسة التوافق عليه، أن تنظيم القاعدة لم يفقد بعد قدرته على التكيف رغم الضربات القاسية التي تعرض لها، وأنه ما يزال قادراً على الاستفادة من تراكم إرثه التاريخي والمؤسسي كي يعوض رحيل الزعامات ويحافظ على هياكله التنظيمية، وهذا يدحض الانطباعات الرائجة حول انهيار التنظيم وتشرذمه.

في هذا السياق، تكشف وقائع انتقال السلطة داخل القاعدة بأن التنظيم ما يزال يتحلى بالحدّ المقبول من التماسك الداخلي، وأن كافة أجنحته الفاعلة ما تزال تدير خلافاتها الداخلية بعقلانية لضمان عدم خروجها عن السيطرة، وأنها مستعدة لتنحية أية خلافات مقابل الحفاظ على تماسك التنظيم.

على الأرجح، سيمنح صعود العولقي التنظيم قوة دفع ذاتي لتجاوز بعض الأزمات الداخلية، وسيكون لهذا التغيّر القيادي تداعيات ملموسة على عمليات التنظيم الداخلية وعلى سلوكه الخارجي رغم أن الوقت سابق لأوانه لتحديد طبيعة هذه التداعيات.

سيكون العام 2024 – في الغالب – بمثابة مرحلة انتقالية بالنسبة للقيادة الجديدة للتنظيم، حيث سيركز سعد العولقي خلالها على ثلاث أولويات مهمة: تتمثل الأولى في الإمساك بمفاصل التنظيم (القيادة العامة للتنظيم، والتي تضم أمير التنظيم و6-8 قادة آخرين يتشاركون معه صناعة القرار؛ واللجان التنفيذية العسكرية، المالية، الإعلامية، الأمنية، وكذلك المعنية بالعمليات الخاصة؛ وأمراء المناطق والمحافظات). حتى الآن، ما تزال الجهات الثلاث في التنظيم إما شاغرة، أو تحت سيطرة قيادات موالية لباطرفي أو موالية لسيف العدل، وبالتالي سوف يتعين على العولقي إما كسب ولاء القيادات الحالية أو تعيين قيادات جديدة موالية له.

المهمة الثانية هي إصلاح العلاقة المتوترة للتنظيم مع الحواضن الاجتماعية والقبلية لاسيما في محافظتي أبين وشبوة. كان أحد أسباب تحفظ العولقي على نهج باطرفي في استئناف العمليات العسكرية جنوبا هو الخوف من إدخالهم في مواجهة مع القبائل. خلال حقبة باطرفي، أقدم تنظيم القاعدة على اختطاف عدد من الرهائن الأجانب دون مبالاة بوساطات القبائل للإفراج عنهم، وتطور الأمر لاحقا إلى اختطاف مواطنين يمنيين وطلب فدية مالية.

في فبراير/ شباط، قامت مجاميع مسلحة تتبع تنظيم القاعدة باختطاف أربعة مواطنين يمنيين ينحدرون من محافظة شبوة في عمليتين منفصلتين، وحين جرت وساطات قبلية للإفراج عنهم، طلب المسلحون فدية مالية قدرها “100 ألف ريال سعودي”. لكن فور تنصيب العولقي أميراً للتنظيم، وجّه بقبول الوساطات القبلية وأمر بالإفراج عن المختطفين على وجه السرعة. تُمثل هذه الواقعة مؤشرا مهما على الأرجح لاستشراف نهج القيادة الجديدة إزاء الحواضن “القبلية السنية” لاسيما في مأرب وشبوة وأبين، إلاّ أن العولقي قد يواجه مشكلة في استعادة الثقة مع قبائل محافظة البيضاء لأن ذلك سيتطلب منه مواجهة الحوثيين.

ثالثاً، تجنب أي صدمات داخلية مبكرة عبر العمل على استمالة رجال باطرفي (السعوديين/الحضارم/ الصنعانيين أو رجال الريمي سابقا)، وكذلك اعادة استقطاب القيادات والعناصر المنعزلة والمتمردة إلى صفوف التنظيم. وبالمقابل، سوف يعمل العولقي على احتواء المجموعة المصرية وذلك من خلال الحفاظ على مواقع نفوذها الحالي، لاسيما قيادة إبراهيم البنا للجنة الأمنية، وسوف يبحث بشكل مؤقت عن صيغة مشتركة للمواءمة بين توجهات سيف العدل الداعية للتعاون مع الحوثيين وتوجهاته هو شخصيا (أي العولقي) المناهضة للحوثيين، عبر الحفاظ على مسافة أكبر عن الحوثيين.

