حين فرض الحوثيون في اليمن حصارهم على البحر الأحمر ردًّا على الحرب في غزة، بدا ذلك دليلاً قاطعًا على تراجع النفوذ الأمريكي، فالقوة العظمى في العالم باتت تسمح بتحدي سيطرتها على ممر مائي بالغ الأهمية.
وفي محاولات تفسير هذا التراجع، سارع منتقدو الرئيس الأمريكي آنذاك إلى القول إنه ببساطة ضعيف، ومفرط في التهدئة إلى حدّ العجز عن استخدام كامل القوة العسكرية الأمريكية لحسم الموقف.
لكن الواقع أن بايدن لم يلتزم الصمت، بل أطلق عمليتين عسكريتين. الأولى كانت “عملية حارس الازدهار” (Operation Prosperity Guardian)، التي هدفت إلى توحيد القوة البحرية الأمريكية مع تحالف من الدول المتطوعة لحماية حركة الملاحة وكسر الحصار. غير أن العملية تحولت سريعًا إلى فشلٍ محرج، بعدما انسحب معظم الشركاء، واستمرت السفن في التعرض لهجمات صاروخية من الحوثيين.
عندها، أُطلقت في يناير/ كانون الثاني 2024 “عملية رامي بوسيدون” (Operation Poseidon Archer)، بمشاركة طائرات بريطانية وأمريكية، في محاولة لقصف الحوثيين وإجبارهم على التراجع. لكنها أيضًا لم تُحرز أي نتائج تُذكر؛ فلم تحدّ من هجمات الحوثيين، ولم تُعد فتح البحر الأحمر أمام الملاحة. ومع ذلك، وُجّه اللوم إلى بايدن، وسط اتهامات بأنه يقيّد قدرات الجيش الأمريكي الهائل، في إشارة إلى أن الأمور ستتغيّر حين يعود ترامب إلى السلطة.
وكان منتقدو بايدن محقّين جزئيًا، فبمجرد عودة ترامب، تم رفع القيود بالفعل. أعقبت “رامي بوسيدون” عملية جديدة في مارس/ آذار من هذا العام هي “عملية الفارس الخشن” (Operation Rough Rider)، في محاولة لإظهار استعراض عسكري أمريكي أكثر شراسة تجاه أهداف الحوثيين في اليمن.
ولمدة ستة أسابيع، شنّت الطائرات الأمريكية غارات متواصلة على اليمن، بما في ذلك طلعات نادرة ومكلفة لطائرات الشبح من طراز B-2 “سبيريت”، المنطلقة من قاعدة دييغو غارسيا، دعمًا للطائرات المنطلقة من حاملات الطائرات. ومع نهاية تلك الأسابيع، أعلن ترامب بفخر أن “اليمن قد استسلم”، وأنه لم يعد هناك حاجة لاستمرار القصف الأمريكي، إذ نجحت سلطنة عمان في التوسط لوقف إطلاق النار.
وقد جرى تصوير ذلك على أنه نصر مجيد للجيش الأمريكي، بعد أن تعهّد الحوثيون بعدم مهاجمة السفن الأمريكية مجددًا، وردّت الولايات المتحدة بالمثل.
بطبيعة الحال، لم يتطرّق ترامب إلى شروط ما سمّاه “الاستسلام”. فكلّ ما كان مطلوبًا من الحوثيين هو التوقف عن مهاجمة السفن الأمريكية، مقابل أن توقف الولايات المتحدة قصفها؛ أما الحصار المفروض على البحر الأحمر، أو إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، فقد تُرك لهم حرية الاستمرار فيه.
بعبارة أخرى، منحت أمريكا الحوثيين شيكًا على بياض لمواصلة السلوك ذاته الذي كان سببًا في دخولها الحرب أصلاً. وبالتالي، فإن وصف هذه الصفقة بـ”الاستسلام” يبدو دقيقًا تمامًا؛ فقط الطرف الذي رفع الراية البيضاء لم يكن الحوثيين.
لطالما كان من الشائع إرجاع الإخفاقات أو حتى الهزائم في الحروب التي تخوضها أمريكا باختيارها إلى “نقص الإرادة السياسية” فحسب. فالرواية السائدة تقول: لو أرادت أمريكا أن تنتصر، لانتصرَت؛ وكل ما في الأمر أنها لا تستخدم ما يكفي من القوة لإنهاء المعركة.
لكنّ هذا التبرير بات يبدو أجوفًا اليوم.
ففي حين أن عمليات بايدن العسكرية اتُّهمت بعدم الحزم، جاءت “عملية الفارس الخشن” التي أطلقها ترامب مختلفة، إذ استخدمت بعضًا من أندر وأغلى وأكثر الأسلحة الأمريكية تطورًا، في محاولة لإخضاع الحوثيين. ومع ذلك، انتهت هي الأخرى بالاستسلام.
