فن: على ماذا تأسس اللون الغنائي التعزي بخصوصيته "الحُجرية"؟
يمن فيوتشر - خيوط- محمد عبدالوهاب الشيباني الخميس, 26 مايو, 2022 - 09:44 مساءً
فن: على ماذا تأسس اللون الغنائي التعزي بخصوصيته

منذ المقاربات الباكرة(1) لموضوع ألوان الغناء في اليمن بقي اللونان التعزي والتهامي خارج حسابات القراءات المعنية بهذا الجانب، وظل التركيز في الكثير من الدراسات على ألوان الغناء (الصنعاني والحضرمي واللحجي واليافعي) دون غيرها من الألوان، بما فيها اللون (العدني) الذي بقي هو الآخر من وجه النظر ذاتها لونًا هجينًا، تأسس على فوائض ألحان الغناء المصري والهندي والخارجة من أغاني الأفلام التي كانت تعرضها (سينمات) المدينة منذ منتصف الأربعينيات، حين كانت عدن المنارة المضيئة الوحيدة في منطقة شاسعة متخلفة ومعزولة.  
صحيح أنّ الإنشاد في تهامة سجل حضورًا في واحدة من زوايا الاستماع الشعبي الرائج في الموالد والمناسبات، خصوصًا ما ينسب للشاعر والملحن الصوفي جابر رزق، وصار لاحقًا لعدن حضورها الخاص بمساهمات الموسيقيين والمطربين الرواد الأوائل، أمثال خليل محمد خليل، ومحمد مرشد ناجي، وأحمد قاسم، ويحيى مكي، وسالم بامدهف، ومحمد سعد عبدالله وغيرهم، ولن يصير لتعز خصوصيتها القوية كلون غنائي مكتمل في اليمن إلَّا ببروز ثنائية الفضول وأيوب طارش، وتاليًا د.سلطان الصريمي ومحمد الفتيح مع عبدالباسط عبسي، ابتداء من أوائل السبعينيات؛ لكن قبل ذلك يمكن القول إن هناك تأسيسات مهمة لهذا اللون، ابتدأت مع أواخر خمسينيات القرن الماضي مع قصائد الدكتور سعيد الشيباني، التي وجدت طريقها إلى أصوات مطربين ذائعين في ذلك الوقت مثل المرشدي الذي غنَّى رائعته (يا نجم يا سامر) ويا (طير يا رمادي)، ثم أعقبه الفنان فرسان خليفة بتلحين وأداء مجموعة من القصائد، منها: "طير الحمام"، و"ريح الشروق"، و"ياخي الصغير"، وغيرها، ليصل تعاونه إلى صوت ثالث، وهو الفنان أحمد بن أحمد قاسم في عديد من النصوص، منها: "من العدين يالله"، و"حقول البن"، و"اليوم والله واليوم دائم".
في ذات الفترة أو بعدها بقليل، سيلمع اسم شاعر ثانٍ كتب بذات اللون وتعامل مع ذات المطربين، وأعني هنا الشاعر عبدالله سلام ناجي، الذي صار بعد ذلك أحد أساطين الكتابة بهذه اللهجة، وأبرز المؤثرين في لاحقيه من الشعراء الذين كتبوا بهذا اللون. 
إلى جانب الشاعرين الشيباني وسلام، يمكن تسمية شاعر ثالث ظهر في تلك الفترة هو عبده عثمان محمد الزبيري، وكتب بعض النصوص الغنائية بلهجة ريف الحجرية وجدت أيضًا طريقها إلى أصوات المطربين إسكندر ثابت وأحمد بن أحمد قاسم، ولا يمكن بحال من الأحوال إغفال اسم شاعر رابع ظهر في ذات فترة تكوين الشعراء الثلاثة وبذات الحاضنة الثقافية (عدن والقاهرة)، ونعني الشاعر الرائد أحمد غالب الجابري الذي غنى له أيضًا المرشدي وقاسم في ذات الفترة.
التقاربات الكثيرة بين الشاعرين الشيباني وسلام، ساهمت في جعلهما يشتركان في التأسيس الباكر لهذا اللون؛ فمولدهما في العام نفسه (1939م)، وفي مناطق قريبة من مركز الحجرية التاريخي، ثم هجرتهما إلى عدن في فترة متقاربة، يضاف إلى ذلك إقامتهما في ذات المنطقة (مدينة التواهي)، ودراستهما في المدرسة (الأهلية)، ثم مغادرتهما إلى مصر للدراسة في أواسط الخمسينيات، وانتهاؤهما إلى التعاون المبكر مع نفس الفنانين أيضًا؛ المرشدي وفرسان خليفة. 