في غضون ذلك، من المتوقع أن يتجنب سعد العولقي خلال المرحلة الانتقالية الراهنة اتخاذ أي مواقف حاسمة تجاه عدد من القضايا الرئيسية، وأهمها علاقته مع سيف العدل، حيث سيكون سعد العولقي أول زعيم لقاعدة اليمن لا يعرف على وجه التحديد من هي الشخصية الرسمية التي يجب مبايعتها كأمير شرعي لتنظيم القاعدة الأمّ (العالمي)، باعتبار أن سيف العدل هو حالياً الزعيم الفعلي للتنظيم بحُكم الأمر الواقع. يظل الاحتمال الأرجح حاليا أن العولقي لن يتحدى أو يعترض على مشروعية سيف العدل القيادية، وفي الأساس يكنّ العولقي تقديرا كبيرا لسيف العدل ويعتبره امتدادا طبيعيا لبن لادن والظواهري، ولم يُشكك أبدا في نزاهته وإخلاصه للحركة الجهادية. لكن ذلك لا يعني أن الزعيم الجديد للفرع اليمني هو أول من سَيبايع رسمياً سيف العدل كقائد شرعي.

فيما يخص تفاصيل إدارة الجوانب التنظيمية لفرع القاعدة في اليمن، سيحاول سعد العولقي أن يناور قدر الإمكان، مثلما فعل باطرفي من قبل، بحيث لا ينعكس الاعتراف بمشروعية سيف العدل القيادية سلبا على نفوذ العولقي الشخصي ومكانته، وعلى الاستقلالية الذاتية لفرع التنظيم في اليمن.

إضافة لذلك، سيتجنب العولقي أي تغييرات جوهرية في علاقة التنظيم مع الحوثيين. من غير المرجح أن يخوض معارك مفتوحة مع جماعة الحوثيين على المدى المنظور، لكنه سوف يعمل تدريجيا على إبقاء مسافة أكبر عنها. تجدر الإشارة إلى أن علاقة الحوثيين مع الزعيم السابق للتنظيم قد شهدت منعطفا مُهماّ خلال شهر يناير/ كانون الثاني، فَبعد أن هيّأت ظروف الحرب الإسرائيلية على غزة شروط التعاون الرسمي مع “محور المقاومة”، تفاجأ باطرفي بأن جماعة الحوثيين بدأت تمارس عليهم ضغوطا كبيرة كي يستأنفوا العمليات الداخلية في الجنوب، وأن يتجنبوا القيام بأي عمليات نوعية ضد الأهداف الغربية –على الأرجح لتجنب مزيد من التوترات مع الولايات المتحدة والتي تعتبر في ذروتها أساساً بسبب الهجمات في البحر الأحمر، وكذلك لتجنب إعطاء تنظيم القاعدة فرصة لكسب تأييد الشارع والرأي العام في نصرة أهل غزة. حاول باطرفي امتصاص هذه الضغوط والالتفاف عليها، ويمكن للعولقي أن يستثمر هذه الأجواء كي يُشكك في جدوى التقارب مع الحوثيين ويكسب مزيد من الوقت.

الأمر الآخر أن العولقي لن يلجأ إلى تغيير السياسة العسكرية للتنظيم في المناطق المحررة، وعلى الأرجح سوف يتجنب فتح أي جبهات قتال مع مختلف القوات الأمنية والعسكرية الموالية لمجلس القيادة الرئاسي، لكنه لن يُعيد صياغة العلاقة معهم على أساس تحالفي، ولن يتوانى عن الردّ بقوة في حالة بدأت القوات الحكومية باستهداف عناصره.

وأخيراً، لن تحدث تغييرات في العمليات الخارجية، وعلى الأرجح لن يمانع العولقي في تنفيذ أية عملية نوعية قد تم التخطيط والإعداد لها مسبقاً خلال حقبة باطرفي. كما يُستبعد أن يخالف نهج التنظيم الذي حرّض على تنفيذ عمليات الذئاب المنفردة في الدول الغربية تضامنا مع فلسطين. لكن رُغم استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، يُستبعد أن يحرّض العولقي على أية عمليات كبيرة ضد القوات الأجنبية داخل اليمن أو ضد أي أهداف خارج اليمن، سواء داخل المنطقة أو في الغرب. فَسيكون في متناول يده ما يكفي من الملفات المحلية المتعددة خلال هذه الفترة الانتقالية لتُشغله، خاصة بالنسبة لتنظيم مضطر للتخطيط والتحرك في الخفاء. على المدى القريب على الأقل، سيكون من الصعب على العولقي أن يجازف ويُوجّه جهده الشخصي و موارده التنظيمية إلى تحركات محفوفة بالمخاطر.

لقراءة المادة من موقعها الاصلي على هذا الرابط:

https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/22772


التعليقات