[ لطفي الهاشمي، حفيد المالك الأصلي لسينما هريكن في عدن، يقف في الطابق العلوي من المسرح المتهاوي حاليًّا. 4 مايو/أيار 2021. الصورة لمركز صنعاء. التقطها أحمد وقاص. ]
تعتبر عدن نقطة التقاء ثقافي وتجاري وموطن ميناء عالمي يربط بين الشرق والغرب. خليج عدن الذي يربط البحر الأحمر ببحر العرب أدى إلى ازدهار التجارة وتوافد الناس إلى المدينة وحولها إلى مركز عالمي. لعبت المدينة دوراً بارزاً خلال معظم القرن العشرين، وأبرز ما شهدته على مستوى الثقافة كان ازدهار السينما في اليمن وشبه الجزيرة العربية.
أفضت التكنولوجيا الحديثة والمشاكل السياسية في البلاد إلى اندثار دور السينما. بلغ عدد دور السينما في عدن أكثر من أربعين دار عرض في أوج ازدهارها، مطلع التسعينات، ولكن ليس هناك أي صالة سينما عاملة في المدينة حالياً. ومع الأسف، يبدو احتمال إعادة إحياء هذه الثقافة ضئيلاً للغاية اليوم.
• وصول الأفلام إلى عدن
احتلت بريطانيا عدن عام 1839، بهدف تأمين خطوط الاتصال والتجارة مع الهند، وانسحبت منها عام 1967. وبالرغم من أن هذا الاحتلال شمل السيطرة على الموارد، إلا أنه حمل معه العديد من أوجه النهضة الثقافية والتجارية. عرفت عدن السينما خلال هذه الفترة، لتزدهر لاحقاً وتصبح السينما أحد معالم المدينة.
عرفت عدن العروض السينمائية لأول مرة عام 1910 عندما كانت سلطات الاستعمار البريطاني تعرض الأفلام الصامتة باللونين الأبيض والأسود لجنودها في منطقة كريتر وللعاملين البريطانيين في السلك الدبلوماسي والمدني وأبناء عدن العاملين في المحميات البريطانية في جنوب اليمن.[1] وبعدها بدأت الأفلام تعرض في مختلف أرجاء المدينة.
شهدت منطقة كريتر أول عرض سينمائي محلي عام 1910 بفضل محمـد حمود الهاشمي، الملقب بمستر حمود، الذي بدأ بعرض أفلام شارلي شابلن الصامتة في الساحات أو الهنجرات الصغيرة. كما أقام عروضا متنقلة عرض خلالها الأفلام الصامتة في منطقة التواهي في الصالات والمواقع المتوفرة مثل مواقف السيارات والساحات.[2] كما عرض عبد العزيز خان الأفلام في ساحة قرب مقهى زكو، في مدينة عدن القديمة.[3]
بنى نجل محمد الهاشمي، طه حمود، المعروف باسم “ملك السينما”، أول دار عرض سينما في المدينة في الثلاثينيات في كريتر، قرب حي الميدان. أطلق عليها اسم سينما هريكن (Hurricane)، وجاءت هذه التسمية على اسم الطائرة المقاتلة البريطانية من طراز هريكن.[4] بلغت مساحة السينما الأولية حوالي 600 متر مربع، وضاعف طه مساحتها عام 1942.[5]
بالإضافة إلى هريكن، أنشأ طه حمود دور سينما أخرى منذ هذه الفترة حتى الخمسينيات: سينما الجديدة في التواهي، وسينما راديو في المعلا، وسينما الشرقية في الشيخ عثمان.[6] وعمل موزعاً لعدد من الأفلام لكبريات شركات الإنتاج وعدد من النجوم.
