عن دار الساقي ببيروت، صدرت الطبعة الأولى من رواية حبيب عبدالرب سروري الجديدة، المعنونة بـ(نزوح)، في 256 صفحة من القطع المتوسط، وهي الرواية الحادية عشرة للروائي اليمني وعالم الحاسوب، المقيم بفرنسا منذ العام 1976.
يقول محمد الشقاع، في قراءة للعمل عنونه بـ(نزوح إلى "نزوح"):
"أحداث الرواية تدور في ثلاث طبقات روائية: مركبتان فضائيّتان؛ اليمن (ممثّلةً بأرخبيل سقطرى)، وعدن في سبعينيات القرن الماضي.
تبدأ الرواية بهذه الفقرة: «أيُّ بيتٍ من دون امرأة، كما يعرفُ الجميعُ، لا يُعوَّلُ عليه: لا مركزَ جغرافيّ له، ولا مركزَ ثقل! وأيّ مركبةٍ تغادر الأرض لِمهمّةٍ استيطانيّةٍ طويلةِ الأمد، إن كانت من دون أنثى، تتحوّلُ، رويدًا رويدًا -كما برهنَت تجاربُ رحلات الفضاء- إلى عرينِ مجانين مسعورين: ديوك يُعادي بعضُهم بعضًا، يكرهُهُ ويمقتُه. تضمُرُ أفئدتُهم وتتصحّرُ أرواحُهم، إثر مزيجٍ من قحطٍ موسيقيٍّ وتوتّرٍ نفسيٍّ وضغطٍ عصبيّ، يُضرِمُ تدريجيًّا عصبوناتِ أدمغتهم، يُكلِّس شُعيراتهم الدمويّة، ويقودُهم، يومًا بعد يوم، إلى الانكماشِ والخواءِ والتّهلُكة».
الرحلة الأولى، XxxX00F:
تدور في مركبة بيغاسوس (اسم الحصان الميثولوجي الإغريقي المجنّح). روّادها الخمسة؛ ثلاثة رجال وامرأتان، هم: جلال، خولة، مانيارا، سباسكي، فيشر. مهمتها: امتحان قدرة الإنسان على الحياة طويلًا بعيدًا عن الأرض. ستستمر الرحلة مدة سنتين. شعار الرحلة: «الطريق بحدّ ذاته هو الهدف وليس الوصول إلى المرفأ الأخير».
الرحلة الثانية Yyy4+1W:
تضمّ مركبة الرحلة الثانية أربع نساء ورجل: فيلسوفة، وشاعرة، وفيزيائية، وعالِمة أحياء، ورجل أطلقَ عليه اسم «النبي نون». اسمها: «رحلة العائلة السعيدة»، بعد زواج نون برفيقاته الأربع. مُدّتها سنة ونصف. نون يريد العودة إلى الأرض بعد انتهائها، بعكس زوجاته.
متن الرواية
لكل مركبة عالمها وقانونها الخاص الذي ينظّم عملها والعلاقة بين طاقمها. فمثلًا في «مركبة العائلة السعيدة»، بعد أن يتزوج نون بزميلاته الأربع، ينظمّون علاقة الزواج والطلاق وأيام المعاشرة الزوجية بمعونة الكمبيوتر الذي يطلق عليه «وادي عبقر». حفلات زواجهم تمرّ بحسب طقوس الأديان السماوية الثلاثة، أمّا الرابع فهو زواج لا دينيّ؛ مدني. شهود الزواج هم أنفسهم: كلّ زوجة شاهدة لزواج أخرى!
المركبتان مرتبطتان بمركز إدارة وأبحاث في جزيرة سقطرى اليمنية المحمية الطبيعية التي لم تلوث إلى الآن، آخر معاقل الجمال، تاج اليمن وأجمل أرخبيل في العالم. يوجّه كل مركبة جهازُ الكمبيوتر «وادي عبقر»، آخر اختراعات الذكاء الصناعي (AI).
تدور أحداث الرواية في منتصف القرن الحادي والعشرين، وتُروَى بلسان الراوي: حديبو، معتمدًا فيها على مذكرات جدّه التي تركها له في فلاش يحتوي على ملفات يوميات هائل، في منتصف السبعينيات من القرن العشرين.
