في 25 تموز/يوليو، أقال الرئيس التونسي قيس سعيد رئيس الوزراء هشام المشيشي وعلّق أنشطة "مجلس نواب الشعب".
وإذا أصبح سعيد استبدادياً بالكامل، فمن المرجح أن يتم قمع التعبئة المحلية، بينما يحدث الجزء الأكبر من النشاط الجهادي التونسي خارج حدود تونس في أوروبا أو أحدث وجهة للمقاتلين الأجانب - ربما أفغانستان مجدداً في ضوء الاستيلاء المنهجي لحركة "طالبان" على الأراضي الأفغانية.
وعلّق سعيد أنشطة "مجلس نواب الشعب" (البرلمان) من خلال تفعيل الاجراءات الاستثنائية الطارئة التي تنص عليها المادة 80 من الدستور التونسي.
وكان المبرر لذلك هو أزمة تفشي مرض فيروس "كورونا" الخارجة عن السيطرة، والمشاكل الاقتصادية المتواصلة، والخلل السياسي داخل البرلمان الذي تترأسه حركة "النهضة".
وقد وصف بعض المحللين في الغرب مناورة سعيد بأنها انقلاب ذاتي، في حين أظهرت بيانات استطلاعات الرأي أن الكثير من التونسيين دعموا القرار. ومع ذلك، فإن ما حصل قد لا يكون قد تسبب باندلاع أزمة، لولا مخاوف من تدخل الجهاديين.
من المهم الملاحظة، أن النشاط الجهادي في تونس شهد انخفاضاً في السنوات الأخيرة بفضل الجهود العسكرية وإجراءات مكافحة الإرهاب المتخذة ضد تنظيمي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية»، فضلاً عن تراجع جهود وإمكانيات مشاركة المقاتلين الأجانب بالمعركة في العراق وليبيا وسوريا حيث خسر تنظيم «الدولة الإسلامية» الأراضي.
ومع ذلك، فإن الأمر يستحق التأمل بالنظر إلى التعبئة الواسعة النطاق التي شهدتها تونس على مدى العقد الماضي، بما أن الحركة الجهادية تنتهز الفرص الناتجة عن أي شكل من أشكال عدم الاستقرار.
اضافة إلى ذلك، فإن ما قد يبدو في الأساس مجرّد خطاب، كما كان عليه الحال مع الجهاديين الذين تحدثوا عن انتفاضة تونس عام 2011 وإن لم يكن لهم أي دور فيها، فإنه قد يؤدي إلى إعادة إحياء نشاط التعبئة بالطريقة نفسها التي مكّنت «أنصار الشريعة في تونس» الاستفادة من الظروف الناشئة بعد الإطاحة بالرئيس السابق بن علي.
•كيف قام الجهاديون بتأطير الأزمة
يمكن تلخيص قسم كبير من رسائل المفكرين الجهاديين حول الأحداث السياسية الأخيرة في تونس بأنها شماتة بالإحراج الذي تعرضت له حركة "النهضة" نتيجة تجميد صلاحيات البرلمان.
وفي رأيهم، إن ما حصل هو مثال آخر على أن الديمقراطية تخيب آمال الأحزاب الإسلامية ودليل إضافي على أن الجهاد القتالي وإرساء الشريعة هما الوسيلة الوحيدة للتصدي للدول الخفية المحلية والقوات المستبدة الظاهرة المناهضة للإسلام. وينظر رجل الدين التابع لـ «هيئة تحرير الشام»، الشيخ عبد الرازق المهدي، إلى ما حدث من منظور مؤامرة من قوى خارجية، حيث يرى أوجه تشابه مع ما حدث في مصر في عهد عبد الفتاح السيسي وجماعة «الإخوان المسلمين» فقال: "يقود [سعيد] انقلاباً بدعم من فرنسا والسيسي و[ولي عهد الإمارات] بن زايد... وإذا تمكّن المجنون فسيحذو حذو السيسي في مصر".
