[ تفجيرات مطار عدن ]
"كنت في طريقي إلى تغطية حدث عادي، فإذا بي أجد نفسي في ساحة معركة"... تحوّلت الصحافة في اليمن إلى لعبة مطاردة مع الموت.
في اليمن حين تسمع خبر موت صحافي، يداهمك على الفور سؤال: من قتله؟ وكأن ذاكرتنا المكتظّة بصور الموت العنيف لم يعد فيها متسع للموت التقليدي. ذلك الذي يزورك في هدوء وأنت في سريرك. غادرنا الموت المجلّل بالسكينة، ليحل مكانه موت الرصاص والدم والأجساد الممزقة. في اليمن كنا نتمنى أن نعيش بسلام، بتنا نحلم أن نموت بسلام.
“وصلتُ مطار عدن قرابة التاسعة صباحاً، كان الازدحام شديداً”. يبدأ ماجد الشعيبي، رئيس تحرير موقع “البعد الرابع” اليمني، حديثه عن تفجيرات مطار عدن التي حدثت في 30 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، والتي ترافقت مع وصول طائرة تقلّ أعضاء الحكومة اليمنية الجديدة إلى المطار. يكمل، “غمرني التفاؤل، الحكومة في طريقها إلى عدن، ما يعني عودة الخدمات إلى المدينة وانتعاش الحياة. عودة الحكومة كانت حدثاً بنينا عليه آمالاً كثيرة”.
تفاؤل خالطه شيء من القلق. “كنت أخشى استهدافاً من نوع ما”. وهذا ما حصل. “سقط الصاروخ الأول، بعد دقيقة أو أقل ضرب الصاروخ الثاني المنصة التي اصطف فيها الصحافيون مع معداتهم، وأخيراً سقط الصاروخ الثالث، رأيت عسكريين يطلقون رصاصاً كثيفاً، وأشخاصاً يركضون بهلع وسط الجثث، قلت إن الحكومة ستغادر، عندها تملّكني اليأس”.
التفجيرات الثلاثة خلّفت 135 قتيلاً وجريحاً بحسب ما ذكر وزير الصحة الدكتور قاسم بحيبح عبر حسابه في “تويتر”، وكان من بين القتلى مراسل قناة بلقيس أديب الجناني. يتابع ماجد: “كنت أجلس بجوار أديب، عند حدوث التفجير تحركنا من أماكننا، ثم رأيته من بعيد يترنّح ويسقط على الأرض”.
"صحافيون مسعفون"
صلاح العاقل، مراسل قناة “روسيا اليوم” في عدن، يتذكر تفاصيل اليوم الدامي.”هبطت الطائرة، نزل أولاً اللواء شلال علي شايع (مدير أمن عدن السابق). ما لبث أن سقط الصاروخ الأول وأصاب قاعة الزعفران التي كانت معدّة لاستقبال أعضاء الحكومة، ثم سقط الصاروخ الثاني، تلاه الثالث، ركضت بحثاً عن مكان آمن أختبئ فيه”.
تحوّل صلاح إلى مسعف. “رأيت شخصاً بدا أنه مصاب بكسر في رجليه. حملته، علمت لاحقاً أنه وكيل وزارة الثقافة بدر الصلاحي، تمكّنا من إسعافه، كما أسعفنا زميلة صحافية كانت في حالة صدمة شديدة. شاهدت قرابة 5 جثث متفحّمة. كان حجم الدمار هائلاً”.
لم تكن المرة الأولى التي يواجه فيها صلاح الموت، اقترب منه أكثر من خمس مرات خلال تغطيته أحداثاً مختلفة، عدا التهديدات التي وصلته بعد اغتيال صديقه المصوّر نبيل القعيطي (مصور وكالة فرانس برس، اغتاله مجهولون قرب منزله في عدن في حزيران/ يونيو 2020). “بعد اغتيال نبيل وصلتني رسائل تهديد، عُرضت عليّ مغادرة اليمن أنا وأسرتي لكنني رفضت”. سألته: “لماذا؟”. أجاب: “لو أن كل من تعرّض لتهديد غادر البلد فلن يبقى فيه أحد”.
دليل يوسف مراسل قناة “اليمن اليوم” تحوّل هو الآخر إلى مسعف تحت ضغط الحدث الكارثي. “كنت أنقل على الهواء تقريراً بوصول الحكومة، وفي لحظة الختام سمعت صوت التفجير، حالة الهلع التي سادت جعلت من الصعب أن أدرك على الفور ما الذي حصل. صرخ بي زميلي صلاح العاقل: اذهب واحضر سيارة إسعاف. لم نجد واحدة، اضطررنا إلى نقل المصابين على العربات التي تحمل حقائب المسافرين في المطار. لم أتوقع ما حدث، لم أكن مهيأ له، كنت في طريقي إلى تغطية حدث عادي، فإذا بي أجد نفسي في ساحة معركة”.