وبحلول عام 1972، ارتفع عدد صالات العرض السينمائي في عدن إلى 10 صالات. وبالإضافة إلى الأربعة التي يمتلكها طه حمود، كان هناك: السينما الأهلية أو سينما البادري لـ “حسين إسماعيل خدابخش” في كريتر، وسينما البنيان أو برافين في كريتر، وسينما بلقيس لـ “جعفر مرزا”، وسينما ريجل أو شاهيناز لـ “مستر حق” في خور مكسر والسينما الشعبية لـ “عبده عبد القادر” في الشيخ عثمان، وسينما دار سعد وسينما البريقة في مديرية البريقة المجاورة (أو عدن الصغرى). وبحلول الوحدة عام 1990، ارتفع عدد دور العرض ليصل إلى حوالي 40،[7] مقارنة بتسع دور سينما فقط في صنعاء التي افتتح فيها أول صالة سينما عام 1959.
• ازدهار السينما في عدن
كانت عروض الأفلام متوفرة في الكثير من المديريات في محافظة عدن، وتنافست دور العرض السينمائي في عرض أفضل الأفلام. ركزت سينما هِريكن والسينما الأهلية على عرض الأفلام العربية، بينما ركزت سينما البريقة وسينما ريجل – ولاحقاً سينما بلقيس – على عرض الأفلام الغربية. وتفردت سينما شاهيناز في عرض أفلام شارلي شابلن. أما سينما بلقيس وسينما البنيان فقد تخصصتا في عرض أفضل الأفلام الهندية.[9]
خلال السنوات الذهبية في السينما المصرية (من الأربعينيات وحتى الستينيات)، كانت الأفلام التي تعرض في القاهرة تعرض في عدن في نفس الوقت، وكانت قيمة التذكرة في عدن أعلى من قيمتها في مصر.[10] كانت أفلام فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب تعرض في عدن. وكان مستر حمود يملك حقوق عرض أفلام الممثل المصري فريد شوقي إذ كانت تعرض أفلامه في سينما هريكن فقط بموجب اتفاق نشرته حينذاك الصحف. بينما احتكر خدابخش، مالك سينما الأهلية، أفلام الفنان والموسيقار المصري فريد الأطرش بموجب عقد أبرم معه. زار الاطرش عدن في منتصف الخمسينيات بناءً على دعوة من خدابخش.[11]
ومن أبرز الأفلام التي عرضت في دور السينما في الخمسينيات والستينيات في عدن فيلم أم الهند، فيلم الإجازة الصيفية (صدر عام 1963) بطولة كليف ريتشارد، نوسفيراتو: سيمفونية الرعب (صدر عام 1922)، أفلام روبن هود، أفلام عيون الليل، وحبي في القاهرة الذي صدر عام 1966 ومثّل بطولته المطرب اليمني العدني الراحل أحمد بن أحمد قاسم مع النجمة المصرية زيزي البدراوي، وهو أول فيلم من بطولة وإنتاج يمني.
كما عرضت دور السينما مقتطفات تعرف بـ “الجريدة المصورة” قبل بدء الفيلم لإخبار العدنيين بآخر التطورات، مثل أخبار القومية العربية خلال حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر. كما عرضت إعلانات للمحال التجارية بعدن ولقطات رياضية لمحمد علي كلاي ومن أفلام الكرتون “ناقر الخشب”.
