بعد سبع سنوات من حرب مميتة ومدمرة، يستخدم الآلاف من الآباء اليمنيين ما تبقى لديهم للقتال من أجل ضحية خفية لنزاع البلاد: وهي تعليم أطفالهم.
أحمد مهدي 50 عاماً، واحد منهم، سائق سيارة أجرة في العاصمة اليمنية صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون، يكافح لتوفير المال لتحمل تكاليف التعليم لأطفاله الثلاثة على الرغم من العبء المالي الإضافي انضم إلى آلاف الآباء الذين يدفعون رواتب للمعلمين في المدارس الحكومية المنقطعة رواتبهم منذ عام 2016.
وفي ذات العام نقلت الحكومة المعترف بها دولياً البنك المركزي من صنعاء إلى عدن بعد ذلك، توقف المعلمون عن الذهاب إلى المدرسة الحكومية التي التحق بها أطفال مهدي الثلاثة نتيجة انقطاع رواتبهم على غرار حوالي 170 ألف معلم. والعديد من الموظفين العموميين في أجزاء من البلاد يسيطر عليها الحوثيون.
اضطر العديد من المعلمين إلى ترك صفوفهم الدراسية وانتقل بعضهم إلى محافظات ومناطق سيطرة الحكومة حيث سيتم دفع رواتبهم، بينما شغل آخرون وظائف مختلفة لتغطية نفقاتهم اليومية.
ومع احتدام الصراع في البلاد إذ شهدت الأشهر القليلة الماضية تصعيدًا كبيرًا في الضربات الجوية والقصف والقتال البري إلا أن الآباء في المحافظات التي يسيطر عليها الحوثيون مثل صنعاء وإب، وذمار، تمكنوا من خلال الكفاح والعمل الإضافي من توفير رواتب للمعلمين من جيوبهم الخاصة خوفاً على أطفالهم من أنهم سيكونون أكثر عرضة للتجنيد الذي أصبح مشكلة طويلة الأمد في حرب اليمن.
يقول مهدي لـ The New Humanitarian "إن الوضع في البلاد صعب للغاية" مشيرًا إلى أنه يدفع للمدرسة الحكومية التي يتعلم فيها أطفاله في صنعاء شهرياً نحو 6000 ريال يمني (حوالي 11 دولارًا وفقًا لسعر الصرف الرسمي) "الوضع الاقتصادي صعب حقًا".
بالنسبة لمهدي فإن هذا المبلغ يمثل عبئًا ماليًا كبيرًا عليه بالنظر إلى حقيقة أن الاقتصاد اليمني قد انهار فعليًا. لكنه يأمل أن يكون الأمر يستحق ذلك. قال: "اضطررت إلى مضاعفة نوباتي لإعالة أسرتي وكذلك دفع تكاليف تعليم الأطفال".
•حل مجتمعي
من الصعب معرفة عدد الآباء الذين يتدخلون لدفع رواتب للمعلمين في المدارس الحكومية بشكل مباشر، لأن المبادرات غير رسمية إلى حد كبير.
لكن يحيى اليناعي المتحدث باسم نقابة المعلمين اليمنيين ومستشار وزارة التربية والتعليم، يقدر أن حوالي 49000 معلم في 8000 مدرسة يتلقون نوعاً من الدخل من العائلات اليائسة لإنقاذ تعليم أطفالها.
تقدر الأمم المتحدة أن حوالي 8.1 مليون فتاة وفتى في سن الدراسة في اليمن " بحاجة إلى دعم التعليم في حالات الطوارئ ". قد لا يتمكن الأطفال من الذهاب إلى المدرسة بانتظام لعدة أسباب بخلاف انقطاع الأجور: عندما تُجبر العائلات على الفرار من الصراع ، كما حدث لحوالي أربعة ملايين شخص في اليمن، غالبًا ما يتوقف تعليمهم.
تعني الظروف الاقتصادية الرهيبة أن بعض الآباء يشعرون أنه ليس لديهم خيار سوى تشغيل أطفالهم، والبنية التحتية مشكلة أيضًا، حيث تم تدمير أكثر من 2500 مدرسة أو إتلافها أو استخدامها لأغراض أخرى.
ووفقاً لليناعي الذي يعمل مع الحكومة المناهضة للحوثيين فإن "النتيجة المدمرة الرئيسية للحرب المستمرة هي أن أجيال الأطفال الأبرياء الذين تركوا دون تعليم أصبحوا أهدافًا سهلة للتجنيد من قبل الحوثيين".