"أمومة تحت النار"
علياء فؤاد صحافية مستقلة، تروي ما حدث لها. “بعد سقوط الصاروخ الأول، لمحت أحد جنود التحالف بشظية منغرزة في وجهه، الأمر الذي تسبب لي برعب لا يوصف، ضاعفه حدوث إطلاق نار كثيف، شعرت بأنني محاصرة بين صواريخ من الجو ورصاص على الأرض، كنت أصرخ وأركض في حالة هستيرية. حين وصلت إلى مدرّعة تابعة للتحالف أغمي علي”. ساعدها زملاءها على الاختباء في مكان آمن، تتابع علياء وهي أم لفتى في الخامسة عشرة. “بعدما أفقت فكرت بابني… خشيت أن يعلم بالخبر من القنوات التلفزيونية، بادرت إلى طمأنته برسالة”. أطلعتني علياء على المحادثة، (أنا بخير، حصل تفجير في المطار، نحن محاصرون لكنني بخير). كان توقيتها بعيد الانفجار بقليل، لفتني فيها أن هول الحدث لم ينسها أن تشدّد عليه بضرورة أن يتناول غداءه. “يلحّ علي ابني بترك العمل الصحافي، لكنني أطمئنه أنني نجوت من الموت أكثر من مرة، فلا داعي للقلق”.
"السلامة المهنية مسؤولية مشتركة"
لم يلتحق أي من الصحافيين الذين قابلتهم بدورات في الأمن والسلامة المهنية، الأمر الذي يستدعي الحديث عن مستوى تأهل الصحافيين في مجال قد تتوقف عليه حياتهم. فعام 2020 قتل ثلاثة صحافيين ليرتفع عدد الذين قتلوا منذ بداية الحرب عام 2015 إلى قرابة 46 صحافياً بحسب إحصاءات “نقابة الصحافيين اليمنيين”.
محمود ثابت رئيس فرع “نقابة الصحافيين اليمنيين” في عدن، يذكر في حديث خاص أن السلامة المهنية للصحافيين مسؤولية مشتركة تقتسمها كل من المؤسسات الإعلامية والصحافيين أنفسهم. “يفترض بالمؤسسات حين تكلّف الصحافيين العاملين لديها بتغطية الأحداث في منطقة صراع مثل اليمن، أن تتأكد أولاً من أنهم يتمتعون بالقدر الكافي من الوعي والتأهيل في مجال السلامة المهنية والإسعافات الأولية”. الجزء الآخر من المسؤولية يتحمله الصحافي. “كثر من الصحافيين تدفعهم الحماسة المفرطة إلى تحقيق سبق صحافي إلى التهاون في تطبيق مبادئ السلامة المهنية”. ويذكر أمثلة كأن ذلك كأن يقحم الصحافي نفسه وسط فوضى الحشود، أو أن يغامر بالذهاب إلى أماكن الاشتباكات المسلّحة من دون تفكير في العواقب. ويرى أن الحذر يعدّ من أول مبادئ السلامة. كما يشدد على ضرورة أن يمارس الصحافي عمله بمهنية، أن يهتم بنقل الحقيقة وحسب، بعيداً من التحيز لأي من أطراف الصراع حتى لا يكون هدفاً لتلك الأطراف.
ويؤكد محمود ثابت أنه عام 2020 عقدت النقابة ثلاث دورات في عدن بالتنسيق مع “الاتحاد الدولي للصحافيين” في مجال السلامة المهنية والإسعافات الأولية. تشمل أيضاً جانب السلامة النفسية، وكيف يتعامل الصحافي مع آثار الصدمات التي تخلّفها تجارب الاقتراب من الموت والنجاة منه. ويرى أن هذه الدورات لا تزال غير كافية، لكنّ هناك خططاً بزيادة عددها عام 2021.
تحوّلت الصحافة في اليمن إلى لعبة مطاردة مع الموت. لم يعد الخطر يتهدد الصحافي المرابط في ساحات المعارك. بات اليمن بأكمله ساحة قتال مفتوحة على المجهول، يربض الموت في زوايا الأحداث العادية، كأن تغطي حفلاً أو مؤتمراً صحافياً. ولأن لا شيء عاديّاً في اليمن، فلا أقل من أن نزوّد الصحافي بالحد الأدنى من التأهيل الذي يضمن نجاته وسلامته النفسية.
#يمن_فيوتشر