وبحسب الكاتب عبد القادر باراس، عرضت بعض الأفلام من دون مقابل لكي يتمكن من لا يستطيع تحمل كلفة تذاكر السينما من مشاهدة الأفلام. وقال باراس: “بادر المجلس البلدي إلى إقامة عروض سينمائية متجولة بواسطة سيارة متنقلة تجوب الأحياء الشعبية لتعرض الأفلام الصامتة الأجنبية وتعرض أيضا مقتطفات لرواد الفضاء. وكانت السينما المتنقلة تعرض الأفلام على جدران المنازل وسط ترحيب الأهالي بهذه البادرة”.[12]
وفي ذلك الوقت، في منتصف القرن العشرين، كانت دور السينما تراعي التقاليد الاجتماعية فيما يتعلق بحياء المرأة. خصصت عروض للنساء فقط في يوم محدد من الأسبوع بناءً على طلب المواطنين، ولكن من الجدير بالذكر أن اختلاط الجنسين لم يكن مشكلة إذ كان النساء والرجال يحضرون بعض الأفلام في الصالة نفسها. كما استخدمت السينما لخدمة أهداف تعليمية إذ عرضت بعض الأفلام للطلاب فقط، حسبما قال عبد الله مقبل، موظف سابق في سينما المعلا المغلقة حالياً.[13]
• المؤسسة العامة للسينما: ما بين النهوض والقيود
بين عامي 1967 و1990 كانت المحافظات الجنوبية لليمن اليوم – بما فيها عدن – تشكل دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي)، وهي دولة ذات نظام حكم اشتراكي-شيوعي. في بادئ الأمر، بعد تشكيل حكومة الاستقلال الأولى، كان ملاك السينما يدفعون ضرائب لها لتأسيس المؤسسة العامة للسينما والمسرح. كان ملاك السينما يأملون أن المؤسسة ستدعم وتعزز دور السينما، ولكن عام 1969، صدر قانون المؤسسة الاقتصادية للقطاع العام والتخطيط القومي (قانون رقم 37)، ونص على تأميم دور السينما، ضمن في اليمن الجنوبي ليطبق في 20 ديسمبر/كانون الأول 1970،[14] وبالتالي أصبحت دور السينما ملكا الدولة وكانت تديرها المؤسسة العامة للسينما والمسرح.[15]
• صدم القرار ملاك السينما. سيطرت المؤسسة بالكامل على عمل دور السينما وإبرام العقود مع شركات إنتاج الأفلام حول العالم. وخلال هذه السنوات من الحكم الشيوعي في جنوب اليمن، كانت دور السينما في عدن تعرض في بعض الأحيان لقطات عن لينين والإيديولوجية الاشتراكية العالمية قبل عرض الأفلام.
أثار قانون التأميم جدلا كونه سلب رؤوس الأموال ودمر القطاع الخاص والتنافس التجاري. وبحسب القانون رقم (37)، أصبحت سينما هريكن بكل محتوياتها وعقود العمل مع شركات الإنتاج والتوزيع ملكا الدولة.
وقال حفيد مستر حمود، لطفي طه محمد حمود الهاشمي الذي يمتلك سينما هريكن حالياً، لمركز صنعاء:” عندما قاموا بتأميم سينما هريكن، كان لدينا 850 فيلم بالإضافة إلى معدات وعقود مع شركات أفلام كانت قادمة لعدن. وكنا نقتطع 10% من دخلنا لأجل المؤسسة العامة للسينما، ولكنهم بعد ذلك أمموا السينما وصادروا كل شي. هذا كان حقدا وليس تأميم”.[16]
رغم أن قانون التأميم كان قاسيا على مالكي السينما، لكن الدولة لم تتوقف عن دعم هذا القطاع. ازدادت أعداد عروض الأفلام، كما أبرمت اتفاقيات مع شركات الإنتاج العربية والعالمية. وكان الجميع يرتاد السينما، حتى أنه يحكى أن الرئيس سالم ربيع (سالمين) كان يقف مع الآخرين في الصف لشراء التذاكر.
ولكن، واجهت السينما في عدن قيوداً عند عرض بعض الأفلام خاصة تلك التي تمس مواضيع أو قضايا أو شخصيات ذات صلة بالقومية والثورة العربية، والإيديولوجية الاشتراكية العالمية. خضعت كل دور السينما للرقابة، وشكلت لجنة إدارة الرقابة والمصنفات لهذا الهدف. وبدلاً من حذف مشاهد معينة من الأفلام (عملية معقدة تحتاج لمعدات مونتاج)، كان يمنع عرض بعض الأفلام المثيرة للجدل بشكل كامل، إلا أن تلك الرقابة لم تكن مشددة بنفس القدر في جميع الأوقات.
