غالبًا ما يُحرم المدنيون الذين يجدون أنفسهم في خضم النزاعات المسلحة من أبسط حقوق الإنسان، حيث تُدمر منازلهم أو تُنهب، أو يتعرضون للهجوم أو الاستغلال أو القتل. وعندما يُجبرون على الفرار، يبحثون عن ملاذات آمنة في مجتمعات بعيدة عن خطوط المواجهة أو في مخيمات مؤقتة -مع أو دون الحصول على الغذاء، والماء، والرعاية الطبية، والمأوى. منذ 2015 قطنت عشرات الآلاف من العائلات كنازحين داخليًّا في محافظة الحديدة، على طول الساحل الغربي لليمن، ومن حين إلى آخر شُرد بعضهم مرات عدة. بيد أن بعضًا منهم لم يجد الأمن والاستقرار بعد، حتى مع قدرتهم على الوصول إلى منظمات الإغاثة.
شهد اليمن موجات نزوح نتيجة الحرب، ووجد النازحون من المحافظات الغربية، حجة وتعز ومحافظة عدن الجنوبية، ملاذًا آمنًا في الحديدة. وحين اندلع القتال داخل محافظة الحديدة نفسها منتصف 2018، لا سيما في مركزها، مدينة الحديدة، ومحيطها، لجأ العديد من السكان الذين فروا من منازلهم إلى أماكن أخرى في المحافظة. لم يقتصر النزوح عليهم فقط إذ في بعض الأحيان نزح سكان آخرون في المحافظة من مناطقهم بسبب الأمطار الغزيرة والفيضانات. أوائل عام 2021، بلغ العدد الإجمالي للنازحين الذين يحتاجون إلى المعونة الإنسانية في الحديدة 425,059، مع اعتبار أن 40٪ منهم يواجهون ظروفًا “كارثية”.
يعيش العديد من النازحين داخليًّا في الأحراش أو المناطق الجبلية أو الصحراوية في الحديدة، وهي أماكن تفتقر إلى الخدمات ولا توفر سوى القليل من المأوى أو الطعام أو الماء. وغالبًا ما تنفصل العائلات أثناء بحثها عن طرق لكسب المال. وتحدث نازح يقطن في مقبرة كيف تكسب العائلات لقمة العيش من خلال دفن الموتى مقابل الماء ومبلغ بسيط من المال. نادرًا ما يشق عمال الإغاثة الإنسانية طريقهم إلى هذه المناطق المعزولة. هذا يعني أنه حتى عند تسجيل أنفسهم كنازحين من خلال السلطات المحلية، لا يتلقى النازحون بالضرورة المساعدة التي يحتاجونها. على سبيل المثال، هناك نازحون يعيشون في خيم وظروف قاسية في مناطق المصنجية والوهيبية الصحراوية بمديرية الدريهمي، جنوب مدينة الحديدة، ولم يُوفر لهم لوازم المأوى أو يُزودوا بالمياه.
وبالرغم من الترحيب بالنازحين داخليًّا في بادئ الأمر، فإنه غالبًا ما يتلاشى حيث تكافح المجتمعات المضيفة لتحمل الضغط الإضافي على الخدمات التي قد تكون غير كافية بالأساس. كما تحدث النازحون عن تعرضهم للتحرش والرفض. على سبيل المثال، قالت عاملة في المجال الإنساني إن سكان مديرية السخنة في وسط الحديدة رحبوا في البداية بالنازحين عام 2018. لكن مع مرور الوقت، ازداد الاستياء تجاههم والمضايقات ضدهم، ما دفع بالكثير من العائلات إلى مغادرة منازلها المؤقتة، وانتقلت بين مديريات السخنة والمنصورية والمراوعة. وأضافت أن بعضهم توجه إلى مناطق صحراوية نائية رغم ارتفاع درجات الحرارة وقلة الموارد.
