كما تكتظ نيويورك هذه الأيام بمواكب السيارات السوداء والتصاريح التي تعلو صدور أعضاء الوفود الآتين من شتى بقاع العالم، فإنها أيضاً تضج بمداولات الهدن وإنهاء الحروب والأزمات، ومنها حرب اليمن التي لا يزال أوارها يشتعل، على رغم مد السعودية يد السلام للحوثيين منذ مارس (آذار) 2021.
وعندما غادرت وجوه الأمس سدة الحكم وأجمع اليمنيون في السابع من أبريل (نيسان) الماضي على رئيس جديد ومجلس قيادة رئاسي أعضاؤه من مختلف التيارات والأطياف، رفض الحوثيون الدعوة الخليجية إلى الانخراط على نحو إيجابي، وتجاهلوا تطمينات المجلس الجديد بأنه ولد للسلم لا للحرب.
وعلى رغم مرور خمسة أشهر على الهدنة ومباشرة القيادة الجديدة صلاحياتها، إلا أن الحوثيين زادوا تعقيد الوضع بحشدهم العسكري ومهاجمتهم محافظات تسيطر عليها الحكومة الشرعية، في وقت لم يترددوا عن تنظيم استعراضات عسكرية لأسلحة يقتل بها يمنيون إخوتهم اليمنيين.
وبينما لا يتردد صناع الهدنة أنفسهم في وصفها بـ "الهشة"، يزداد المشهد اليمني غموضاً وتعقيداً، فها هي الحكومة الشرعية تدعو إلى السلم، وها هو الحوثي يواصل الهجوم، وبين هذا وذاك تطل مناوشات الشمال والجنوب برأسها لتجعل فكرة الحوار مع مبعوث واشنطن إلى اليمن تيم ليندركينغ، باعتباره أقرب الدبلوماسيين الأميركيين إلى المشهد اليمني مغرية وصعبة في آن، مغرية لأنها حتماً ستتطرق إلى القضايا التي تشغل ملايين اليمنيين، وصعبة للصحافي لأنه مضطر إلى اختزال حرب الثماني سنوات في 10 دقائق، يتمسك خلالها ببضع أسئلة ويرسل ضعفها إلى مقصلة الوقت المحدود.
"اندبندنت عربية" التقت السيد ليندركينغ في مقر البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة بعيد عودته من رحلته الـ 20 إلى المنطقة، وطرحت أمامه الأسئلة الملحة فأجاب موضحاً ملامح مرحلة ما بعد الهدنة الهشة، ومندداً بخروقات الحوثيين لها، كما تطرق إلى محاور الملف اليمني التي ناقشها الرئيس الأميركي جو بايدن مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في جدة في يوليو (تموز) الماضي.
•الهدنة غير مضمونة
شدد ليندركينغ على ضرورة جمع اليمنيين تحت سقف واحد للتفاوض على تمديد الهدنة، وقال إن هذه الخطوة ستعطي "أساساً قوياً يعكس إرادة الجميع لإرساء السلام"، مؤكداً سعي الولايات المتحدة بمساعدة شركائها في المنطقة، السعودية وعمان والإمارات، إضافة إلى الحكومة اليمنية، إلى الوصول وقف إطلاق نار دائم عندما تنتهي الهدنة في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول)، وعقد محادثات سياسية بين الأطراف المتصارعة.
لكن بينما تلتزم الحكومة الشرعية بمضامين الهدنة ويخرقها الحوثيون بلا هوادة، علق المبعوث الأميركي قائلاً "إن سلوك الحوثيين خلال الأسابيع القليلة الماضية أصابنا بالإحباط، وعطل عملية دخول سفن الوقود إلى ميناء الحديدة وخلق أزمة غير ضرورية حرمت اليمنيين من فوائد الهدنة"، مشيراً إلى أن الحوثيين انخرطوا في مناوشات أدت إلى مقتل مدنيين بدلاً من فتح الطرق أمام تعز، ثالث أكبر مدينة في اليمن، وإحدى المدن التي تعاني أزمة إنسانية بسبب صعوبة تدفق السلع الأساس والمساعدات إليها.
ولا يبالغ ليندركينغ في تفاؤله حيال تمديد الهدنة، إذ لا شيء مضمون على حد تعبيره، لكنه يقول إن تمديدها كل ستة أشهر بدلاً من شهرين ممكن، على رغم أن ذلك "يتطلب التزاماً من الأطراف كافة لتحقيق تقدم في القضايا المهمة".