أثار فيلم العصفور، الذي صدر عام 1972، غضبا في أرجاء العالم العربي ولكنه عرض في عدن في بعد نقاش طويل. يتحدث الفيلم (كتابة وإنتاج وإخراج يوسف شاهين)، عن هزيمة مصر وسوريا والأردن في حرب 1967، واعتبر إهانة للقومية العربية وبالتالي منع عرضه في الكثير من البلدان العربية. اعترضت إدارة الرقابة والمصنفات في المؤسسة العامة للسينما في عدن على عرض الفيلم، ولكن تدخل رئيس اليمن الديمقراطية الشعبية عبد الفتاح إسماعيل وسمح بعرض الفيلم.
وزار عدن آنذاك ابطال الفيلم صلاح قابيل وسميحة أيوب والمونتيرة رشيدة عبد السلام، وأقيم مهرجان للفيلم في سينما بلقيس، وجلس قابيل في الصف الأول.[17]
• التحديات التي مرت بها السينما في عدن
واجهت دور السينما في عدن الكثير من التحديات في وقت لاحق من القرن العشرين ما أعاق قدرتها على الاستمرار بالعمل. كان أحد هذه التحديات ناتجاً عن قانون التأميم. ومع أن الدولة دعمت دور السينما، إلا أن الاستحواذ عليها من قبل الدولة قوض ملاك دور السينما ودمر رأس مالهم. خاصة وقد استحوذت أيضا على كل أرشيفهم من الأفلام والمعدات.
وخلال منتصف الثمانينيات، سمح للأطفال بمرافقة أهلهم إلى دور السينما، ما خلق جوا لم يرق لمرتادي السينما نظراً للإزعاج الذي تسبب به الأطفال خلال عرض الأفلام. بالإضافة إلى أن بعض الأفلام كانت تعتبر غير ملائمة للمشاهدة العائلية. كما أن عدم الاستقرار السياسي حينها، والذي بلغ ذروته باندلاع الحرب الأهلية في الجنوب عام 1986، جعل العائلات مترددة في الذهاب إلى السينما.[18]
• بعد الوحدة
توحد شمال اليمن وجنوبه عام 1990، وألغي قانون التأميم. غير أن هذا لم ينه التحديات التي تواجهها السينما في عدن، فقد أعادت حكومة اليمن الموحد مباني السينما إلى الملاك دون منحهم أي دعم مادي أو تقني. كما لم يُمنحوا أي ميزانيات تشغيلية أو تعويضات بسبب الاستيلاء على دورهم. وطالبتهم الدولة أيضاً بدفع الضرائب قبل حتى أن يستأنفوا عملهم. ويبدو أن هذه الخطوة كانت تهدف إلى دفع الملاك للتخلي عن دور السينما لصالح بعض المتنفذين.
وقال لطفي الهاشمي: “في الأسبوع الأول لاستلامنا دار السينما أنا ووالدي، فوجئنا بقدوم ثلاثة موظفين من مصلحة الضرائب، وأتذكر كيف شرح لهم والدي قائلا إنه لم يمض أسبوع واحد منذ استلامنا للسينما التي صودرت منذ ( ثلاثين عاما ونحن لم نجن أي دخل! (وسألهم) ماذا تريدون؟ (وقالوا) أنهم يريدون منا إعداد تقرير شهري بعدد التذاكر المباعة، ودفع 30% من دخلنا لمصلحة ضرائب الدخل والواجبات”.[19]
عندما ذهب لطفي ووالده لاستلام دار السينما عام 1995، خاطب المسؤولون المحليون والده بسخرية قائلين: “ما زلت على قيد الحياة؟” وقالوا له أنهم كانوا يتوقعون رؤية شاب أصغر سنا بكثير قادم على الأرجح من خارج اليمن. وبحسب لطفي، وضع المسؤولون سلسلة من الإجراءات البيروقراطية المتعبة التي تهدف إلى جعل من يذهب لاسترداد أملاكه من دور السينما يشعر باليأس ويتخلى عنها في نهاية المطاف.[20]
قدم لطفي عام 2007 شكوى مكتوبة حول هذه المعاملة إلى رئيس الجمهورية آنذاك علي عبد الله صالح.[21]
عانى ملاك دور السينما الذين تمسكوا بعملهم إذ كانت التكاليف التشغيلية مرتفعة للغاية، وبلغ سعر شراء الأفلام لعرضها الآلاف من الدولارات. لكن مستوى الدخل والمعيشة للمواطنين تدنى بعد الوحدة، ولم يكن هناك أي دعم من لدور السينما. ونظراً لانخفاض عدد مرتادي السينما، لم تعرض الأفلام سوى مرتين في الأسبوع، وبالتالي، لم تكن العوائد كافية لتغطية التكاليف.