أثرت الحرب على الخدمات الحكومية في الحديدة، مثل الكهرباء والماء، على غرار الكثير من مناطق اليمن، فضلًا عن مرافق الرعاية الصحية في المحافظة، والتي غالبًا ما تعاني من نقص الموظفين والأدوية والمعدات. كانت الضروريات الأساسية شحيحة داخل مدينة الحديدة لأولئك الذين بقوا خلال الأزمة عام 2018 أو عادوا بعد ذلك بوقت قصير. دمرت الخنادق التي حفرها المقاتلون الحوثيون والغارات الجوية للتحالف شبكات المياه والصرف الصحي، وتركت عدة أحياء في المدينة دون مياه. وحتى اليوم، يعطّل انقطاع التيار الكهربائي مضخات المياه لتنقطع عن أجزاء من المدينة. ويسير الناس، وهم عادة من النساء والأطفال، لمسافات طويلة لملء أباريق المياه الخاصة بهم.
بالنسبة للنازحين، يؤثر نقص الوصول إلى الرعاية الصحية مع مرور الوقت بشدة على الأشخاص المعرضين للخطر بشكل خاص. وبشكل عام، فإن المنظمات الدولية التي تقدم المساعدات الطبية لليمن لا تؤمّن العلاج للحالات المزمنة. شيماء، 7 أعوام من مديرية الدريهمي، تحتاج إلى علاج طبيعي مستمر للشلل الدماغي، الذي يسبب اضطرابات في القدرات الحركية. كانت شيماء تتلقى العلاج وتظهر عليها علامات التحسن حتى أغسطس/آب 2018، عندما أُجبرت عائلتها على الفرار من القتال في الدريهمي. انتهى بهم المطاف في منطقة نائية خارج المديرية حيث الطرق رديئة ولا توجد مرافق قادرة على تلبية احتياجات شيماء الطبية. تدهور وضعها وأصبحت طريحة الفراش، وهي واحدة فقط من نازحين كثر يعانون أمراض مزمنة ولم يتلقوا العلاج لفترة طويلة.
يتحدث العاملون المحليون في المجال الإنساني عن الصعوبات والانتهاكات داخل مناطق النازحين في الحديدة، بدءًا من عملية التسجيل التي تشوبها الكثير من العيوب، فضلًا عن الصعوبات في الوصول إلى المساعدات واستغلال النساء والأطفال. ونظرًا لحساسية الموضوع والخوف من تداعياته، فضّل الأشخاص الذين تمت مقابلتهم، وهم تسعة أفراد منخرطين في قضايا النازحين داخليًا كعاملين في المجال الإنساني أو نشطاء، إخفاء هويتهم.
غالبًا ما يتولى تسجيل النازحين في الحديدة أشخاص يُعينون لصلاتهم بالمسؤولين في المنظمات المحلية على الأرض أو داخل السلطات التي تشرف على المخيمات والقضايا الإنسانية. وبالتالي، غالبًا ما يكون هناك عدم إلمام بالمبادئ الإنسانية وافتقار للخبرة في مجال الإغاثة، وكثيرًا ما تُسجل المعلومات الأساسية مثل أسماء الأفراد والبيانات الشخصية بشكل غير دقيق.لا تشمل قوائم التسجيل بالضرورة جميع أفراد العائلات الكبيرة، حيث أوضح عامل إغاثة أنه غالبًا ما يُسجل ذكر بالغ، فيما يجري تجاهل أخواته، وخاصة الأرامل، ما يعني أن مخصصات الطعام لا تفي باحتياجات الأسرة الكاملة.