من ناحية أخرى، سعى قائد "تنسيقية الجهاد" السورية أبو العبد أشداء، إلى تقويض الديمقراطية باعتبارها شكلاً مشروعاً من أشكال الحكم، وصرّح ببلاغة وتهكّم، متسائلاً: "ديمقراطية بدماء حمراء. انقلاب في تونس. انقلاب في مصر. انقلاب [الزعيم الليبي القوي خليفة حفتر. هل هذه تُعتبر ديمقراطية؟"
ويجادل أبو محمود الفلسطيني، وهو إيديولوجي مقيم في لندن ومساعد أبو قتادة الفلسطيني: "لن يحدث أي تغيير من دون تدخل قوة فعالة تفكك مفاصل الدولة الخفية وتقوّض ركائزها. ولا يمكن لمسار الديمقراطية أن يؤدي إلى حكم الشريعة وبناء دولة إسلامية".
وتطرق مرشده أبو قتادة إلى صلب الموضوع وقال بصريح العبارة: "الجهاد ضرورة لا بدّ منها. فجميع المسلمين تقريباً، من مختلف البيئات والخلفيات، يعلّقون اليوم على ما حدث في تونس ويتفقون على أن الجهاد أصبح ضرورة... ليس لديهم خيار آخر".
وفي إشارة إلى ما أصبح يعرف بحركة "النهضة"، اقتبس زعيم "جيش الأمة" في غزة أبو حفص المقدسي مقولة لثاني الخلفاء عمر بن الخطاب قوله: "نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله". وينضم الإيديولوجي المقيم في لندن أبو بصير الطرطوسي إلى منتقدي حركة "النهضة" حيث خاطب الحزب قائلاً: "لن تجدوا من يبكي عليكم... فهذه مكافأة الذين يرفعون شعار 'فصل «الدعوة» عن السياسة’ وشعار «الحرية قبل الإسلام، وقبل تطبيق تعاليم وقوانين الإسلام». فأنتم لم تنالوا الحرية ولم تدعموا الدين!" كما دعا الطرطوسي إلى نبذ حركة "النهضة" بسبب محاولتها بناء علاقات مع فرنسا، التي برأيه تهاجم الإسلام محلياً. وبالتالي "دفعت [النهضة] ثمن هذا الموقف المتأرجح والمموّه... وهذا هو مصير كل حركة أو جماعة تتبع هذه المقاربة الخاطئة والمتأرجحة!"
أما بالنسبة للإيديولوجي التونسي في «هيئة تحرير الشام» الذي يعرف باسم الإدريسي، فكانت مقاربته ذات طابع أكثر محلي بما أنه تونسي الأصل، فقال: "تدفع الثورة التونسية ثمن عدم تطهير البلاد من مخلفات النظام السابق، سواء من [الأجهزة] الأمنية أو الجيش أو رجال الأعمال النافذين أو وسائل الإعلام. والأحزاب تدفع ثمن العيش في الوهم والأمنيات". وبالطبع، بما أن الإدريسي ينتمي إلى «هيئة تحرير الشام» ومقره سوريا حالياً، فإنه ينتقد بشدة على المستوى الإقليمي الدور الذي لعبته حركة "النهضة" وجماعة «الإخوان المسلمين» في إفشال الثورة: "إن الأشخاص الذين يعوّلون على «الإخوان المسلمين» لقيادة ثورات الربيع العربي هم كمن يعوّل على سراب". وهذا يؤدي إلى نقطة رئيسية في دعم قراره بمغادرة تونس، وهي أن النموذج الأفضل اليوم هو «هيئة تحرير الشام» في سوريا وحركة "طالبان" في أفغانستان. وأضاف: "إن نجاح «هيئة تحرير الشام» وحركة «طالبان» يدعو «الأمة» إلى إعادة التفكير في الحركات الجهادية المعتدلة التي أثبتت حنكتها السياسية والعسكرية في إدارة النزاع وإرساء وجودها وانتزاع الحرية من براثن الأشرار".
وفيما يتخطى إيديولوجيين محددين، علّقت وكالة الأنباء "ثبات" الموالية لتنظيم «القاعدة» والنشرة الإخبارية الرسمية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، "النبأ"، " على الأحداث في تونس. وقد حمل مقال "ثبات" توقيع أبو البراء الليبي الذي وصف تجربة "النهضة" الأخيرة على أنها جزء من تاريخ طويل لاستغلال منظمات «الإخوان المسلمين» وخيانتها من قبل الأنظمة المحلية التي تشاركت معها. وأشار على وجه الخصوص إلى ما حدث لـ «الإخوان المسلمين» في مصر في عهد جمال عبد الناصر ومؤخراً في انقلاب عبد الفتاح السيسي. وشملت الأمثلة أيضاً السودان وتركيا. وفي حين أن منظمات «الإخوان»، بما فيها "النهضة"، لا تتعظ من دروس الماضي، كما يدّعي، فإن الجهاديين لا ينخدعون أبداً لأن لديهم "موقفاً حازماً وثابتاً إزاء كل طاغوت يستبدل شرع الله ويقبل بالديمقراطية".