احتاج هذا اللون إلى سنوات إضافية حتى يثبت في الخارطة، حينما صار له مطربوه الخارجون من ذات البنية، بعد أن اتكأ في بداية الأمر على مطربين ينتسبون لمدينة عدن في الغالب، وهي المدينة التي تكوّن فيها الشعراء المؤسسون لهذا اللون الذي بدأ يظهر ككلمات ملحنة بأصوات الفنانين المرشدي وفرسان خليفة وإسكندر ثابت، وأحمد قاسم كما عرضنا، فالأول غنّى قصيدة الشيباني ذائعة الصيت (يا نجم يا سامر)، التي كانت بمثابة المدماك المؤسس لهذا اللون:
«يا نجم يا سامر، سامر فوق (المصَّله) كُل من معه محبوب وانا لي الله/ والأخضري من العدين بكر مشدَّته بيضاء ومشقره أخضر/ فرحي أنا فرح الذري بمبكر/ فرح الشجر ساعة نزول الامطار/ هجرتني والقلب غير سالي كل السبب عساكر الحلالي/ بكر من التربة غبش يلالي بيده (سبيل) بجيبه أمر عالي»، وقبل أن يغني له قصيدته الثورية الرائدة (يا طير يا رمادي):
«بالله عليك يا طير يا رمادي/ تفرد جناح تردني بلادي/ خلف البحار ما حد درى بما بي/ ضاع الشباب وأنا على عذابي/ جنيت أنا يا رب وطار صوابي/ على الشقى أنا كتب كتابي/ من أربعين من السنين وأكثر/ أنا هنا من قريتي مزفر/ قلبي قنع رضي بما تقدر/ لا عاد شكى همه ولا تحسر/ صوت المذيع بكر يدق بابي/ مثل الصباح أعاد لي شبابي/ يعلن على الدنيا على الروابي/ شرع السماء وحكمنا النيابي/ أنا فدى صنعاء فدى بلادي/ فدى حقول البن في وسط وادي/ أنا فدى (السلال) بكر ينادي/ من (الحسن) و(البدر) حرر بلادي»، التي قال عنها المرشدي في كتابه (أغنيات وحكايات) أنه في الأيام الأولى للثورة قام بتلحين القصيدة وغناها في مقيل شعبي في الشيخ وقام بتسجيلها، وكان الكورس من أصدقائه في المقيل، ثم أرسلها لإذاعة صنعاء، التي بدأت ببثها بشكل متواصل، لتتحول إلى واحدة من أيقونات سبتمبر. 
وغنّى فرسان خليفة قصيدة عبدالله سلام ناجي (نجم الصباح) أو المعروفة بعنوان (كم شغني) في فترة قريبة والتي تقول كلماتها: «نجم الصباح بكّر سحار يلالي/ ليته فهيم يدري بما جرى لحالي/ خِلي يا ناس من شخبره بحالي/ صبري خلص وأنا أسهر الليالي/ غائب سنين قالوا السنة وصوله/ الله يصيب من كان سبب رحيله»، وغنى له قصيدة الدودحية: «غدّر عليَّ بوادي الدودحي/ ورده فراجم وغصنه مستحي/ والنجم سامر بوادي الدودحي/ ومنك تصدع قليبه ما يحي».
وغنّى إسكندر ثابت قصيدة عبدالله سلام ناجي (بين السبول)(2)، والتي تقول بعض كلماتها: "بين السبول رأيتُ قبول/ مثل القمر بين الغمام/ والزهر يضحك والبتول/ غنى بألحان الغرام/ تمشي كما يمشي الغمام/ والورد في صحن الخدود/ والثغر بلون المدام/ ينضح بألوان الورود». وإن أغنيتي سلام بين السبول ونجم الصباح، وعلى مدى عقود طويلة، صارتا من أغاني الصباح المعروفة التي يتفاعل معها اليمنيون، لما تحملانه من شجن عالٍ ودفء لا يبارى.
 إسكندر ثابت لحَّن وأدى كلمات عبده عثمان "يا بدر يا عديني" التي تضاف إلى أغاني الصباح الأثيرة عند اليمنيين:
"يا بدر يا عديني، جننتني وشليت شليت نوم عيني/ من الصباح لونك والسحر في جفونك مكتوب على الجفونِ/ فجري معك أسرته والليل أنا سهرته وحدي مع شجوني".
