يبدو تنظيم القاعدة في اليمن الآن أضعف من أي وقت مضى تقريبًا منذ اتحد فرعاه السعودي واليمني لتشكيل “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” عام 2009.
بلغت حظوظ التنظيم ذروتها عام 2015 عندما أنشأ كيان يشبه الدولة في مدينة المكلا الساحلية الشرقية، مستفيدًا من الفراغ الأمني والمذهبية المتزايدة مع تدويل الحرب الأهلية اليمنية.
إلا أن السنوات الخمس الماضية شهدت تراجعه المطرد. واليوم، لم يعد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قادرًا على حكم الجيوب التي يوجد فيها أو يسيطر على أراضي أو حتى يعمل بفعالية في الخفاء، كما ان تواتر عملياته أقل من 10٪ من أوج حرب العصابات التي شنها عام 2017، غير أنه سيكون من السابق لأوانه القول إن التنظيم اندثر.
إن التراجع الحالي لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب ناتج عن تحديات كثيرة واجهها الجهاديون على الصعيدين الخارجي والداخلي. جاءت الضغوط الخارجية من الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب التي تكثفت بعد عام 2016 حين طُرد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من المكلا من قِبل القوات الإماراتية وحلفائها المحليين.
لم تكن تلك هزيمة بقدر ما كانت قرار استراتيجي بالانسحاب لتجنب حرب المدن والخسائر الفادحة.[32]
أدى تجنيد الإمارات لاحقًا للقوات المحلية في مناطق رئيسية عبر الجنوب إلى زيادة الضغط على تنظيم القاعدة، ليس فقط على صعيد مكافحته، بل على مستوى تعطيل قدراته على تجنيد العناصر واستبقائهم.
وبدا انزعاج القاعدة وقلقه من إنشاء هذه القوات الجنوبية المدعومة من الإمارات واضحًا في أربعة بيانات على الأقل أصدرها عام 2017 تحذّر القبائل المحلية من الانحياز إلى القوات الجديدة.[33]
في بعض المناطق، استغل التنظيم الاستياء الناجم عن تزايد نفوذ الإمارات في الجنوب ودعمها للمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي الذي تشكّل عام 2017، فضلًا عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات المدعومة إماراتيًّا تحت ذريعة الحفاظ على الأمن. إلا أنه بشكل عام، تدهور التنظيم بشكل متتابع، وبحلول أواخر 2018 اقتصر نشاطه العملياتي إلى حد كبير في محافظتي البيضاء وأبين.
كما عانى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من ضغوط داخلية نتيجة مخبرين وعملاء محرضين جُندوا من داخل الحركة الجهادية نفسها أو زُرعوا داخلها. بحلول أواخر 2017، شلت الهجمات الأمريكية المستمرة بطائرات دون طيار قدرته التنظيمية إلى حد كبير. قدر قادة التنظيم أن أكثر من 400 جهادي لقوا حتفهم كنتيجة مباشرة للخيانة،[34] ما دفع التنظيم إلى أخذ تدابير صارمة حيث حظر على أعضائه استخدام الهواتف النقالة والإنترنت وشرع بتحقيق شامل في مشكلة التجسس.[35]
عُرض التحقيق الداخلي للتنظيم في سلسلة وثائقية بعنوان “هدم الجاسوسية،” استمرت من 2018 حتى 2020، كان الغرض منها كسب التعاطف وتشكيل رادعًا.[36] كُلِّف إبراهيم البنا، وهو جهادي مصري مخضرم يتمتع بنحو ثلاثة عقود من الخبرة في بناء شبكات القاعدة باليمن، بما في ذلك بين الحوثيين،[37] بمسؤولية التحقيق.
تكشف خمسة مقاطع فيديو مطوّلة (مقدمة زائد أربع حلقات) بقدر كبير من التفصيل كيف استسلم الجهاديون وأفراد أسرهم، بما في ذلك الأطفال، للابتزاز والإغراء وسرّبوا المعلومات، ووضعوا أجهزة تعقب، وباعوا إخوانهم. كانت المشكلة بليغة للغاية لدرجة أن التنظيم قرر أواخر 2019 إصدار عفو وعدم الكشف عن جميع المخبرين الذين اعترفوا طواعية وأعلنوا توبتهم.[38]
كشف التنظيم أيضًا عن حملة تضليل داخلية متعمدة تهدف إلى إثارة الخصومات وزرع الشكوك وإذكاء التوترات. حدث هذا على مستويين: داخل الحركة الجهادية الأوسع نطاقًا بين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وتنظيم الدولة الإسلامية في اليمن؛ وداخل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب نفسه.