يواجه النازحون مشاكل ترتبط بالمساعدات التي يتلقونها لأسباب مختلفة. على سبيل المثال، النازحون الذين يعيشون في المناطق المفتوحة، في الوديان وبالقرب من مجاري الأنهار الجافة المعرضة للفيضانات، يكافحون لتخزين الطعام بشكل صحيح. توفر سلال الطعام الأساسيات -الدقيق والزيت والسكر وما إلى ذلك -ولكن من أجل إعداد وجبات مناسبة ومتنوعة فعليًّا، يجب على النازحين بيع أو استبدال قسائمهم. يشتري التجار هذه القسائم ويعيدون بيع المساعدات، وتستخدم العائلات هذا المال لشراء سلع من الأسواق المحلية. كما أن مشاريع المياه التي تنفذها المنظمات الإنسانية لا تغطي احتياجات النازحين طويلة المدى للحصول على إمدادات يُعتمد عليها، حيث توفر فقط التوزيع الدوري في أطر زمنية قصيرة.
وجد بعض النازحين منازل للإيجار، لكنهم لم يجدوا عملًا، مما أدى في النهاية إلى إخلائهم من هذه المساكن. قالت عاملة في المجال الإنساني إن رجلًا نقل أسرته المكونة من سبعة أفراد من منزل إلى منزل عدة مرات، كونه لم يستطع تحمل الإيجارات المتضخمة التي يفرضها أصحاب العقارات في المناطق التي يتدفق فيها النازحون. وقال عامل آخر في مجال العمل الإنساني إنه حين دمر القتال منازل النازحين المؤقتة، كان المجتمع المضيف يشعر بالاستياء أصلًا من وجودهم. أعاد العديد من النازحين بناء مساكن مؤقتة خارج المجتمع، حيث أقاموا ملاجئ في المناطق المنخفضة التي جرفتها الأمطار الغزيرة والفيضانات لاحقًا، مما اضطرهم للانتقال، للمرة الثالثة على الأقل.
وفقًا للنازحين وعمال الإغاثة، فإن النازحين، لا سيما النساء والأطفال، يفتقرون في المناطق التي يقطنونها، سواءً في مناطق سيطرة جماعة الحوثيين المسلحة أو الحكومة إلى السلامة الشخصية والحماية من الاستغلال بأشكاله المتعددة. في بعض الأحيان، يضطر النازحون إلى دفع أموال مقابل إضافتهم لقوائم التسجيل؛ وقالت عاملة ميدانية إنه تعيّن على نازحة تنظيف منزل قبل تسجيلها كنازحة. وقالت نازحة أخرى اُعتقل زوجها إنها اضطرت أن تقبل التحرش بها مقابل الحصول على معلومات عنه. وقال أب نازح في منطقة بالحديدة يسيطر عليها الحوثيون، لعمال الإغاثة الذين زاروا المنطقة، إن الطريقة الوحيدة لكسب العيش هي قبوله التحرش الجنسي الذي تتعرض له بناته القاصرات على يد مشرفي المخيم.
وقال موظف في المجال الإنساني إن بعض الأسر زوجت بناتها في سن مبكرة ليكون الزوج مسؤولًا عن حمايتها وضمان عدم اغتصابها أو استغلالها جنسيًّا من قِبل المشرفين الأمنيين في المخيمات. اتخذت هذه الأسر هذا القرار عقب انتشار أخبار عمليات الاغتصاب في مخيمات النازحين في المناطق الساحلية التي تسيطر عليها قوات موالية للتحالف بقيادة السعودية في المحافظة. كما وُظف أطفال كعمالة رخيصة، ووفق ناشط حقوقي فإن صبيًّا نازحًا يبلغ من العمر 9 سنوات يعمل في مزرعة مقابل 1,500 ريال (2.50 دولارًا أمريكيًّا) في الأسبوع، وفي نهايته يعود إلى منزل عائلته في منطقة القطيع. هذه الظروف تترك الأطفال تحديدًا عرضة للمفترسين الجنسيين.