والدروس المستخلصة هنا قاتمة للغاية: فخيار أمريكا المفضل، والذي يكاد يكون خيارها الوحيد المتبقي في الحروب - الحرب الجوية - لم يعد مجديًا من حيث الكلفة أو الفعالية.
وما يزيد الأمر خطورة أن الولايات المتحدة لا تملك بدائل واقعية لهذا النمط من القتال، ما يعني أن أيامها كقوة عسكرية مهيمنة قد تكون في طريقها إلى الأفول.
ولفهم مدى فداحة الفشل في الحرب الجوية ضد الحوثيين، لا بد من التذكير بحقيقة أساسية تتعلق بمخزون السلاح الأمريكي، فعلى الورق، تمتلك الولايات المتحدة 11 حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية، وهو رقم يفوق بكثير ما لدى أي دولة أخرى في العالم. لكن هذا الرقم، رغم ضخامته، بالكاد يعكس الواقع العملي على الأرض.
للمقارنة، يمكن النظر إلى المملكة المتحدة. فبريطانيا تمتلك حاملتي طائرات كبيرتين، ما يضعها ضمن الدول المتقدمة عالميًا في مجال إسقاط القوة.
لكن، كما يعلم أي شخص على دراية بسلاح البحرية الملكية، فإن هذا الرقم لا يعكس الحقيقة كاملة. فعدد الحاملات التي تستطيع المملكة المتحدة فعليًا نشرها في العمليات الحربية أقل بكثير، بل يقترب من الصفر.
فرغم وجود السفن فعليًا، إلا أن البحرية البريطانية تفتقر إلى الطواقم، والطائرات، والسفن المرافقة، والقدرة اللوجستية اللازمة لتشغيل هذه الحاملات بفعالية في حرب حقيقية ولمدة طويلة. لقد أصبحت البحرية البريطانية أشبه بـ”قرية بوتيمكين”؛ مظهرٌ سطحيّ قويّ يخفي واقعًا كارثيًا من الصيانة المؤجلة، والميزانيات المنقوصة، والنقص الحاد في الأفراد.
ورغم أن الوضع في البحرية الأمريكية لا يزال أفضل نسبيًا، إلا أن المشكلة الجوهرية متشابهة، ففي الواقع، لا تستطيع الولايات المتحدة نشر أكثر من حاملتين إلى أربع حاملات طائرات في عرض البحر في أي وقت.
أما القدرة على تعزيز هذا العدد في أوقات الأزمات فهي محدودة، نتيجة التدهور الكبير في وحدات الاحتياط المختلفة داخل القوات المسلحة الأمريكية. وعند استبعاد الحاملات المقررة للتفكيك، أو تلك التي تعاني من أعطال في مفاعلاتها النووية، أو الغارقة في أعمال الصيانة العميقة، يتبين أن عدد الحاملات القابلة للاستخدام لا يتجاوز ثلث الرقم المعلن على الورق.
وقد تم استخدام نصف تلك الحاملات النشطة في الحرب ضد الحوثيين.
لكن حاملات الطائرات ليست المثال الوحيد الذي ينبغي التوقف عنده.
ففي “عملية الفارس الخشن”، شاركت القوات الجوية الأمريكية بست قاذفات شبح من طراز B-2 Spirit، والتي تُعد من أكثر الطائرات تقدمًا –وأغلاها تكلفة– في الترسانة الأمريكية.
و للوهلة الأولى، قد يبدو أن أمريكا لم تستخدم إلا جزءًا صغيرًا من قدراتها، إذ تمتلك نظريًا نحو 20 قاذفة من هذا الطراز. لكن نظرة أدق تكشف أن الطائرات الست المستخدمة في تلك العملية تمثل – على الأرجح – كامل الأسطول العامل فعليًا من هذه القاذفات.
فنظرًا لعدم تصنيع طائرات B-2 منذ عقود، لم يعد بالإمكان الإبقاء عليها في الخدمة إلا عبر تفكيك بعضها لاستخدام قطع غيارها في إصلاح الأخرى. ونتيجة لذلك، خرج عدد كبير منها من الخدمة نهائيًا ولم يعد صالحًا للطيران.
وفي الأيام العادية، لا تتجاوز نسبة القاذفات الأمريكية التي تُصنف على أنها “صالحة للمهام” سوى النصف، وهي صفة لا تعني أن الطائرة تعمل بكفاءة، بل فقط أنها ليست معطلة بالكامل. ومن بين تلك الطائرات، أقل من الثلثين فقط يمكن أن تصل إلى تصنيف “صالحة تمامًا للمهام”، وهو توصيف بيروقراطي من البنتاغون يعني أن الطائرة تعمل، ولا تعاني من أعطال حاسمة، ويمكن استخدامها فعليًا في المهمة التي صُنعت لأجلها.
