تأتي زيارة رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني الدكتور رشاد محمد العليمي إلى موسكو في السابع والعشرين من مايو 2025 في توقيت بالغ الحساسية على المستويين الإقليمي والدولي، إذ تُصادف مرحلة تراجع ملحوظ في فاعلية المسار الأممي، وتعثر تنفيذ خريطة الطريق المعلنة في ديسمبر (كانون الأول) 2023، في ظل تموضع جديد للقوى الكبرى حول البحر الأحمر وباب المندب. اختيار موسكو محطة أولى للعليمي خارج الإقليم يكشف عن إدراك متبادل بين صنعاء- عدن وموسكو بأن شرعية العليمي تحتاج إلى رافعة قوة عظمى موازنة للنفوذ الإيراني لدى الحوثيين، وأن روسيا تبحث عن نافذة شرق أوسطية تضيف إلى أوراقها التفاوضية في مواجهة الضغوط الغربية عقب الحرب الأوكرانية. الأهمية الإستراتيجية للزيارة تتبدى في تلاقي ثلاثة مسارات، هي مسار الأمن البحري، حيث تهدد هجمات الحوثيين الملاحة في باب المندب، مسار الطاقة والغذاء مع حاجة اليمن الملحة إلى الحبوب والوقود الرخيص، ومسار إعادة الاصطفاف الجيواقتصادي عبر ممرات النقل الدولية الجديدة التي تسعى موسكو إلى ربطها بالمحيط الهندي والقرن الإفريقي. بهذا المعنى يصير توقيت الزيارة رسالة مزدوجة يمنية إلى الرياض وأبو ظبي بأن الشرعية تسعى إلى تنويع حلفائها، وروسية إلى واشنطن وبكين بأن الكرملين لا يزال لاعبًا ذا نفوذ في أزمات شبه الجزيرة العربية.
ما أسباب الزيارة؟
من الناحية السببية، تكمن دوافع موسكو في رغبتها في امتلاك موطئ قدم فعال على ساحل بحر العرب، وربطه بخطط الممر الشمالي- الجنوبي، الذي يصل المواني الروسية بمواني الهند مرورًا بإيران. حصول روسيا على شراكة تشغيلية في مواني عدن أو المكلا يتيح لها الالتفاف جزئيًّا على الاختناقات المحتملة في قناة السويس، ويمنحها ورقة ضغط في السوق العالمية للطاقة من خلال التحكم الجزئي في مسارات الشحن نحو شرق إفريقيا. في المقابل، يجد العليمي في روسيا شريكًا قادرًا على تزويد حكومته بالحبوب والديزل بشروط تفضيلية، وتمويل مشروعات كهرباء وغاز تعيد الحياة إلى شبكات البنية التحتية المتهالكة في حضرموت وشبوة، لكن الأهم أن موسكو قادرة بحكم علاقتها بطهران على ممارسة ضغط ناعم على الحوثيين لوقف الهجمات البحرية، وهو ما يدعم موقف مجلس القيادة في أي مفاوضات مستقبلية؛ وبذلك تتحول الزيارة إلى اختبار لمدى استعداد روسيا لاستخدام نفوذها لدى طهران مقابل مكاسب اقتصادية واضحة في اليمن، واختبار لمدى قدرة العليمي على توحيد المجلس الرئاسي حول أجندة تفاوضية موحدة تكون مقبولة لدى الانتقالي الجنوبي وحزب الإصلاح في آن واحد.