سرعان ما تلاشت موجة الحماس الأولية التي تمتع بها تنظيم الدولة الإسلامية عامي 2014 و2015، وأصبح التنافس بين التنظيمين شرسًا.[39] منحت الشبكات القوية لتنظيم القاعدة وانسجامه الثقافي، والفترة الطويلة لتواجده في اليمن اليد العليا على تنظيم الدولة الإسلامية، لا سيما بعد القضاء على هذا الأخير في أعقاب الغارات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة على معسكري التدريب التابعين له في البيضاء في أكتوبر/تشرين الأول 2017.[40] ولكن بعد بضعة أشهر، ظهر تجسيد جديد لتنظيم الدولة الإسلامية، وبدا أن هدفه الوحيد هو استفزاز تنظيم القاعدة بدلًا من محاربة قوات الحوثيين.[41] بحلول منتصف 2018، تحوّل التنافس بين التنظيمين إلى حرب مفتوحة في البيضاء استمرت لمدة عامين تقريبًا واستنزفت معظم طاقاتهما.
بحلول أواخر صيف 2020، انتهى وجود عناصر التنظيمين في محافظة البيضاء إلى حد كبير في أعقاب هجوم الحوثيين، والذي صُوّر على أنه عملية لمكافحة الإرهاب. على الأرجح، اعتمد “نجاح” الحوثيين على مزيج من القتل الملفت للنظر والتفكيك السري في حالة تنظيم الدولة الإسلامية،[42] مقترنًا بمخرج تفاوضي لتنظيم القاعدة، الذي انتقل مقاتلوه إلى مأرب أو توجهوا جنوبًا للابتعاد عن الأنظار أو الانضمام إلى جبهات قتال جديدة اشتعلت بين القوات الموالية للحكومة اليمنية والقوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي.
كانت نتيجة هذه الضغوط الخارجية والداخلية المختلفة التي واجهها تنظيم القاعدة -الاقتتال الداخلي، والشك، وارتفاع معدل تناوب القيادات فيه والشلل التنظيمي الذي أحدثه- هو تشرذمه. ظهرت أبرز الخلافات حين تسربت أنباء عن انشقاق مجموعة كبيرة من مقاتلي التنظيم عام 2019 بقيادة منصور الحضرمي، قائد التنظيم في قيفة الذي أُقيل من منصبه، وأبو عمر النهدي، الأمير السابق للتنظيم في المكلا. أُشيع أن النزاعات كانت تدور حول قرارات عملياتية مثيرة للجدل، بما في ذلك بعض القرارات التي يبدو أنها تنحاز لميليشيات موالية للحكومة ومتحالفة مع الإصلاح،[43] والشكوك حول صحة اتهامات التجسس التي شهدت إعدام عناصر لهم مكانتهم داخل التنظيم.[44] كان الخلاف خطيرًا بما يكفي لدرجة دفعت بالتنظيم إلى التطرق إليه مباشرة في مايو/أيار 2020 عبر إصدار بيان غير مسبوق مؤلف من 18 صفحة، وهو أطول بيان له على الإطلاق.[45]
وأيًّا كانت الحقيقة وراء هذا الأمر وغيره من الخلافات، يظل الأمر الواضح هو أن الخلافات الداخلية العميقة بشأن الأولويات والولاءات قد تصاعدت، وأن خالد باطرفي، الذي خلف قاسم الريمي كزعيم للتنظيم أوائل 2020 بعد مقتل الأخير في غارة أميركية، أثبت أنه شخصية قيادية مثيرة للجدل.
من المرجح أن تنظيم القاعدة، الذي بات ضعيفًا ومتشرذمًا، يصنع الآن قضية مشتركة مع المزيد من الميليشيات الرئيسية النشطة في حرب اليمن،[46] سواء على أساس اختيار براغماتي أو ضرورة عملية. هناك عدة مجالات تتداخل فيها المصالح الجهادية مع المصالح السياسية والاقتصادية والجنائية المتنوعة التي تشمل الاستفادة من الحرب، وإذكاء التوترات داخل التحالف الذي تقوده السعودية، وإفساد الطموحات الديمقراطية، وإفشال اتفاق الرياض المبرم عام 2019، وسحق الآمال في إقامة دولة جنوبية منفصلة، والتي يعتبرها الجهاديون حدودًا من صنع الإنسان تقسّم الأمة وتعود بها إلى أيام الاشتراكية الملحدة.