وللشاعر عبده عثمان أيضًا لحن، وغنَّى أحمد قاسم قصيدته الذائعة: "يا حلو يا أخضر اللون، من أمس أنا بحلم وانستنا ذا اليوم/ يا محسن السمرة واحد لواحد، لموا الصدور وطروحوا السواعد/ والعين وسط العين تقرأ القصائد".
مثلما غنى أيضًا لسعيد الشيباني مجموعة من النصوص، منها: »«حقول البن في خديك موال جميل/ تركت المال والنعمة ولك وحدك أميل/ ولك وحدك بدا حبي ولك وحدك سمى قلبي/ دليل حبك الصافي ولا غيره بديل»، وإن كانت في هندسة كلماتها تتجاوز الخصوصية الحجرية وتحلق في الفضاء العدني، بعد أن منحها الموسيقار قاسم روحًا خالدة. تمامًا مثل قصيدة عبده عثمان، سالفة الذكر.
وأيضًا قصيدة "من العدين يالله بريح جلاَّب/ وإلاَّ سحاب تندي علوم الأحباب/ الناس رقود وأنا الفراش يجول بي/ قلبي احترق لمُو العذاب يا ربي/ ولا لقيت أهلي ولا محبي/ ريح الصِّبا بالله عليك تهبي)"، وانتهاء بقصيدة "اليوم والله واليوم دائم/ قاصربوا الدخن والذُّرَّة قائم/ يا فرحتي اليوم نحو التهائم/ كفرحة الجيش بين الغنائم". 
الشاعر أحمد الجابري له إسهاماته الكبيرة في تأسيس هذا اللون بقصائده المتعددة التي لحنها وغنّاها المطربان المرشدي وأحمد قاسم، فالأول لحن وغني قصيدته "أخضر جهيش مليان حلا عُديني/ بكَّر غبش شفته الصباح بعيني/ يملي الجرار ريق الندى رحيقه/ يروي ضما من ضاع علُه طريقه/ يا ليتنا ظله شسير خلاله/ عند الطريق شا تخبره لحاله/ قلبي كُرِب وزاد من كُريبه/ كيف يصطبر والناس تشوف حبيبه/ لا هو قدر ولا وصل رسوله/ يعطي الجواب كيف الهوى قولوا له".
والثاني لحن وغنَّى له: "عدن عدن يا ريت عدن مسير يوم/ شا سير بو ليله ما شرقد النوم/ اشتقت أنا كم لي سنين وشاصبِر/ من يوم سرح قلبي أنا ماشقدِر/ مرَّ الغمام قالوا عدن قباله/ لو به جناح شاطير أشوف خياله/ طير الحمام تبكي بنار عذابه/ فوق الجبال تسال عن غيابه/ وجه المليح طلعة قمر على الجاح/ يضوي الصباح من طلعته ويرتاح/ محلى السمر بالليل وعود أخضر/ إن قد نسى قل له لمو تأخر".
طبيعة الموضوع الريفي وكل ما يرتبط بالأرض والهجرة والحنين هي مشغلات حيوية في بنية النصوص التي كتبت عشية التحول السياسي الذي شهدته البلاد في سبتمبر 1962م، وصارت تاليًا وجهًا من أوجه تبشيراته، وغدا هذا اللون مع الوقت يمثل خصوصية ثقافية لواحدة من مناطق اليمن التي لعب أبناؤها أدورًا حية في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في اليمن الكبير منذ أربعينيات القرن الماضي. 
لكن تبقى مدينة عدن هي الحاضنة الأهم في بروزه كلون حيوي، فالشعراء مرُّوا عليها ومنحتهم دفئها، أما المطربون فهم أبناؤها الأفذاذ، الذين أعادوا صياغة وجدان اليمنيين بأغانيهم الرائدة.
_____________________________
(1) يبقى كتاب محمد مرشد ناجي (أغانينا الشعبية) الصادر بعدن في العام 1959م، أول مساهمة علمية في هذا الجانب- انظر الطبعة الثانية الصادرة بمركز عبادي – صنعاء 1998م.
(2) هذه القصيدة تذهب كل الترجيحات إلى أن ابن سلام هو من كتبها حينما كان طالبًا في القاهرة، وقت كان ثابت مقيمًا فيها أواخر الخمسينيات، وهناك من يظن أن الشاعر عبده عثمان محمد هو صاحبها. أما الفنان نجيب سعيد ثابت ينسبها للمطرب نفسه (عمه إسكندر ثابت)، لكنها تبقى واحدة من القصائد الخالدة المؤسسة لهذا اللون.


التعليقات