ما أهمية الزيارة في هذا الوقت؟
تكمن أهمية التوقيت أيضًا في أن توازنات الخليج تشهد تحولات جوهرية بعد تقارب الرياض وطهران برعاية بكين في مارس (آذار) 2023، وهو ما ولّد فراغًا جزئيًّا في رعاية الملف اليمني، وأضعف الحماسة السعودية لمواصلة الإنفاق العسكري. دخول موسكو في هذه اللحظة يملأ فراغ الضامن الدولي البديل، ويمنح روسيا موضعًا في معادلة الأمن البحري الدولية التي تتصدرها منذ أواخر 2023 عمليات التحالف الغربي في إطار حماية الممرات. إذا نجحت موسكو في التوصل إلى تفاهم بحري يحد من الهجمات على السفن فإنها ستكسب مكانة تفاوضية تسمح لها بطرح نفسها وسيطًا رئيسًا في صياغة جدول زمني لوقف النار الشامل، وستحظى مقابل ذلك بامتيازات طويلة الأجل في حقول النفط اليمنية ومشروعات المواني والاتصالات البحرية. أما إذا أخفقت، فإن تعاظم دورها قد يدفع الحوثيين إلى مزيد من التصعيد البحري لإحراجها، فتُجبَر روسيا على نشر وجود عسكري رمزي يكلفها موارد هي بأمس الحاجة إليها على جبهة أوكرانيا. هكذا تتجلى الخلاصة الجوهرية للزيارة في أنها رهان متبادل على تبدّل موازين القوى، وأداة اختبار لقدرة الطرفين على ترجمة المصالح النظرية إلى شراكات واقعية، وسط صراع مفتوح على طرق التجارة العالمية، وأسواق الطاقة والغذاء، ومشهد يمني لا يزال مرتهنًا بقدرة الفاعلين الدوليين على فرض معادلة سلام تتجاوز الانقسامات المحلية الحادة.
أبعاد جيوسياسية للزيارة
ارتكزت موسكو في توجيه الدعوة لرشاد العليمي على معادلة جيوسياسية ترى في اليمن عمقًا إستراتيجيًّا مكملًا لمشروع الممر الشمالي الجنوبي الذي يربط بحر قزوين بالمحيط الهندي، ويرفد طموح الكرملين في كسر الطوق البحري الغربي حول خطوط شحنه. موقع عدن على تقاطع البحار الثلاثة الأحمر والعربي والهندي يضمن لروسيا منفذًا يمكن استثماره بديلًا جزئيًّا لقناة السويس في حال اضطرابها، ويتقاطع مع رغبة الكرملين في توسيع وجوده في القرن الإفريقي لموازنة النفوذين الأمريكي والصيني. في المقابل يجد مجلس القيادة الرئاسي في الانخراط الروسي حائط صد موازنًا لنفوذ طهران في صنعاء، وإشارة إلى عواصم الخليج بأن الحكومة المعترف بها قادرة على حشد دعم دولي من خارج الفلك التقليدي للتحالف العربي.
الاقتصاد والمصالح المشتركة بين الدول
محور الاقتصاد تقدم إلى الواجهة سريعًا خلال لقاء العليمي وبوتين، حيث طرح الجانبان مبادئ اتفاق إطاري لتوريد الحبوب والديزل بأسعار تفضيلية لعدن مقابل امتيازات تشغيلية لشركات روسية في حقول شبوة وحضرموت. روسيا التي تبحث عن أسواق بديلة لصادراتها الزراعية بعد القيود الأوروبية ترى في اليمن مستوردًا مزمنًا يمكن توقيع عقود طويلة الأجل معه، في حين تمثل مشروعات إعادة بناء شبكات الكهرباء ومحطات الغاز فرصة استثمارية مغرية لشركات الطاقة الروسية المتضررة من العقوبات. بالنسبة لليمن، كسر الاعتماد الأحادي على المنح الخليجية يخفف ضغط العملات الصعبة، ويوفر وقودًا مستقرًا لمحطات توليد تخفق حاليًا في تغطية أكثر من ثلث الطلب في المناطق المحررة.
الإطار الأمني والملاحة البحرية.. شكل تعاون جديد بين روسيا واليمن
تصاعد هجمات الحوثيين على السفن العابرة لباب المندب منذ أواخر 2023 رفع تكلفة التأمين البحري، ووضع الممر ضمن أولويات القوى الكبرى. موسكو التي تمتلك خبرة عملياتية في شرقي المتوسط تسعى إلى توسيع دورها جنوبًا من خلال ترتيبات أمنية ثلاثية مع مصر والسعودية، تضمن وجودًا روسي الواجهة في خليج عدن، وتخفف عبء الدوريات الغربية. مجلس القيادة الرئاسي يمنح هذه الخطة شرعية قانونية مقابل التزام روسي بالضغط على الحوثيين لتعليق الهجمات البحرية، وهو التزام يمكن للكرملين تسويقه في مجلس الأمن بوصفه ورقة تفاوضية في ملفات أخرى متصلة بالحرب الأوكرانية وعقوبات الطاقة.