همشت السلطات الجديدة قطاع السينما خاصة بعد الحرب الأهلية عام 1994. كما لعب تفشي الفساد المالي والإداري دورا هاماً في تدهور قطاع السينما في اليمن بشكل عام وبعدن تحديداً خلال هذه الفترة، وأغلقت الكثير من دور العرض أبوابها في التسعينيات.
وقال عارف ناجي، ناشط مدني ومدير قاعة التاج للأفراح، والتي كانت سابقاً سينما التواهي، أن سبب إغلاق كثير من دور العرض السينمائي يعود ذلك إلى “غياب دور الحكومة في الاهتمام بهذا القطاع الفني والثقافي، ومحاولات الاستيلاء على بعض دور السينما”.[22]
ونتيجة لغياب دعم الدولة واليأس الذي تملك أصحاب دور السينما، قام بعض الملاك بتحويل دورهم لمسارح لتقديم العروض الترفيهية الحية، أو قاعات لحفلات الأعراس (مثل سينما التواهي) أو ببيعها لتهدم لاحقاً. استمرت سينما هريكن بعرض الأفلام بشكل طفيف حتى العام 2010. وبحسب مالكها، كان كبار السن، من الذين شهدوا العصر الذهبي للسينما في عدن، يطلبون منه في آخر هذه الفترة فتح السينما وعرض بعض الأفلام. تناقص عدد هؤلاء الرواد مع الوقت إذ توفي البعض بينما لم يكن بوسع البعض الآخر الخروج من المنزل نظراً لكبر سنهم، فتوقف لطفي عن عرض الأفلام. ومن بعدها، استخدمت سينما هريكن لإقامة فعاليات وعرض مسرحيات بين الفينة والأخرى حتى اندلعت الحرب الجارية.
• خراب الحرب
تدهور وضع دور السينما أكثر في عدن خلال الحرب الحالية وأصبحت الكثير من مباني دور السينما في حالة سيئة. وجه غياب الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وعدم اهتمام سلطات الأمر الواقع ضربة قاضية لهذا القطاع الذي عانى من انعدام الأمن وعدم توفر الخدمات. كما شكل ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني وأزمة الكهرباء عائقا أمام الملاك لتشغيل دور السينما. تردد ملاك دور السينما في المدينة بشأن تشغيل دورهم نتيجة تزايد التوترات الاجتماعية، وتدهور الوضع الاقتصادي، والنهج الذي تبنته السلطات.
وقال لطفي: “عندما لم يسمح لبعض الأشخاص بالدخول بدون شراء تذكرة، كان البلاطجة يرمون أشياء إلى داخل السينما. وعندما يصاب شخص ما، كانت تأتي الشرطة وتبحث عن صاحب السينما، وعندما أخبرهم أني مبرم عقد بيني وبين مستأجر ما يقيم فعالية في السينما – مسرحية مثلا – والمستأجر هو من يتحمل تأمينها، يرفضون ذلك ويقولون: ‘أنت مالك السينما، (وانت) المسؤول’. ولذلك اضطررتُ إلى إقفال السينما في نهاية المطاف”. تم الإغلاق قبل اندلاع الصراع المسلح الحالي بفترة.
حاول ذات مرة مسؤول في وزارة الثقافة في الحكومة المعترف بها دولياً إقناع لطفي بإعادة فتح سينما هريكن: “شرحت له أنه لا مغزى من ذلك، كوني كنت أخسر أكثر مما أربح”. وفضلاً عن الخسائر المادية، تواجه إدارة العمل في السينما الكثير من العوائق.
