اعتمدت الفنانة التشكيلية ٱمنة النصيري في طبيعة عملها الفني التشكيلي على عدد من الخصائص في عملية الخلق والتكوين، بالاعتماد على ما تحمله الفنانة من فكر ومقدرة في رؤية الفن من الناحية العملية وعلاقتها بالبيئة والتاريخ والأحداث التي تحيط بها، وإمكانية توظيفها في منجزها الفني، فهي تمثل ذلك من خلال الاستلهام بطريقة فنية أكثر تميزا، لإيمانها أن العمل التشكيلي تركيب واسع يسيطر عليه الفنان على إعادة تنظيم المكونات الذهنية القائمة على مرجعيات معرفية ترتبط ببنائية الفكر كماً وكيفاً، ولكون الشكل العام للعمل الفني التشكيلي يحمل أقصى طاقاته تعبيراً ورؤية بدلالات فنية وجمالية.
“موضوعاتها تمثلت عبر تجارب ذهنية صهرت الموروث الشعبي في بنى معرفية مسكونة بالقصص والأساطير والرموز والموتيفات”
وبذلك تناولت الفنانة آمنة النصيري موضوعات من التراث فأخذت بالحسبان الأسس الفكرية والثقافية وراء المظاهر الشكلية، الأمر الذي أتاح استلهام العناصر والموضوعات من التراث بمختلف عناصره المادية والغير مادية برؤى ذات قيماً جمالية وفنية لموضوعاتها تمثلت عبر تجارب ذهنية صهرت الموروث الشعبي في بنى معرفية مسكونة بالقصص والأساطير والرموز والموتيفات يتعلق في تركيبها الرمزي ذا الطابع الدلالي، وترتبط من خلال العلاقات التشكيلية والنسق الجمالي، “وهذا يعزوا إلى تكوينها المعرفي الذي يخلق الوعي بأهمية موروثها المحلي والعربي الشعبي المحمل بالرؤى والأفكار، والذي حدد الصلة بين الفنانة وواقعها وبيئتها ورؤيتها وصلتها بالموضوعات وسبل تمثيلها فنياً، عبر قناعات الفنانة واعتقاداتها المحركة لرؤيتها المتشكلة على أساس ما حولها من الأفكار والرؤى التي تشكل إشارات يمكن استخلاصها من محاور المحيط وثقافتها والواقع ورموزه والبيئة ودلالاتها والماضي وإشارته الحية”(1).
“وهذا ما نلاحظه في تجارب الفنانة آمنة النصيري التي تتفرد وتتميز عن غيرها، إذ نجد في أعمالها أسلوبية متصلة بين الذات والاحتدام المعرفي كصاحب منجز فني وحضاري اتسمت أعمالها بمنهجية وحرفية عالية من حيث الأداء والتنفيذ والتقنية، فبرز الموضوع في اللوحة التشكيلية بأصالة وهوية متجذرة من عبق الماضي لتجدد الحاضر برؤية اختزالية تارة وبأسلوبية عالية في المضمون الدلالي المعتق بفكر ذاتي نابع من إلمام معرفي متراكم، وبشمولية للبيئة والتاريخ والمحيط تارة أخرى. “
يظهر تأثير التراث الشعبي واضحاً في أعمال الفنانة من حيث الاستلهام بما يحمله من تراث مادي وغير مادي، إذ استلهمت الزخرفة من العمارة والملابس إلى جانب تأثير الأدب الشعبي من قصص وأساطير وحكايات شعبية مفعمة بفلسفة خاصة.
وعن رؤيتها نحو استلهام عناصر التراث الشعبي بما فيه من سمات وخصائص في تجاربها تقول الفنانة “أن هناك علاقة قوية جداً بين الفن التشكيلي والزي الشعبي والفنون الشعبية البصرية بفروعها المتعددة، مثل زخرفة الأواني والعمارة التي تحمل تقريباً نفس القيمة الفنية البصرية التي نجدها في كل النواحي، وأنا أستفيد من الفن الشعبي من جانبين كقيمة جمالية بصرية, وكمحتوى أستخدم (الموتيفات) الشعبية في الزخارف الشعبية على أساس أنها مازالت خصبة وثرية وغير مستهلكة”(2). وهي بذلك تحدد مسار تجاربها الفنية بأنها توليفة بصرية للفنون الشعبية، والمعطى التاريخي والموروث اليمني القديم، فإطار الوجود الذي ترويه الفنانة في أعمالها يحمل دلالة عميقة للعوامل والجوانب التاريخية والثقافية والاجتماعية والنفسية والإنسانية والبيئية، مكتظة بالدلالات والرموز والإيحاءات بين العناصر والمفردات والموتيفات ذات الخطوط والتفاصيل, لتشكل عالماً رمزياً شديد الغموض وباعثاً للقيم الجمالية.
