كانت عزيمة فهد البراق، الذي يدير متحف اليمن الجيولوجي، لإبقائه مفتوحاً في خضم ما تسميه الأمم المتحدة أكبر أزمة إنسانية في العالم أمراً مُحيراً لكثيرين، وقد سألته امرأة أخيراً عن سبب عمله مجاناً للحفاظ على أحافير وأحجار ومعادن فيما يعاني الناس الجوع.
ينظر البراق إلى الأمر بشكل مختلف، فهدفه هو إبراز إمكانات الأمة التي وعدت بأن تكون جبهة جديدة للتعدين قبل الخضوع للحرب وسوء التغذية. قال البراق وهو في العاصمة اليمنية صنعاء: "يقتل الجوع عدداً قليلاً من الناس، لكن الافتقار إلى التعليم والجهل سيقتلان الجميع."
قد تبدو هذه الرؤية قاصية نظراً لحجم الدمار الذى أحاق باليمن، حيث قضى 370 ألف إنسان بسبب القتال والمجاعة والمرض كما أدى الصراع المستمر منذ ثماني سنوات لقلب التعليم رأساً على عقب. أوقفت شركات النفط والتعدين، التي وفرت لليمنيين الوظائف والتنمية، عملياتها في البلاد. لقد غدا اليمن، جنباً إلى جنب مع سوريا، هامشياً لدى طرح الشؤون الخارجية مع انتشار الدمار في أوكرانيا.
ما يزال البلد الجبلي الواقع على الحافة الجنوبية لشبه الجزيرة العربية موطناً لمجموعة نفيسة من الموارد غير المستغلة، وصناعة محاجر خاملة تعطل دخولها إلى السوق الدولية بسبب الحرب. توجد مناجم قديمة واحتياطيات من الذهب والفضة والمعادن الأخرى، إضافة لمجموعة كبيرة ومتنوعة من الصخور مثل الحجر الجيري والجرانيت والعقيق اليماني ورخام المرمر. يطلق على هذه الأحجار محلياً اسم "أحجار البناء والزينة"، ما يعكس تقليداً عريقاً في اليمن للعمل فيها.
•متحف تعليمي
يعتمد إبقاء هذه الصناعة حاضرة في أذهان اليمنيين على مبادرات شخصية، مثل مبادرة البراق. كان المتحف الجيولوجي نتاجاً لعدة سنوات من التعاون بين هيئة المسح الجيولوجي والثروات المعدنية اليمنية ومتحف التعدين الألماني في بوخوم. افتُتح المتحف في 2012 بجوار وزارة النفط والمعادن اليمنية في صنعاء، وقد أُنشئ كمركز تعليمي لتسليط الضوء على الإمكانات وكيف يمكن للبلاد الاستفادة منها.
وظّف المتحف عشرات الأشخاص قبل اندلاع الحرب؛ قبل عامين من اقتحام المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران العاصمة وإجبار الحكومة على النفي إلى السعودية بعد بضعة أشهر. دخلت القوات التي تقودها السعودية الحرب في مطلع 2015 في محاولة لاستعادة الوضع الطبيعي. أُغلق المتحف في ذلك العام بعد الضربات الجوية الشديدة التي شنها التحالف.
توقف الحوثيون بعد ذلك بعام عن دفع رواتب عديد من موظفي الحكومة، بمن فيهم البراق بعد انتقال البنك المركزي إلى عدن، التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً والتي تقاتل الحوثيين.
قال البراق، 45 عاماً، أنه لم يستطع ترك المتحف يتلاشى. كان البراق يعاني الملل والاكتئاب خلال أكثر من عام من البقاء في المنزل، فتواصل مع ثلاثة من زملائه وسألهم عما إذا كانوا سيتطوعون بوقتهم لفتح المتحف، فوافقوا. يحصل كل منهم على راتب شهري قدره 20000 ريال (حوالي 25 دولاراً) من السلطة الجيولوجية كما بدأوا يحصلون أخيراً على مبلغ مماثل كمكافأة. يعمل البراق في محل لبيع الهواتف المحمولة في المساء لإعالة أسرته.
أضاف البراق: "لم أكن أود أن تضيع الجهود المبذولة حتى الآن. كانت إعادة فتح المتحف وسيلة للحفاظ على نوع من الاستمرارية للأجيال المقبلة."