من حاملات الطائرات إلى القاذفات الشبح، تبدو الصورة هنا واضحة إلى حد كبير، وقد تأكّد هذا النمط من خلال شهادات من داخل البنتاغون نفسه.
فقد استخدمت الولايات المتحدة فعليًا كل أوراقها العسكرية في الهجوم على الحوثيين، وشنّت حربًا جوية شديدة الكلفة والكثافة ضد ميليشيا تسيطر على معظم أراضي اليمن، رابع أفقر دولة في العالم.
تُعد تكلفة تشغيل قاذفة شبح واحدة من طراز B-2 من الأعلى في العالم على أساس الساعة الواحدة، كما أن طلاءها الخاص بالتخفي لا يتحمّل أجواء البحر المالحة والدافئة في قاعدة دييغو غارسيا. و إرسال هذا العدد من القاذفات لا يحدث إلا عندما تكون واشنطن “جادة إلى أقصى حد”.
كما خصصت أمريكا كذلك نحو نصف حاملاتها النشطة، وأنفقت ثروات طائلة على صواريخ الهجوم البري وأنظمة الدفاع الجوي، بل إنها سحبت مخزونات من الذخيرة ومنظومات الدفاع الجوي من مسرح العمليات في المحيط الهادئ لدعم هذه الحملة.
لكن، ومع بدء تسريبات حول تفاصيل هذه العملية العسكرية إلى وسائل الإعلام، كما كشفت صحيفة نيويورك تايمز، بات واضحًا أن كل هذا الجهد لم يُحقق شيئًا يُذكر.
فلم تتمكن الولايات المتحدة من فرض التفوق الجوي، ما جعلها تتجنّب استخدام طائراتها الأقدم غير الشبحية خشية فقدانها. وقد يُفهم هذا الامتناع على أنه دليل على أن أمريكا لم تكن تبذل أقصى جهدها، إذ ما معنى خوض حربٍ لا تُقبل فيها الخسائر؟ لكن الواقع مختلف.
والمشكلة ليست في الجُبن، بل في إنتاج القوة.
فحتى لو لم تخسر أمريكا طائرة واحدة أو طيارًا واحدًا بنيران العدو خلال السنوات المقبلة، فإن جيشها سيشهد انكماشًا حادًا.
و هذا التراجع في القدرة لا يعود إلى الاستنزاف في المعارك حسب، بل إلى تقادم الطائرات والسفن، مع وجود نقص حاد في الأيدي العاملة، والأحواض البحرية، والمهندسين، والتمويل اللازم لتعويضها أو تحديثها.
و أمريكا اليوم تستهلك إرثها العسكري الهائل الذي ورثته من عهد رونالد ريغان وسباق التسلح في الثمانينات، دون أي خطة حقيقية لاستبداله.
لهذا، فإن حرص الجيش الأمريكي على تجنّب الخسائر ليس موقفًا حذرًا أو تعبيرًا عن الجبن، بل نتيجة عجز تام عن تعويض ما قد يُفقد.
و نتيجة هذا “الكعب الأميركي المكشوف” كان اعتمادًا باهظ التكلفة –في سياق الدفاع عن البحر الأحمر– على ما يُعرف بالأسلحة بعيدة المدى أو “أسلحة الوقوف عن بعد” (Standoff Weapons)، كصواريخ كروز التي تُطلق من مسافات آمنة خارج مدى الدفاعات الجوية المعادية.
لكن، حتى مع هذا النهج، لم تخلُ الأمور من مشاكل.
فوفقًا لتقارير مسرّبة، اضطرت طائرات الشبح الأمريكية المتطورة من طراز F-35 لتفادي صواريخ دفاع جوي حوثية في إحدى المرات على الأقل، في حادثة تُعد مثيرة للقلق بالنظر إلى كفاءة هذه الطائرات وسُمعتها العالمية.
وفي إطار “عملية الفارس الخشن”، استخدمت الولايات المتحدة مجموعة من أكثر أسلحتها ندرة وتخصصًا، مثل صواريخ AGM-158 JASSM بعيدة المدى (جو-أرض)، بالإضافة إلى قنابل خارقة للتحصينات من الطراز الثقيل. ورغم ذلك، تشير جميع المؤشرات إلى أن التأثير كان محدودًا للغاية.
ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن القوات الأمريكية استمرت في فقدان أعداد كبيرة من طائراتها المسيّرة من طراز MQ-9 Reaper، والتي تتجاوز تكلفة الواحدة منها 30 مليون دولار، وكانت تُعتمد لتوفير المعلومات الاستخباراتية الدقيقة لتوجيه الغارات الجوية إلى أهدافها بفعالية.