ووثق مراقبو حقوق الإنسان تجنيد الحوثيين للأطفال في القتال: يقول أحد التقديرات الأخيرة إن 10300 طفل قد انضموا إلى صفوف المتمردين منذ عام 2014.
وذكر تقرير صدر في يناير / كانون الثاني عن فريق خبراء اليمن التابع للأمم المتحدة أنه تلقى قائمة تضم 1406 اطفال.
ويشير التقرير الى ان الحوثيين، جندوا مئات الاطفال الذين ماتوا في ساحة المعركة خلال عامي 2020، و 2021، كما اتُهمت القوات الموالية للحكومة باستخدام الأطفال كجنود وإن كان بدرجة أقل.
دفعت هذه المخاوف عامل البناء محمد عباد 47 عامًا، إلى تحمل التكلفة الإضافية البالغة 4000 ريال (16 دولارًا) شهريًا للمعلمين في المدرسة الحكومية في ريف محافظة إب حيث يواصل اثنين من أطفاله تعليمهم، وبالنظر إلى أنه يكسب ما بين 50،000-60،000 شهريًا في المجموع فهذا جزء كبير من دخله لافتاً إلى أن أنه قبل الحرب كان الآباء يدفعون 200 ريال فقط على كل طالب في بداية كل عام وهي رسوم للعام الدراسي كافة.
يقول عباد في بداية الصراع لم يتأثر تعليم أبنائه بالحرب إلى حد كبير كما كان الحال في إب ككل. لكن عندما توقفت الرواتب، توقف الكثير من المعلمين.
وأوضح: "كان الأطفال يذهبون إلى المدرسة ويعودون دون أي مكاسب تعليمية على الإطلاق". "كنا نخشى على مستقبلهم."
في أوائل عام 2017 اجتمع مجموعة من أولياء الأمور وزعماء القبائل وشخصيات اجتماعية في ريف إب، وتوصلوا إلى أفضل حل ممكن من خلال تدخل المغتربين في الخارج، ورجال الأعمال والميسورين لدفع رواتب لموظفي المدرسة.
ويعتقد عباد أن المدرسة التي يتعلم فيها أبناؤه كانت من أوائل المدارس في البلاد التي تتبنى هذا النموذج، ووصفها بأنها "نجاحاً كبيراً إذ بدأ الطلاب من جميع أنحاء المنطقة في التسجيل في المدرسة، قبل أن تبدأ مدارسهم بطريقة مماثلة. وفي السنوات التي تلت ذلك، أطلق الحوثيون ذلك النموذج في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم.
وتابع عباد: "لم يكن الأمر مفيدًا للطلاب فقط، فقد كان المعلمون بحاجة إلى هذا بقدر ما يحتاجه الآباء".
•ظروف المعلمين القاسية
يوافقه الرأي خالد محسن 40 عامًا الذي كان يدرس الرياضيات في مدرسة ثانوية في ريف إب حتى سبتمبر / أيلول 2016، عندما توقف عن تلقي راتبه ودُفع على الفور إلى الفقر.
أُجبر الأب لخمسة أطفال على التقشف وتخفيف الوجبات الغذائية واقتراض المال ، وبيع ممتلكاته، بينما كان يعمل أعمالًا أخرى أينما وجدها. إذ يقول "عملت في تحميل وتفريغ المواد الغذائية في محلات البقالة، وعملت في الحقول مع المزارعين.
حتى أنني بحثت عن عمل في محافظات يمنية عديدة.
ولكن بفضل مساهمات الآباء، تمكن من العودة إلى التدريس في عام 2019. وهو الآن يحصل على 40 ألف ريال يمني شهريًا (70 دولارًا)، وهو ما يمثل أقل من نصف المكافآت العادية البالغة 90 ألفًا من راتبه الرسمي. لكن كان ذلك كافياً لإعادته إلى القيام بما يفعله بشكل أفضل.
يقول : "على الرغم من أنها جزء بسيط مقارنة مع الرواتب الحكومية قبل انقطاعها، ولا تكاد تغطي الاحتياجات الأساسية لعائلتي فقد عدت إلى التدريس في المدرسة وأعيش في حالة تقشف".
وفقًا لليناعي فإن معظم المعلمين الذين يحصلون على المال من مجتمعاتهم مثل محسن هي مبالغ منخفضة مقارنة مع رواتبهم. مضيفاً "تدهورت الظروف المعيشية للمعلمين"، موضحًا كيف "تفاقمت أوضاعهم بسبب ارتفاع معدلات البطالة وتدهور العملة المحلية.