زعمت وزارة الثقافة في الحكومة المعترف بها دولياً في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2019 أنها رممت سينما هريكن في عدن، الأمر الذي نفاه لطفي نفياً قاطعاً إذ قال في بيان نشرته عدن تايم: “نلفت نظركم أن ما تم الإشارة إليه خال من الصحة … ولم نلق أي اهتمام من مكتب (وزارة) الثقافة ولا أي تواصل. نطالب بالاعتذار من قبل مكتب الثقافة…”.[23]
كما عانت دور السينما الأخرى في عدن أيضاً. فعام 2019 هدمت إحدى أقدم دور السينما في عدن، (سينما الشرقية)، التي أنشئت عام 1965 في مديرية الشيخ عثمان.. شيد مركز تجاري مكان السينما حيث يتم الآن وضع اللمسات الأخيرة عليه.[24] وحاليا ليس هناك أي سينما تعرض الأفلام في المدينة.
وبالرغم من هذه التحديات الجمة التي تواجه سينما هريكن والسينما بعدن بشكل عام، لا يزال لطفي يأمل أنه في يوم من الأيام سيكون هناك مؤسسات تبدي اهتماما بالسينما وبإعادة إحيائها في عدن.
• هل يعود العرض إلى عدن؟
نظراً للظروف الراهنة، يبدو أنه من غير المرجح أن تشهد عدن عودة هذه الأيام المجيدة في أي وقت قريب – أو حتى أن تعاود عرض الأفلام مجددا. (حالياً، تعرض بعض الأفلام من حين لآخر في قاعات الأعراس.) تقف التحديات الأمنية وعدم توفر الخدمات والإهمال الرسمي أبرز العوائق أمام السينما. تحتاج مباني دور السينما للتأهيل والترميم لكي تتمكن من العمل مجدداً، فضلاً عن احتياجها إلى معدات حديثة لعرض الأفلام.
تمثل التكنولوجيا الحديثة تحدياً أمام إعادة إحياء دور السينما. ويقول سامي المصوعي، أحد مرتادي السينما الذي عاصر الفترة الذهبية للسينما، فدور السينما قد عفا عليها الزمن نتيجة تطور تقنيات الترفيه التي غيرت عادات المستهلكين: “الكثير من الناس كانوا يرتادون السينما، وحتى النساء. أتذكر خالتي التي كانت كلما سمعت عن فيلم هندي جديد تقول لي: ‘هيا يا سامي’! كنت أرافقها لمشاهدة العروض وكنت بمثابة حارسها الشخصي. ولكن بعدما أتت أجهزة الستالايت، لم يعد مهما لها (وللآخرين) أن تذهب لمشاهدة العروض في الخارج، فقد تغير الوضع”.[25]
انخفض عدد مرتادي السينما في الكثير من البلدان وانخفضت العائدات حتى قبل تفشي جائحة كورونا.[26] ونظراً لشاشات التلفاز المتطورة وتنوع خدمات البث، بات على دور السينما التنافس مع خيارات الترفيه الأوفر التي أمست بمتناول الجميع. هذا وأدى تفشي جائحة كورونا مطلع العام الماضي إلى إغلاق دور السينما في جميع أنحاء العالم.
يبقى مستقبل دور السينما في عدن مرهوناً بالوضع الاقتصادي والسياسي والأمني إذ يستلزم إعادة إحياء السينما إرادة وتفان من الحكومة الوطنية ودعم من رجال الأعمال والمؤسسات المدنية فضلاً عن تحسين القوة الشرائية وتوفير الأمن. كما أن الوعي والاهتمام الشعبي مهمان للغاية كونهما المحرك الحقيقي لنهوض أي فن.
* خالد لكرع : هو ناشط شبابي مستقل ورئيس فريق شمسان للتوعية الإعلامية في عدن. وهو حاصل على درجة البكالوريوس في الإعلام. مشارك في منتدى اليمن للسلام.