وفيما يعترف مبعوث بايدن بأن الهدنة غير مثالية، فإنه لا يتردد في القول إنها عادت بالنفع للشعب اليمني والمنطقة أجمع، بالنظر إلى الوضع الآن وما كان عليه الحال في الأول من أبريل الماضي، منوهاً بدورها في تقليل عدد الضحايا بنسبة 60 في المئة خلال حرب الثماني سنوات.
في المقابل، أبدى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان تشاؤمه حيال تمديد الهدنة، مشيراً إلى أن سلوك الحوثيون يرسل إشارات بأنهم "لن يقبلوا بتمديدها، وهو ما سيكون تطوراً مؤسفاً"، وقال خلال جلسة استضافها منتدى الشرق الأوسط في نيويورك الأسبوع الماضي، إن الحوثيين "قدموا قائمة لا تنتهي من المطالب التي يعلمون أن الحكومة لا يمكنها تلبيتها، بينما في الوقت نفسه لا يلتزمون بالشروط التي تفرضها الهدنة الحالية"، معتبراً "حشد الحوثيين لقواتهم العسكرية والتدفق المستمر للأسلحة من إيران إشارات غير إيجابية".
•"هذا ما كلفني به بايدن"
وجدد ليندركينغ تنديد بلاده بممارسات الحوثيين قائلاً إن الولايات المتحدة "لا تنظر إلى انتهاكات الحوثيين للهدنة بلطف، فهذا ما لم تتفق عليه الأطراف، ويعد منافياً للروح التي يحاول المجتمع الدولي غرسها".
ورداً على سؤال حول دور إدارة بايدن في تحويل المجتمع الدولي من تركيز مساعيه على إنهاء الانقلاب الحوثي إلى تخفيف الأزمة الإنسانية، أجاب "تركيزنا منصب على هدفين، وهذا ما كلفني به الرئيس كمبعوث خاص، أولاً الدفع نحو مفاوضات سياسية، وثانياً تخفيف الأزمة الإنسانية"، وهذا يتطلب بحسب المبعوث إيصال المساعدات إلى المناطق النائية وتشجيع المانحين لتوفير التمويل اللازم لليمن، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة وحدها خصصت مليار دولار هذا العام، و5 مليارات منذ اندلاع الصراع.
وكشف المبعوث الأميركي عن أمله في أن توفر الأمم المتحدة منبراً مؤثراً لرئيس مجلس القيادة الرئاسي في اليمن للتواصل مع قادة الدول وإيضاح رسالته، لكنه لم يؤكد جدولة قمة تجمع الرئيس بايدن ورئيس مجلس القيادة رشاد العليمي، قائلاً إن "جدولة مواعيد الرئيس شأن يتبع البيت الأبيض وسأحيلك إليهم".
وفي ما يتعلق برغبة الحكومة اليمنية في عقد لقاء مع بايدن على هامش قمة جدة للأمن والتنمية التي استضافتها السعودية خلال يوليو (تموز) الماضي، قال المبعوث الأميركي إن "الطرفين أرادا عقد هذا الاجتماع في جدة لكن كانت هناك مشكلات في الجدولة"، مضيفاً "أنا واثق من أن هذا الاجتماع سيعقد، ولا أعرف ما إذا كان سيحدث في ضوء الجدول المزدحم حالياً للطرفين، لكننا مصممون وملتزمون بعقد ذلك الاجتماع".
•سياسة اليمن الواحد
وعن موقف الولايات المتحدة من الانفصاليين في الجنوب وما إذا كانت الولايات المتحدة تدعم سياسة "اليمن الواحد" على غرار "الصين الواحدة"، قال ليندركينغ "نعتقد أن اليمنيين يجب أن يتخذوا قراراتهم الخاصة في شأن مستقبل بلدهم بما في ذلك هذه القضية، وما نود رؤيته الآن على وجه السرعة أن يوحد مجلس القيادة الرئاسي صفوفه ويدعم الشعب اليمني بشكل ملموس ويؤمن الدعم من المنطقة، ولذلك نعتبر زيارة الرئيس العليمي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وسيلة مؤثرة لتلقي الدعم منا ومن المنطقة".
وسألت ليندركينغ "الوحدة تهمكم الآن، أما لاحقاً فلا تعنيكم"؟
فأجاب المبعوث الأميركي على سؤال "اندبندنت عربية" قائلاً "ما أعنيه أن قرار الوحدة من عدمه لا يمكن أن يتخذ بالنيابة عن اليمن، والأمر متروك لليمنيين". وأضاف، "عدا ذلك فإن المؤسف هو عندما تكون هناك بعض الحركات المثيرة للانقسام التي تعطل مسار الهدنة، وأعتقد أن الأحداث التي وقعت في شبوة والجنوب خلال الأسابيع الستة الماضية مربكة للهدنة، ولدينا مخاوف ونراقب الأوضاع بشكل يومي".