انعكاسات داخلية يمنية على السياسة الدولية
على الصعيد اليمني الداخلي تعزز زيارة موسكو موقع العليمي في معادلة السلطة الهشة داخل مجلس القيادة، إذ تمنحه صفة الممثل الحصري للشرعية أمام قوة عظمى كانت تحتفظ بقنوات مفتوحة مع خصومه الحوثيين والانتقالي الجنوبي. هذا الاعتراف يكبح نزعة الانفصال لدى المجلس الانتقالي الذي يرى في التحالف مع موسكو فرصة استثمارية لا يمكن خسارتها بمغامرة عسكرية في عدن. في الوقت نفسه، يكتسب حزب الإصلاح ورقة ضغط جديدة حين يجلس مع العليمي لتوزيع عوائد أي استثمارات روسية محتملة في مأرب؛ ما يجبر الأطراف على تجديد تفاهمات تقاسم السلطة لتجنب تعطيل تدفقات التمويل المرتقبة.
التحديات التي تواجه تفعيل الاتفاقات
رغم ما يبدو من توافق، تواجه مذكرات التفاهم عقبات هيكلية؛ فالموازنة الروسية منهكة بمتطلبات الجبهة الاوكرانية، واستثمارات البنية التحتية في الخارج تخضع لمراقبة مالية دقيقة تخشى المغامرة في بيئة صراع مفتوح. من جهة أخرى، تفتقر المؤسسات اليمنية إلى منظومات رقابة تطمئن موسكو إلى أن الأموال لن تتبخر في شبكات فساد راسخة. على الأرض قد يصطدم تشغيل الشركات الروسية بمعارضة وحدات محلية مسلحة تتبع قيادات قبلية غير منضوية بالكامل تحت سلطة عدن، وهو ما يهدد بتحول أي مشروع إلى نقطة احتكاك ميداني. يضاف إلى ذلك أن أي دور روسي بحري واسع قد يستفز واشنطن، ويقود الى سباق وجود يرفع خطر الاحتكاك العسكري في الممرات الضيقة.
السيناريو المرجح على المدى القصير يتمثل في توقيع حزمة عقود حبوب ووقود ذات تمويل ميسر، مع بدء فريق فني روسي دراسة جدوى محطة غازية في حضرموت، يقابله إعلان حوثي مبدئي تعليق عمليات بحرية أسبوعية لاختبار جدية الوساطة الروسية. في حال تكللت هذه الخطوة بنجاح، وتسلمت عدن أولى الشحنات قبل نهاية العام، قد تدعو موسكو الأطراف اليمنية إلى حوار غير رسمي على هامش قمة روسيا العالم العربي في أكتوبر (تشرين الأول) لتثبيت وقف نار شامل، وضمان حرية الملاحة. أما إذا تعثر الوعد الروسي لاعتبارات مالية أو أمنية فإن التصعيد البحري سيستأنف بوتيرة أكبر لإفشال المسعى، ما يدفع كلًا من السعودية والولايات المتحدة إلى تكثيف عملياتها منفردة، ويقصي موسكو من المشهد. السيناريو الثالث الأقل احتمالًا يتمثل في انخراط روسي عسكري مباشر بمعية وحدات إنزال رمزية لحماية منشآت استثمارية، وهو خيار باهظ التكاليف يصطدم بالمصلحة الروسية في عدم تشتيت قواتها.
استنتاجات
خلاصة القول أن زيارة العليمي إلى موسكو شكلت نقطة تقاطع نادرة بين حاجة اليمن إلى مظلة دولية جديدة وحاجة روسيا إلى منفذ إستراتيجي على باب المندب. أهمية التوقيت تنبع من فراغ الرعاية الناتج عن تقارب الرياض وطهران، ومن الضغط الغربي على الاقتصاد الروسي؛ ما جعل الطرفين يتلاقيان على صفقة مصالح تدمج الغذاء والطاقة بالأمن البحري والدبلوماسية المتعددة المسارات. نجاح الصفقة مرهون بقدرة موسكو على الاستثمار المالي والسياسي الكافي لإقناع الحوثيين بوقف الهجمات، وبقدرة العليمي على ضبط توازنات الداخل، ومنع تشظي المجلس الرئاسي. أما الفشل فيعني ضياع نافذة قد لا تتكرر، وعودة الملف اليمني إلى مربع الجمود، حيث لا ينتصر سوى اقتصاد الحرب، وشبكات التهريب العابرة للحدود.