يقول حديبو: "اليمن في زمن جدّي، تدهور رويدًا رويدًا، فتّتَتْه الحروب الدائمة، أمام تجاهل العالم وإهماله، الحروب المناطقية والطائفية والصراعات الدينية، السلطات السلالية والتيارات الظلامية، الديكتاتوريات القمعية الفاسدة، الميليشيات المأجورة وصراعات القوى الإقليمية التي وجدت نموذجيًّا بالوكالة لتصفية حساباتها وتفجير حروبها".
ثمّ أصيب اليمن فعلًا، في زمن الرواية، بالموت الدماغي.
يسرّب حديبو إلينا أحداثًا حقيقية ممتعة ومحزنة حصلت لجدّه، مثل سرقة محفظته التي تحتوي على صورة حبيبته، ومبلغ 4500 دولار اكتسبها من عمله الصيفيّ الشاقّ في البناء أثناء دراسته الجامعية. سُرقت منه أثناء انتظاره لاستلام تصريح سفر إلى شمال الوطن، هو في أوّل إجازة صيف. ولك أن تتصور الحزن والغضب الذي ينتابك، ومدى تعاطفك معه عند فقدان رأسماله الكبير الذي نشل منه في غمضة عين، فكانت خسارتان؛ مادية وعاطفية معًا، أفسدت فرحته وإجازته السنوية (صفحة 123)!
«نزوح» هي رحلة العمر بامتياز. رحلة شيقة وممتعة جدًّا مليئة بالمعلومات والأفكار، والسرد السلس والإثارة والسخرية من الأفكار العبثية. تجرّنا دومًا إلى التعاطف مع أبطالها. لا تخلو صفحة من معلومة أو براعة في السرد او فكاهة، ومن «شقاوة حبيب» وسخريته المعتادة، وتهكمه من أفكار وأحوال لا تسرّ، وهو يبثّ حزنه، همّه وحسرته على وطنه. فمثلًا يصف حال اليمن وما يشابها من دولنا العربية المغلوب على أمرها:
«الشعوب التي كانت تنجب، بأرقامٍ تجارية، كاليمن مثلًا، لم تعد تستطيع مواكبةَ الحضارة. تقلّصَ سكّانها، حدّ الاندثار، بسبب صراعاتها وحروبِها الداخلية، تخلُّفِها المستفحل، وفتكِ الفقرِ بها، والأمراض المتشابكة والأوبئة (القديمة والجديدة) والبؤس والمجاعات...». (ص18)".
«نزوح» رواية أدبية استباقية استشرافية تأملية، رواية أمل وتشاؤم معًا، رواية عشق. رواية مكثفة علمية، شيقة، باذخة الجمال، تلتهمها بسرعة، وتحاول أن تسابق الأحرف لمعرفة مصائر أبطالها. رواية تستحق الاحتفاء في موضوع قَلّ أن يُكتب بلغة الضاد.
فيلم سينمائي
ويختم محمد الشقاع، في قراءته لهذا العمل، بالقول:
"عندما تقرأ «نزوح»، تشعر كما لو أنك تشاهد فيلمًا سينمائيًّا مكتظًا بالحركة داخل المركبتين. أما الوصف لخارج المركبة فمملوء بسحر وجمال الكون والكواكب التي يمر قربها.
تزدحم في الرواية الموسيقى والفلسفة والأفكار ...، عندما تقرأ ما يدور داخل المركبتين الفضائيتين من نقاشات، وعندما تتعرّف على قوانين تنظيم الحياة اليومية داخل المركبتين، ووصف المضاجعة الحميمية خارج الجاذبية الأرضية، وتساقط الدموع عند البكاء هناك، والاستحمام في الفضاء المطلَق...
الملاحظ في «نزوح»، وقبلها رواية «جزيرة المطفِّفين»، هموم وقلق وهلع مسيطر على فكر العزيز حبيب لما تعيشه البشرية من تغير في المناخ، الهجرة واللجوء، التجسّس الإلكتروني والاضطرابات السياسية، جشع وتوحش الشركات الرأسمالية، تفكك الدول والتقوقع الذاتي للشعوب العربية.
«نزوح» رواية أدبية استباقية استشرافية تأملية، رواية أمل وتشاؤم معًا، رواية عشق. رواية مكثفة علمية، شيقة، باذخة الجمال، تلتهمها بسرعة، وتحاول أن تسابق الأحرف لمعرفة مصائر أبطالها. رواية تستحق الاحتفاء في موضوع قلّ أن يُكتب بلغة الضاد".