وفي سياق توحيد جبهات الحكومة الشرعية أكد المبعوث أنه يعمل مع السعودية والإمارات للحد من هذه الخلافات، وقال "قمت بثلاث رحلات إلى المنطقة منذ أن زار الرئيس بايدن السعودية، وكان تركيزها على وحدة مجلس القيادة الرئاسي وضمان دعم الأطراف الإقليمية لوحدة وسلامة أراضي اليمن، وتجنب المشكلات التي تقوض الهدنة".
ويذكر أن ليندركينغ طار إلى جدة بعد ثلاثة أيام من هذه المقابلة، حيث التقى ولي العهد السعودي رفقة منسق شؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك ومستشار أمن الطاقة الأميركي آموس هوكستين.
•رسالة أميركية إلى الحوثيين
وتطرق ليندركينغ إلى مواصلة الحوثيين احتجاز موظفي السفارة الأميركية في صنعاء قائلاً، "لقد شعرت بالحزن وإحباط كبير إثر هذا العمل غير الضروري وغير المبرر"، مشيراً إلى أن الحوثيين لم يقدموا حتى الآن أي تفسير لسبب احتجازهم، ومضيفاً أن "أحدهم فارق الحياة بعد أشهر من منعه من التواصل مع عائلته وهذا مؤسف، وليس سلوك طرف يحاول أن يظهر للمجتمع الدولي أنه يمثل أي مستقبل لليمن، ولذلك نود أن نرى الحوثيين يطلقون هؤلاء الأفراد سالمين فوراً".
إلا أن المبعوث الأميركي لفت أيضاً إلى رؤيته، الحوثيون يتصرفون على نحو أفضل في أوقات متفرقة منذ تعيينه، في إشارة إلى "تأييدهم الهدنة وإعلانهم على الملأ ترحيبهم بها"، لكنه لا يزال ينتظر منهم أن يلتزموا شروط الهدنة حتى يمكن تمديدها وتوسيع نطاقها بحلول الثاني من أكتوبر، مؤكداً أن بلاده تأمل في زيادة الرحلات الجوية والتجارية وإحراز مزيد من التهدئة على الصعيد العسكري، إضافة إلى التقدم في تسليم رواتب المعلمين والأطباء وموظفي الخدمة المدنية الذين لم يتسلموها منذ سنوات".
•دعم الشرعية عسكرياً
وعن مجريات اجتماع الرئيس بايدن وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في جدة، قال إن الجانبين تحدثا عن أهمية تمديد الهدنة ودعم دول الإقليم لها، وأهمية الدعم الاقتصادي من السعودية والإمارات لمجلس القيادة الرئاسي والوفاء بالتعهدات التي قطعوها في أبريل، إضافة إلى الوضع الإنساني.
ورداً على سؤال عما إذا كان للجيش الأميركي وجود في اليمن، أجاب المبعوث الأميركي بأن "لدى الولايات المتحدة مدربين وبرامج تدريب في السعودية"، قبل أن يستدرك سائلاً "هل قلت السعودية أم اليمن؟ أوه اليمن، لم تقل السعودية، لا نملك وجوداً عسكرياً منتظماً في اليمن، وكما تعلم فقد سحب دبلوماسيونا عندما استولى الحوثيون على صنعاء، ولكن إذا كنت تريد أن تسأل عن الجيش الأميركي فأقترح أن تتحدث إلى وزارة الدفاع".
ولدى سؤاله عما إذا كانت الولايات المتحدة ستدعم الحكومة اليمنية عسكرياً قال، "هذه الأمور قيد المناقشة بالفعل"، مستطرداً "الحكومة اليمنية شريك وطرف مهم في مكافحة الجماعات الإرهابية، ولذلك نريد أن نكون داعمين بالكامل للحكومة اليمنية".
وتحدث ليندركينغ عن إيران وعما إذا كان قلقاً من الإفراج عن الأصول الإيرانية المجمدة فيما لو توصل زميله روبرت مالي إلى صفقة مع الإيرانيين، وقال إن "ما رأيناه في اليمن على مر السنين هو دور إيراني سلبي جداً يؤجج الصراع بتهريب الأسلحة في انتهاك لحظر السلاح من قبل الولايات المتحدة".
وفيما نوه المبعوث بترحيب طهران أخيراً بإعلانات الهدنة إلا أنه قال إن بلاده تود أن ترى "ما إذا كان الإيرانيون سيترجمون كلماتهم إلى أفعال عبر دعم العملية السياسية في الواقع، بدلاً من مجرد القول إن العملية السياسية ستكون أمراً رائعاً".