تحليل: من يمتلك الدولة؟ سؤال مؤجل في لحظة يمنية لا تحتمل التأجيل
يمن فيوتشر - يمن فيوتشر الإثنين, 02 يونيو, 2025 - 09:51 مساءً
تحليل: من يمتلك الدولة؟ سؤال مؤجل في لحظة يمنية لا تحتمل التأجيل

حين يُعاد طرح مشهد الصراع اليمني اليوم، لا يعود ذلك إلى مستجدات عسكرية حاسمة، بل إلى تموضع جديد للأسئلة حول طبيعة الدولة وقدرتها على البقاء فاعلًا في معادلة تتغير باستمرار، وتضغط على ما تبقى من مؤسساتها وشرعيتها وفاعليتها. فالجدل حول التسليح والردع، وإن بدا ملحًا، لا يُلامس جوهر الأزمة بقدر ما يكشف قشرة سطحية من بنيتها الأعمق. إذ أن معضلة اللحظة الراهنة لا تكمن في اختلال موازين القوة فحسب، بل في تعذر بناء قرار سياسي وعسكري موحد داخل معسكر الحكومة المعترف بها دوليًا، وغياب القدرة على بلورة إرادة وطنية تتجاوز اعتبارات النفوذ والتموضع المحلي لصالح أفق جامع للدولة.

لا أحد ينكر أن جماعة الحوثي تمتلك أدوات تهديد، وأنها طورت خلال السنوات الماضية قدرات هجومية متنوعة، لكن هذا لا يكفي لتفسير الشعور المتنامي لدى الرأي العام بأن الجماعة في موقع تفوق دائم. فما يصنع هذا التصور ليس بالضرورة الفعل العسكري نفسه، بل استثماره الذكي في الفراغ المقابل، في زمنية الرد، وفي هشاشة الخطاب الرسمي الذي يتخلف دومًا عن اللحظة ولا يعكس حيوية ميدانية توازي ما يُطرح في الجانب الآخر من المعادلة. فحين تتحول الضربات المحدودة إلى انتصارات دعائية واسعة، وتُقابل بردود باهتة أو غائبة، فإن الخلل لا يعود تقنيًا أو تسليحيًا، بل وظيفيًا ضمن البنية السياسية والعسكرية للدولة.

هذا الخلل يتضاعف حين تُفكك بنية القرار داخل المؤسسة الشرعية إلى كيانات متباينة المرجعيات، تتحرك دون تنسيق كامل، وتمارس أدوارها في سياقات لا تخضع لقيادة موحدة. فمجلس القيادة الرئاسي، بكل ما يحمله من رمزية، لم يتحول بعد إلى مركز فعلي للقرار، بل بات يعكس حالة من المساكنة بين أطراف لكل منها مشروعه الخاص، أو على الأقل تصوره المستقل لطبيعة المعركة. الأمر الذي ينتج صورة رمادية لحكومة لا تمسك بخيوط اللعبة كاملة، وتبدو أقرب إلى كيان وظيفي يستهلك الوقت في إدارة التوازنات الداخلية بدل إنتاج خيارات سيادية حقيقية.

ويزداد المشهد تعقيدًا حين نلحظ أن التحالف الداعم لهذه الحكومة كان قادرًا، في أكثر من مرحلة، على توفير دعم نوعي وتوجيه معادلة القوى، لكنه لم يمانع أيضًا من تسليح أطراف لا تمر عبر قنوات الدولة، مما وضع المؤسسات الرسمية أمام اختبار مضاعف: هل تستطيع أن تفرض نفسها كمرجعية حصرية أم أنها ستظل تدور في فلك التحالفات دون أدوات سيطرة فعلية على الداخل؟ في الحالتين، تغيب السيادة، وتتآكل القدرة على المبادرة، ويُعاد إنتاج أزمة الدولة من داخلها، لا فقط عبر خصومها.

حتى في الجانب اللوجستي والجغرافي، تبدو المفارقة لافتة. فالحكومة تملك من حيث الإمكانات بنية واسعة تمتد عبر موانئ ومطارات ومعابر دولية، وتحتفظ بشرعية إقليمية ودولية، لكنها لا توظف هذه الموارد لتكريس واقع استراتيجي جديد. بينما الطرف الآخر، المحاصر جغرافيًا، والمحكوم بقيود تحرك متعددة، نجح في تشكيل صورة ذهنية للقوة والتماسك، لا بفضل تفوق مادي فعلي، بل بفعل انسحاب خصمه من معركة الخطاب، وتركه المجال مفتوحًا أمام رسائل تملأ الفراغ وتعيد رسم الخريطة الرمزية للمواجهة.

ولا يمكن فهم هذه الصورة دون التطرق إلى أزمة الثقافة السياسية التي تحكم المشهد. ففي غياب المرجعية الوطنية الموحدة، واستمرار تراجع ثقافة المساءلة والرقابة، يصبح من السهل إلقاء اللوم على الخارج، أو على "الأطراف الأخرى"، كآلية دفاعية تُخفي القصور البنيوي في صنع القرار. كل خلل يُحال إلى جهة مبهمة، وكل تقصير يُغطى بمزيد التصريحات، في حين أن الواقع يدفع نحو مراجعة جذرية تضع المسؤولية حيث يجب أن تكون: في مركز الدولة، وفي بنيتها العميقة، وفي من يمتلك أدوات السلطة ويعجز عن تحويلها إلى فعل حاسم.

لهذا، فإن اللحظة الراهنة ليست لحظة تقييم للموقف العسكري فحسب، بل لحظة اختبار وجودي للدولة اليمنية ذاتها، ولمدى قدرتها على إعادة تشكيل مركز قرار موحد، يتجاوز انقسامات الداخل وضغوط الخارج، وينتقل من طور إدارة الأزمة إلى طور امتلاك أدواتها. فلا سلام يمكن أن يُصنع في ظل تفتت السلطة، ولا ردع يمكن أن يتحقق دون مركزية القرار. أما الاكتفاء بتوصيف المأزق وانتظار تغير المعادلات من تلقاء نفسها، فليس سوى إعادة إنتاج لهشاشة لا يمكن لها أن تصمد طويلًا أمام ديناميات الحرب أو شروط السلام.

ما هو مطلوب اليوم ليس فقط ترميم الأدوات، بل إعادة طرح السؤال التأسيسي: هل هناك مشروع وطني جامع بالفعل؟ وهل ثمة إرادة حقيقية لتحمل المسؤولية، لا بوصفها تقاسمًا للسلطة، بل التزامًا بإنقاذ فكرة الدولة؟ هذه الأسئلة لا يجوز تأجيلها، ولا يمكن مواجهتها إلا بمكاشفة داخلية تقود إلى مركز قرار وطني، قادر على الفعل لا التوصيف، وعلى المبادرة لا الانتظار.


التعليقات