•تدهور الأوضاع الاقتصادية
إن انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين من بين العوامل المؤثرة في أزمة اقتصادية وإنسانية وصفتها الأمم المتحدة بأنها واحدة من أكبر الأزمات في العالم.
تركت الحرب الأهلية ما يقرب من 70 في المائة من سكان البلاد البالغ عددهم 30.5 مليون شخص بحاجة إلى نوع من المساعدة أو الحماية، ويعيش أكثر من 80 في المائة من السكان تحت خط الفقر.
خلال الفترة الماضية شهدت مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها انخفاضا في عملتها إلى مستويات قياسية إذ يوجد حاليًا أسعار صرف مختلفة في الأجزاء التي يديرها الحوثيون والحكومة في البلاد، مما يضيف تحديات للتجارة ويؤدي إلى تفاقم التضخم ويجعل الاحتياجات الأساسية باهظة الثمن بالنسبة للكثيرين.
من غير الواضح بالضبط عدد الأشخاص الموجودين في كشوف المرتبات العامة والذين لم يتلقوا رواتبهم - فبعضهم يتقاضون رواتبهم الآن من خلال مجموعة متنوعة من الطرق والبعض الآخر يتقاضون رواتب أقل من المعتاد أو بشكل غير متكرر، بينما لا يزال الآخرون لا يحصلون على أي شيء على الإطلاق.
قدر الخبير الاقتصادي في صنعاء رشيد الحداد عدد الموظفين العموميين المسجلين بحوالي 700 ألف شخص، بمن فيهم المعلمون.
وقال إن تعليق دخولهم العادية أثر على ما يقرب من 22 في المائة من القوى العاملة اليمنية ، "مما جعلهم فقراء".
وقال الحداد لـ The New Humanitarian إن انقطاع الرواتب "أدى إلى تآكل جزء كبير من الطبقة الوسطى في اليمن، الأمر الذي بالكاد يحافظ على استمرار اقتصاد البلاد"، مضيفًا أن الآثار قد امتدت إلى أجزاء أخرى من الاقتصاد: المعلمين والموظفين الحكوميين الآخرين غير القادرين لدفع الإيجار لديهم أيضًا أموال أقل لإنفاقها في المتاجر المحلية.
وبينما أشاد بجهود الآباء في دفع رواتب المعلمين من جيوبهم حذر الحداد من أن هذه المبادرات "تتوقف على القوى الاقتصادية للمجتمع التي تزداد ضعفاً". وقال إن المدفوعات الممولة من الوالدين "لن تدوم طويلاً إذا استمرت الحرب وتضاءلت احتمالات السلام".
إن تقليص رواتب المعلمين أمر لا يمكن تحمله بالفعل بالنسبة للعديد من اليمنيين: في بلد كان منذ فترة طويلة على شفا المجاعة لأن العائلات لا تستطيع تحمل تكاليف الطعام، لا يستطيع غالبية الآباء تقديم ما لديهم من القليل للتعليم.
من المحتمل أن يتمكن عدد قليل من اليمنيين الذين لا يزال لديهم الكثير من الأموال تحمل تكاليف التعليم في المدارس الخاصة، ثم هناك من يبدو أنهم يلتحقون بالمدارس العامة بناءً على صلات آبائهم: قال مدير مدرسة في صنعاء ، الذي طلب عدم الكشف عن هويته بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة، إن بعض العائلات استخدمت علاقاتها مع الحوثيين للاعفاء من دفع رسوم أطفالها.
وفي الوقت نفسه فإن الكثير من الآباء عالقون في مكان ما في الوسط، ويفعلون ما في وسعهم لتجاوز الأمر وابقاء أطفالهم يتعلمون.
ومع ذلك، يشعر البعض بالقلق من أنهم لن يتمكنوا من الاستمرار لفترة أطول.
سحر مهيوب 38 سنة، أم لخمسة أطفال في إب. يكسب زوجها حوالي 40 ألف ريال شهريًا كعامل باليومية، لكن من المتوقع أن يحتاج ما يصل إلى 6000 ريال شهريًا لإبقاء اثنين من أطفاله في المدرسة الثانوية.
قالت مهيوب : "لقد ألغيت كل الإنفاق الأسري غير الضروري وخفضت جميع النفقات لمساندة زوجي على سداد هذه الأقساط الشهرية". لا يمكننا مساعدة أطفالنا على تحقيق أحلامهم. ابني الأكبر يريد أن يصبح مهندسًا. إنه يعمل بجد من أجل ذلك. أنا فقط أدعو الله أن نتمكن من الاستمرار في تحمل هذه المدفوعات.