وتماشياً مع باقي الانتقادات المذكورة أعلاه، تهاجم افتتاحية تنظيم «الدولة الإسلامية» في "النبأ" بشكل مباشر اعتناق "النهضة" للديمقراطية: "من بين أكثر من عارض الله ورسوله في هذا العصر هم الساعون إلى الديمقراطية ومؤيدوها ومناصروها، من آمنوا بها واعتمدوها كمسار وطريق، وبالتالي ناقضوا السنّة وتعاليمها. فقد وصمهم الله بالخزي والبؤس والضياع، وقد ذيّلتهم هذه الصفات في الظروف كافة كطوق على أعناقهم. وهذا تماماً ما حدث اليوم مع «الإخوان» المرتدّين في تونس بعد أن حادوا عن مسار المؤمنين، واتبعوا الديمقراطية، وسعوا إلى المساعدة لتطبيقها، ومجّدوها، وجعلوها قاضياً فيما بينهم، ومرشداً لهم نحو الجحيم. وتشابهت النتيجة مع ما حدث لهم من قبل، حين انقلب عليهم «الطاغوت» الذي رضوا به لأنفسهم".
كذلك، تستخدم افتتاحية تنظيم «الدولة الإسلامية» سقوط حركة "النهضة" كفرصة لكسب نقاط مع تنظيم «القاعدة» وأنصاره، لأن الإيديولوجي أبو قتادة الفلسطيني الذي يعتبره تنظيم «الدولة الإسلامية» موالياً لـ «القاعدة»، كان قد أثنى في الماضي على قيس سعيد حين فاز في الانتخابات الرئاسية التونسية في عام 2019. وفي استذكار للإشادة السابقة من "بعض منظّري «القاعدة»" لسعيد، جاء في الافتتاحية: "بالفعل، إن موقف أغبياء «القاعدة» فيما يتعلق بـ «الطاغوت» التونسي لا تقل شأناً عن موقف «الإخوان» المرتدين في سذاجتهم". ومن الممكن أن يكون أبو قتادة وغيره قد فضلوا سعيد بسبب آرائه التقليدية حول عقوبة الإعدام، وتجريم المثلية الجنسية، ومعارضة المساواة في الميراث بين الرجال والنساء.
•هل ترقى هذه الكلمات إلى أي شيء؟
من الصعب التصديق أن سعيد سيرتكب الأخطاء نفسها التي ارتُكبت في أعقاب الثورة من حيث صلتها بالحركة الجهادية. لقد تعلّمت الدولة الكثير من الدروس المستقاة بجهد. ولن تكرر خطأ إصدار عفو عن السجناء الذي ارتكبته الحكومة الانتقالية في شباط/فبراير 2011 أو اتباع سياسة متساهلة تجاه «أنصار الشريعة في تونس» كما فعلت حركة "النهضة" عقب وصولها إلى السلطة في انتخابات "المجلس الوطني التأسيسي" في تشرين الأول/أكتوبر 2011. وعليه، لن يكون من المفاجئ إذا ما حاول تنظيم «القاعدة» أو «الدولة الإسلامية» الطعن بقدرات الدولة التونسية إذا توقعت هاتان الجماعتان بوجود فرصة لهما لفرض سلطتهما على المدى المتوسط. ومع ذلك، إذا أصبح سعيد استبدادياً بالكامل، فمن المرجح أن تتبلور الديناميات كما حدث في عهد الديكتاتور التونسي السابق بن علي، وهي: قمع التعبئة المحلية، بينما يحدث الجزء الأكبر من النشاط الجهادي التونسي خارج حدود تونس في أوروبا أو أحدث وجهة للمقاتلين الأجانب - ربما أفغانستان مجدداً في ضوء الاستيلاء المنهجي لحركة "طالبان" على الأراضي الأفغانية.
*هارون زيلين هو زميل "ريتشارد بورو" في معهد واشنطن، وباحث زائر في "جامعة براندايز". وقد تم نشر هذا المقال في الأصل على موقع "جِهادِك".