هذا وتؤمن الفنانة بأن للفن رسالة إنسانية خالدة، فهي بذلك تجمع في أعمالها الفنية التشكيلية بين عمق المضمون ودلالاته الإنسانية، وبين الشكل المستلهم من بيئتها وتراثها، وبين الطفولة التي تعبر عن عفويتها في اختيار ألوانها، إذ تتخذ من المرأة بأزيائها مرتكزاً حيوياً لأعمالها الفنية خارج نطاق الصراع الاجتماعي, كما ترفض تجاوز الواقع والتنكر للمحيط الاجتماعي الذي تعيشه.
وعند الوقوف على المؤثرات بين الرؤي والأسلوب في أعمال الفنانة نلاحظ جانبين مهمين، يتمثل ذلك في النسق الشكلي أو العناصر الشكلية لأعمالها، وفي المضمون الذي يحتوي غالباً على مدركات انفعالية، فهي تسعى للتأكيد من هذا النهج عن طريق تكويناتها التشكيلية، مبلورة نماذج وصور لعالم تخلط فيها الأسطورة بملامح تشبيهية للواقع من بيئة وفولكلور في إطار فني متخيل يجعلها تبدو في عالم آخر، عالم قادم من (الحكايات والأساطير)(3) والبيئة التراثية، غير مكتفية بوضع الرموز والدلالات للإشارة إلى مضامين قصصية، بل من خلال سرد التفاصيل البصرية المتجسدة بعلاقات درامية، وأفكار متبلورة في تأثير متبادل يخلو من المباشرة في قالب فكري فلسفي، وأن تحول المؤثرات في رؤاها الإبداعية لتتجه نحو الاستلهام للموروث الحضاري لمجتمعها اليمني والعربي دون التقليد والمحاكاة.
لم تمنع الفنانة النزعة الرمزية والتعبيرية والتجريدية في اتجاهها الرؤيوي في بعض أعمالها الشعبية، إذ قدمت أعمالاً تشكيلية شعبية بحس فطري وبدائي خارج أبعاد المنظور التقليدي لأشكال حيوانات (مؤلفة الأعضاء)(**)، وبعض الأجزاء منها خارج قاعدة المنظور، لتوجد بذلك أسلوباً خاصاً ومتميزاً بطابع خاص غير مألوف في الوسط الفني التشكيلي اليمني المعاصر، ولتتخذ أسلوباً شعبيا في الطرح الشكلي والموضوعي، وكأنها تمثل رموزاً ثقافية تشكيلية وفق رؤيتها الفلسفية نحو ما تمثله. فالموضوع الداخلي يكاد أن يكون فطرياً، والتقنية في تجاربها في فترة التسعينيات هي الرسم المباشر بالألوان المائية تستعمل المسطح الملون ولا تعتمد على الخطوط الفاصلة فالخط الفاصل هو اللون المتجاوز، تخرج أشكالها من الأسطح الغامقة تضيف للأشكال بهجة وبساطة، فالتحويرات التشكيلية تنسجم مع الفراغ الحاوي للعمل، أما تقنيتها منذ مطلع القرن الحالي حتى اليوم هي ألوان الأكريلك.
ما يميز أعمال الفنانة هي حالة الاسترسال القصصي أو الموضوعي المركب
“فالعلاقة بين الشكل المكون واللون هما أساس اللعبة الافتراضية لمجموعة من الإنزياحات المألوفة، وهذا ينم عن نزوعها الصوفي أو التقشفي الذي انعكس على شخوص وكائنات رسومها وسط الاحتشاد بالرؤية الموضوعية أو المضمونة بالهم الأسلوبي”(4). فهي بذلك تضيف على ذلك سمات العمق الدلالي أو التأمل بوجودها رمزياً على السطح التصويري، مستفيدة في الترميز في انتزاع الدلالات الرمزية وطاقات الإيحاء في ألوانها وأشكالها كالأساطير والقصص والروايات ومفردات العمارة اليمنية في خطوط شاعرية وحس مرهف وأشكال مبسطة في فضاء لوني عفوي وشفاف, مقتربة برسمها وتمثيلها بعفوية مطلقة.
ولقد مرت الفنانة آمنة النصيري بتجارب كثيرة حتى تبلورت لديها هذه النزعة الفنية في استلهام التراث الشعبي من أساطير وقصص ورموز ثقافية وزخارف ونقوش وأزياء وعمارة، ولم يكن فقط في مرحلة محددة من مراحلها الفنية كتجربة بل صار طابعا خاصا بالفنانة, ومصدر إبداع مهم في أعمالها التي تجد ذاتها فيها.
