بعد نحو 15 عامًا من الغياب، عادت الرئاسة اليمنية إلى موسكو، لكن في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد.
زيارة رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي للعاصمة الروسية بدت في ظاهرها كمحاولة لإعادة وصل ما انقطع، لكنها في العمق، عكست مأزقًا يتجاوز الدبلوماسية اليمنية إلى بنية النظام الدولي نفسه في تعاطيه مع ملف بات أكثر هشاشة مما يقرّ به أطرافه.
الزيارة، التي تأتي في ظل انسداد سياسي، وتصاعد القوة العسكرية لجماعة الحوثي، لا تطرح خارطة طريق، بقدر ما تحمل إشارة توتر كامنة: أن السلطة اليمنية المعترف بها دوليًا تبحث عن متنفس خارج المدارات التي كُبّلت بها، وربما تسعى إلى اختبار موقع موسكو على رقعة الحرب اليمنية، في ظل علاقتها المقرّبة من طهران.
الحوثي في قلب الطاولة
ما ورد على لسان العليمي من اتهامات صريحة للحوثيين بتحويل الطيران المدني إلى أداة حرب، واحتجاز طائرات كانت مخصصة للحجاج، يكشف طبيعة الخطاب الذي أراد أن يعيد تعريف الجماعة، ليس فقط كطرف متمرد، بل كمشروع مضاد للدولة بالمعنى الواسع: استخدام كل ما هو مدني كأداة صراع.
لكن اللافت أن هذا التوصيف لم يكن جديدًا، بل يستعيد سردية مألوفة في خطاب الشرعية منذ سنوات، مع فارق أنه هذه المرة خرج من منصة دولية بحجم موسكو، وفي توقيت يشهد تمددًا فعليًا للجماعة على الأرض.
لكن الأهم في هذه الإشارة أن السلطة اليمنية بدأت تُقر ضمنيًا بأنها محاصَرة دبلوماسيًا، وأن الاستجابة الدولية لحرب الحوثيين لم تعد توازي تأثيرها الميداني. وهو ما يعيد إنتاج معادلة غير متكافئة: سلطة محكومة بقواعد القانون الدولي، في مواجهة جماعة تبني وجودًا موازيًا باستنادها إلى القوة، واتساع خطورتها التي أضحت تهدد الإقليم والعالم.
ستوكهولم.. الاتفاق الذي كسر ميزان الردع
أعاد العليمي إلى الواجهة اتفاق ستوكهولم 2018 بوصفه نقطة انعطاف كبرى في مسار الحرب، حين جُمّد التقدم العسكري الحكومي في الحديدة، بينما أُبقيت المدينة كمنصة مفتوحة للتهريب الإيراني. هذه القراءة ليست جديدة، لكنها تكشف تحوّل الاتفاق من آلية لخفض التصعيد إلى قيد سياسي جعل الحكومة عرضة لمعادلة "الشرعية بلا أدوات"، وفي المقابل، مكن الجماعة من إعادة ترتيب ترسانتها وفتح جبهات خارج اليمن، تحديدًا باتجاه البحر الأحمر.
موسكو.. اختبار نوايا لا تحالفات
لم تكن زيارة موسكو دعوة للانحياز، بقدر ما بدت كاختبار مفتوح: هل تنوي روسيا الحفاظ على موقعها كقوة متزنة في الصراع اليمني، أم ستنخرط - صراحة أو تلميحًا - في التوازنات التي ترعاها طهران؟
الاستقبال اللافت الذي حظي به العليمي لا يشير إلى اصطفاف روسي كامل، لكنه يفتح نافذة كسر لجدار الجمود، في وقت تتجه فيه الحكومة اليمنية نحو تعزيز أدوات تأثيرها في مجلس الأمن، وتجاوز محدودية الخيارات التي كانت تحاصرها سابقًا.
الخطاب الرئاسي بين الواقعية والمخاطرة
في لغته، بدا العليمي أقل تفاؤلًا وأكثر واقعية.. لم يطرح وعودًا، ولم يقدّم خططًا، بل أطلق تحذيرات. والأهم أنه حاول إعادة تشكيل صورة الحوثيين أمام جمهور دولي بدأ يتعامل مع الجماعة كأمر واقع. وصفُه للجماعة بالإحالة لخلفيتها الفكرية السلالية لا يستدعي فقط الإحاطة التاريخية، بل يشير إلى أيديولوجيا سلطوية لا يمكن استيعابها ضمن أي عقد سياسي مدني، وهو توصيف يربط بين الداخل اليمني والمشهد الإقليمي، حيث يتكرر النموذج في غير عاصمة عربية وقعت تحت المد الإيراني وأذرعه في المنطقة.
ما بعد موسكو!
رغم أن الخطاب حمّل الحوثيين مسؤولية الانسداد، لم يتغافل العليمي عن هشاشة موقع حكومته، لا سياسيًا ولا عسكريًا. لكنه رمى الكرة في ملعب المجتمع الدولي، وخصوصًا أولئك الذين يطالبون الحكومة بالنتائج دون توفير أدوات الفعل. وهنا يُطرح السؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن لحكومة بلا دفاع جوي، وبلا سيطرة مالية، وبلا تكافؤ إعلامي، أن تُحاكم على نتائج معركة تم خنقها قبل أن تبدأ؟
زيارة موسكو لن تغيّر قواعد الاشتباك في اليمن، لكنها قد تكون محاولة أخيرة لاختبار موقف العواصم الكبرى. فالعليمي لم يطلب وساطة، بل أرسل إنذارًا أن ما يجري لم يعد حربًا أهلية، كما تُصوّر، بل تصعيد يهدد أمن الطاقة والملاحة، ويمتد في بنيته إلى ما هو خارج اليمن بكثير.
لكن حتى هذا الخطاب - بكل وضوحه - لن يكون كافيًا ما لم تدرك الحكومة اليمنية أن استعادة التوازن تبدأ من الداخل، وأن الرهانات الخارجية، مهما بلغت رمزيتها، لا تعوّض غياب المشروع الوطني القادر على الوقوف بصلابة، لا كمجرد رد فعل، بل كبديل فعلي.