يبدو أن العاملين في المجال الإنساني على دراية بالفشل في حماية ومساعدة النازحين في الحديدة. وتشمل الأسباب التي ذكرها الأشخاص الذين تمت مقابلتهم معوقات الأمن والوصول، وتأخير التصاريح وغيرها من العقبات التي تفرضها السلطات، فضلًا عن العجز في مساءلة الموزعين المحليين للمساعدات لضمان تسليمها بشكل مناسب. من بين التحديات الأخرى، يفتقر النازحون إلى وثائق الهوية الرسمية، التي تُفقد أو تُتلف أثناء مغادرتهم على عجل، وبالتالي فإن تلقي الخدمات بدونها يصبح صعبًا أو مستحيلًا. وتحدثت عاملة ميدانية عن أحد النازحين الذي انتحر، قائلة إنه أُصيب بالاكتئاب والإحباط بسبب عدم قدرته على الحصول على الخدمات دون وثائقه الرسمية.
في المجمل، الاحتياجات الأساسية للنازحين في محافظة الحديدة لم تُلبَ بشكل كافٍ أو ثابت، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال وأقل قدرة على التعامل مع صعوبات فقدان منازلهم ومجتمعاتهم ويجعلهم بحاجة إلى إعادة بناء حياتهم. وعلى الرغم من المعوقات، فإن المنظمات الإنسانية المحلية والدولية ومجتمع المانحين الدوليين بحاجة إلى التعاون والتدخل.
إن مواجهة العراقيل الرسمية والفساد معًا يلزم السلطات على العمل بشكل أكثر فاعلية في تمكين وصول المساعدات الإنسانية بدلًا من إعاقتها. على سبيل المثال، يمكن الضغط على السلطات لتأمين الطرق والسماح بوصول المساعدات. والضغط على عمال الإغاثة لإجراء تقييمات مباشرة لاحتياجات النازحين وتسريع طلبات الحصول على تصاريح لمشاريع المساعدات والسماح للعاملين في المجال الإنساني بمتابعة وضمان وصول المساعدات المرسلة للمحتاجين. كما أن الإصرار على السلطات لإصدار وثائق تسمح للنازحين الذين فقدوا بطاقاتهم التعريفية للوصول إلى برامج المساعدة سيخفف أيضًا من الأعباء عن كاهل العديد من الأشخاص.
يمكن للجهات المانحة الدولية والمجتمعات الإنسانية أن تكون أكثر فاعلية إذا نوّعت آليات تمويلها بحيث تكون البرامج قادرة على تقديم مساعدات الطوارئ عند الحاجة، إضافة إلى الخدمات المستدامة. يجب أن يستهدف تمويل المانحين النازحين والمجتمعات المضيفة على حد سواء،[21] وعندما يُوجه هذا التمويل نحو الإنعاش الاقتصادي، فإنه سيخلق فرص عمل لكلا المجتمعين.
المنظمات الإنسانية المحلية عليها التزامات أيضًا تتجاوز ضمان تأهيل وكفاءة من توظفهم لتنفيذ عمليات توزيع المساعدات. يمكنهم، بمساعدة منظمات المجتمع المدني الأخرى، تخفيف النزاعات بين المجتمعات المضيفة والنازحين عبر الاستماع إلى احتياجات كل منهما، إضافة إلى العمل مع المجتمعات المضيفة لاقتراح خطط تقدم إلى المنظمات المناسبة. يمكن أن تشمل الخدمات المقدمة للنازحين المجتمعات المضيفة عند الضرورة. هناك العديد من الخدمات التي ستفيد النازحين والمجتمعات المضيفة مثل التدريب المهني والدعم النفسي والتغذية والمساعدة التعليمية. من المهم للغاية أن تهدف الخدمات إلى تحسين وضع النازحين على المدى الطويل وضمان استدامة المجتمع حتى حين تنسحب منظمات الإغاثة من منطقة ما أو ينتهي التمويل. عندها فقط سيصبح من الممكن تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي العام.
نص المقال من موقعه الأصلي على الرابط:
أنسام علي، اسم مستعار لأسباب أمنية، هي باحثة يمنية خاضت تجربة النزوح.