ففي تجربتها الفنية الأولى اتسمت أعمالها (بطابع غرافيكي)(5)، إذ نجد أعمالها لا تخلو من الزخارف، بل تكتظ بها وهي مزخرفة من الطراز الأول مع استخدام العديد من الرموز والمفردات. كما في لوحتها (عروس الشمس)، والملاحظ أن الفنانة عند ترميز الظاهر لمثل هكذا عمل يقتضي عليها صياغة منظومة من العلاقات المستمدة من مخزون الذاكرة، بما تحمله من دلالات تاريخية وفلسفية معبرة عن المطلقات التي تميل إلى التعبير بحداثة أكثر تجريدية.
كل تجربة قدمتها الفنانة نلاحظ أنها كانت تتجدد في التجريب الحر من حيث الرؤية في الأسلوب الفني والتقني، والتنقل في الموضوع من خلال استلهام الموروث الشعبي والجانب الرمزي الأسطوري في الفكر عامة
وحينما نقف عند أسلوب الفنانة النصيري عبر تجاربها المختلفة نشهد العديد من جوانب التفرد الأسلوبي حرفية تنفيذ الرؤى على السطوح التصويرية أو بفعل هيمنة الوعي بالعمل على تلقائية، ولعل المتابع لرؤية الخبرة الأسلوبية وتحولات الرؤى التشكيلية التي تجسدها الفنانة آمنة في أعمالها عبر تجاربها الممتدة منذ فترة التسعينيات حتى منتصف العقد الثاني من القرن الواحد العشرون، ومنها معارضها التي قدمت في العقد الأول من هذا القرن مثل معرض (كائنات), و(حصارات). فكل تجربة قدمتها الفنانة نلاحظ أنها كانت تتجدد في التجريب الحر من حيث الرؤية في الأسلوب الفني والتقني، والتنقل في الموضوع من خلال استلهام الموروث الشعبي والجانب الرمزي الأسطوري في الفكر عامة, فأساليب موضوعاتها تطبع بالتردد بين عرض الموضوع كموتيف فكري أو ذهني يسجل موقفاً من قضايا الوجود والحياة ببعدها الواقعي التمثيلي, وبين احتواء الموضوع فنياً وصهره بعناصر اللوحة لا سميا الخطوط والألوان، وفق أسلوب ذي نزعة تشخيصية تعبيرية تارة وتجريدية تارة أخرى. كما في اللوحتين التالتين (مفردات معمارية ورموز ثقافية) و (كائنات أسطورية).
كما يأتي جمالية اللون في منجزها الفني من خلال احتفاؤها باللون عن طريق تقنياتها المختلفة وطريقة معالجتها وفق حسها وخيالها وثقافتها الفكرية والمعرفية لدلالة الألوان, وما ينتج عنه من تضادات أو توافقات بعيداً عن الدراسة الأكاديمية للون، والاحتفاء باللون في أعمالها مسيطر على كل أشكال موضوعاتها التي تغرق فيها الأشكال والشخوص والأشياء مما يعطي ويرسخ الانطباع الأول بهيمنة اللون على عناصر العمل، وهذا ينم وفق رؤيتها الرمزية لتجعل من اللون أداة التعبير التي تتراجع أمامه العناصر البنائية في العمل الفني. مكرسة واحتفاءها باللون البراقة والمشرقة، مما يعطي العمل بعداً رمزياً ذات منحى دلالي وفلسفي.
ومن خلال ما سبق يمكننا القول أن تجارب الفنانة النصيري تمثلت في رؤيتها وتحول أسلوبها باستلهام التراث الشعبي وعصرنته إلى أعمال ذات عمق إنساني وأبعاد تاريخية في قالب إبداعي معاصر, يتجسد في:
عناصر السرد الطويل للعناصر التراثية لتؤدي فيه الأشكال والألوان دلالة رمزية، مع إدراك التحول والتنظير حول الرمز والجسد وتبدلات الأسلوب والمشغلات الثقافية للعمل الفني التشكيلي التي تمثله أعمالها الفنية عبر إلغاء فردية العمل أو خصوصيته.
” تتسم أعمال الفنانة بمساحة واسعة من المفردات والرموز التراثية لعالم باطني، يتنوع فيها التعبير الفني وتظهر رموزاً باطنية تأليفية متحركة ومتطورة تكتسب أبعاداً كثيرة من الإيحاءات الشكلانية لعناصر التراث الشعبي باسلوب تعبيري رمزي أو تجريدي”
ثقافتها نحو محيطها التراثي الممتد في بعده الزمني المتراكم حمل الكثير من الدلالات الزمانية والإشارات المكانية, إضافة إلى التنوع والتحول المستمر في تجاربها التشكيلية. كما أنها لم تلتزم بمنهج أو مدرسة أو أسلوب محدد.
تفردها الأسلوبي الفني والتقني في بناء موضوعاتها وطريقة المعالجة بخصوصية متفردة وبخصوصية لا شبيه لها عبر تجاربها المستمرة، والتي اكتسبت بذلك طابع متميز وفريد.