نتيجة لذلك، أصبح من الصعب تعريف تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. وبناء على ذلك، تميل تسمية “القاعدة في جزيرة العرب” اليوم إلى أن تكون مرتبطة بطائفة أوسع من الجهات الفاعلة، سواء من جانب وسائل الإعلام أو من قِبل أولئك الموجودين على الأرض. فهو لم يعد يمثل بالضرورة جماعة متلاحمة ومنظمة على أسس أيديولوجية دينية، بل هو مصطلح أكثر شمولية لفلول متباينة انضمت إلى مختلف الميليشيات التي تخدم أجندات سياسية واقتصادية في الغالب. بعبارة أخرى، يبدو أن مختلف عناصر القاعدة قد استُخدموا من قِبل الأطراف المتحاربة. لكن من الصعب التمييز بوضوح بين الجهاديين المنشقين وأطراف متحاربة محددة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الولاءات غير ثابتة والأطراف الفاعلة في اليمن تعاني من انشقاقات داخلية عميقة.
ولكن طبعًا، نفى الذراع الإعلامي الرسمي لتنظيم القاعدة وجود أي من هذه الصلات. في سبتمبر/أيلول 2021، أصدر كُتيبًا مطولًا يؤكد استقلال التنظيم استقلالًا تامًا عن أي دولة أو حكومة أو وكيل (باستثناء ملحوظة واحدة هامة للغاية: “التنظيم الأم (القاعدة المركزية) مرتبطة بإمارة أفغانستان الإسلامية.”[47] وحقيقة أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب شعر بأنه مضطر إلى إصدار هذا الدحض وإعادة تأكيد استقلاليته “في ضوء الأسئلة العديدة المثارة حول التنظيم من قِبل أعضاء جدد وخارجيين على حد سواء” تشير إلى أن هناك تساؤلات ينبغي الإجابة عليها وأن هناك تصور سائد لدى البعض، داخل وخارج الحركة الجهادية على حد سواء، أن الجماعة أقامت تحالفات ضمنية في محاولة للبقاء.
ما تزال الأهداف الأساسية لتنظيم القاعدة على حالها، وأُعيد تأكيدها بحزم في كتيّبه الصادر في سبتمبر/أيلول 2021: طرد الكفار من الأراضي الإسلامية، وإقامة دولة الخلافة في نهاية المطاف. علاوة على ذلك، بينما قد تكون قدرة التنظيم على مهاجمة الغرب محدودة، يظل طموحه في القيام بذلك حازمًا، حيث تتصدر الولايات المتحدة قائمة أعدائه. عُبر عن هذا بوضوح في الفيديو الأخير الذي أصدره التنظيم في أكتوبر/تشرين الأول 2021، “رسالة إلى الشعب الأميركي: لم تفهموا الدرس بعد.”[48]
لا شك أن التنظيم في وضع سيئ، ولكن يجب عدم التهاون. فقد كان التنظيم في موقع المهزوم من قبل: عام 2012 بعد إجباره على الخروج من “إمارته” الصغيرة في أبين وشبوة؛ ومرة أخرى عام 2016 بعد انهيار كيانه الذي يشبه الدولة في المكلا وحين تعرض لهجمات مكثفة بطائرات دون طيار كبدته خسائر في أرواح كبار قادته العسكريين والروحانيين. إلا أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لديه القدرة على البقاء إذ يتطور ويتعلم ويتكيّف. وفي حين يمكن قتل المقاتلين الجهاديين أو اعتقالهم أو انشقاقهم، لا يمكن القضاء على الأيديولوجية الجهادية. وبالتالي، لا يمكن القضاء حقًا على هذا التهديد، وإنما إدارته فقط.
من قبيل المفارقة أن وقف إطلاق النار يمكن أن يوفر حافز للعودة. فبعد سبع سنوات من الصراع، وفي بعض المناطق، تترسخ دورات أكثر من الانتقام، ومن غير الواضح إلى أي مدى يعكس القادة العسكريون والسياسيون لسان حال القوات المحلية في الميدان أو يسيطرون عليها. وإذا لم تكن محادثات السلام المأمولة تتمتع بالشمولية الكاملة، أو إذا لم يكن لأولئك الذين يتم اختيارهم للمشاركة في هذه المحادثات نفوذًا حقيقيًّا بين السكان الذين يزعمون أنهم يمثلونهم، فإن تنظيم القاعدة قد يغتنم الفرصة للظهور من جديد. لدى التنظيم سجل حافل في تسخير أوجه المظالم المحلية واستغلالها لتتناسب مع سرديته الجهادية العالمية. ولذلك سيكون من الحكمة أن نعتبر أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في سبات وليس مهزومًا.
*إليزابيث كيندال هي زميلة أبحاث أولى في الدراسات العربية والإسلامية في كلية بيمبروك بجامعة أكسفورد.