•صناعة للمستقبل
كما يمكن أن يساعد ذلك اليمن في تعزيز ازدهارها يوماً ما. قال يورغن هيكس، الذي عمل كمنسق وممثل لمتحف التعدين الألماني في اليمن لمدة تسع سنوات ابتداء من 2001، أن اليمن كان يخسر قيمة الكنوز التي كانت لديه في ظل شدة محدودية الموارد والخبرة ونقص الآلات المتطورة لاستخراج الأحجار بشكل صحيح.
كان اليمنيون، على سبيل المثال، يبيعون كتل من رخام المرمر الخام من الدرجة الأولى إلى السوق الدولية مقابل بضع مئات من الدولارات. كانت قيمة هذه الكتل تتضاعف مئات المرات لدى تقطيعها وصقلها. كما أن اليمنيين الذين أرادوا بناء هياكل عالية الجودة استوردوا الرخام، لأن الأحجار المُستخرجة محلياً عولجت بشكل سيئ. قال هيكس: " كان الأمر أشبه بجلب المياه إلى المحيط. كان هدفنا هو رفع المعايير حتى تتمكن اليمن من جني الأرباح."
قال هيكس أن الحكومة كانت قد بدأت تهتم بتطوير صناعة الأحجار في اليمن، وجاء المتحف كإحدى سبل ذلك كما كان يهدف لتدريب يمنيين، وخاصة من المناطق القبلية، على الحرف اليدوية والآليات اللازمة لإنتاج منتجات عالية الجودة.
زار جيولوجيون يمنيون متاحف في ألمانيا والتقوا بمُصممي المتاحف قبل افتتاح متحفهم في اليمن. كما شارك اتحاد من المصانع والشركات اليمنية في المعارض التجارية في نورمبرغ في 2007 و2009 وتعرفوا هناك على معايير التصدير الدولية المتعلقة بصناعة الأحجار والتقوا بعملاء مُحتملين من إيطاليا ودول أخرى، وفقاً لهيكس، الذي أضاف قوله: "كانت الفكرة هي مساعدة اليمنيين على وضع بلدهم في السوق العالمية."
•عراقيل الربيع
لكن انطلقت انتفاضات الربيع العربي بعدها في شتى أرجاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في 2011، ما أنهى العمل على الارتقاء بصناعات التعدين والأحجار في اليمن، لكن لم يمنع ذلك من افتتاح المتحف بعد عام، وعُيِّن البراق نائباً لرئيسه.
نجا المبنى الذي تبلغ مساحته 800 متر مربع ومعروضاته، وأصبح ملجأً لليمنيين الهاربين من الموت والبؤس قبل أن تبدأ الهدنة في أبريل من هذا العام. ارتفع عدد زوار المتحف بعد إلغاء رسم يعادل نصف دولار لدخول للبالغين. قال البراق، الذي يرأس المتحف الآن، إن حوالي 1000 شخص، معظمهم من الأطفال، زاروا المتحف خلال الأسبوعين الماضيين. أضاف أنه غالباً ما يرى الأطفال يعودون لزيارة المتحف مع ذويهم.
يمكن للزوار رؤية ما يصل إلى 100 عينة من الأحجار، وصور آثار أقدام ديناصور عُثر عليها في أرحب إلى الشمال من صنعاء وحفريات من العصر الجوراسي.
تُظهر الصور المنشورة على صفحة المتحف على فيسبوك أطفالاً يرتدون سترات برتقالية وخوذات صفراء أو بيضاء يخرجون من جولة في منجم افتراضي، ويجلسون على الأرض بينما يشرح خبير جيولوجي كيفية استخراج النفط وتكريره، فضلاً عن التقاط الصور أمام معروضاتهم المفضلة.
أصبح البراق معروفاً في المدينة ويقول أن الناس يرسلون إليه رسائل على تطبيق "واتساب" ليشكروه على إبقاء المتحف مفتوحاً ويطلبون نصيحته عندما يعثرون على الصخور وغيرها من الأشياء التي يأملون بأن تكون كنوزاً. يأتي إليه كثير من الناس يحملون بلورات البيريت، المعروفة باسم "الذهب الكاذب"، على أمل أن تكون حقيقية.
قال البراق: "اليمن متحف جيولوجي مفتوح وإذا تعاملنا بشكل احترافي، فإن الثروة التي نملكها يمكن أن تغير البلد."