وعندما تراجع بايدن أول مرة عن الدفاع الجاد عن البحر الأحمر في مواجهة الحوثيين، أصيب كثيرون بالذهول. فقد بدا وكأن التقاعس عن التحرك يعني ضمنيًا إبلاغ العالم بأن الولايات المتحدة عاجزة عن حماية الممرات البحرية الحيوية، وعلى رأسها قناة السويس.
لكن المفارقة أن ترامب، رغم توبيخه العلني لسلفه بايدن وانتقاده له بشدة، اتخذ الموقف ذاته عمليًا، وتراجع عن التصعيد العسكري، معترفًا ضمنًا بسيطرة الحوثيين على هذا الممر المائي الحيوي.
ويبدو من كل ذلك أن الولايات المتحدة لم تعد تملك الكثير من الأوراق للمناورة في هذا الملف.
وكان بإمكان ترامب أن يُرسل حاملة طائرات إضافية إلى المنطقة لدعم عمليته، مما يرفع العدد إلى ثلاث حاملات. لكن هذه الخطوة لم تكن لتُحدث فارقًا يُذكر في الحملة الجوية، لأن المشكلة لم تكن في نقص المساحات على سطح السفن أو عدد الطلعات الجوية، بل في أن الطائرات الأمريكية كانت تتجنب الاقتراب من الدفاعات الجوية اليمنية، حتى الطائرات الشبحية لم تكن آمنة تمامًا، وفقًا للتقارير.
المشكلة الجوهرية تمثلت في نقص الذخائر بعيدة المدى، التي يمكن إطلاقها من مسافة آمنة نسبيًا، لكن هذا النوع من الذخائر نادر وباهظ التكلفة إلى درجة أن الميزانية الأمريكية لا تسمح بإعادة تعبئته عند نفاده.
(صاروخ واحد من طراز JASSM بوزن رأس حربي يبلغ 450 كغم، تُقدّر تكلفته بنحو مليون دولار تقريبًا).
ووفقًا لـمحاكاة حربية، فإن الولايات المتحدة معرضة لنفاد أغلب، إن لم يكن جميع، أنواع هذه الذخائر الحيوية خلال أيام أو أسابيع في حال نشوب صراع حقيقي ضد خصم مكافئ مثل الصين.
وما هو أسوأ، أن العديد من أنظمة التسليح الأمريكية المتقدمة تعتمد بشكل كبير على مكونات ومواد أولية –مثل العناصر الأرضية النادرة– تستوردها من الصين، التي بدأت بالفعل في فرض قيود صارمة على تصديرها، في خطوة تدريجية لخنق المجمع الصناعي العسكري الأمريكي.
وفي الواقع، لا تمتلك الولايات المتحدة اقتصادًا عسكريًا قادرًا على إنتاج الأسلحة اللازمة لحروب جوية على نطاق واسع، وقد تم التعتيم على هذه الحقيقة لسنوات بفضل الهالة الإعلامية التي أحاطت بـالآلة العسكرية الأمريكية وسمعتها كأسطورة لا تُقهر.
ومع تراجع شهية الولايات المتحدة لخوض الحروب البرية، ازداد الإغراء باللجوء إلى الحملات الجوية باعتبارها وسيلة سريعة، رخيصة، وسهلة لتحقيق الأهداف العسكرية. لكنّ الحروب الجوية لم تعد كما كانت.
حيث كان من المفترض لـ”عملية الفارس الخشن” (Operation Rough Rider) أن تكون استعراضًا حاسمًا للقوة ضد دولة من العالم الثالث، لكنها كانت تعاني من ضعف التجهيز والانقسامات الداخلية. وفي النهاية، بدت كأنها الصرخة الأخيرة لنمط قتالي عتيق، لم يعُد قادرًا على مواجهة منظومات الدفاع الجوي الأرخص والأكثر كفاءة.
جميع هذه القيود تجعل الحديث الدائر حاليًا عن شن حملة قصف جديدة ضد إيران يبدو وكأنه خيالٌ عبثي.
فإيران أكبر بكثير من اليمن، وتتمتع بشبكة دفاع جوي أكثر تعقيدًا ومتانة. علاوة على ذلك، فإن المسافات الجغرافية الكبيرة تعني أن الطائرات الأمريكية المُقلعة من حاملات في الخليج، لن تتمكن حتى من الوصول إلى طهران والعودة بخزان وقود واحد.
وسيكون لا مفر من عمليات التزود بالوقود جوًا فوق العمق الإيراني، ما يتطلب استخدام طائرات التزود بالوقود، وهي بطيئة وسهلة الرصد على الرادارات، وتقريبًا بلا وسائل دفاعية ذاتية.
وحتى محاولة تحييد شبكة الدفاع الجوي الإيرانية ستتطلب كميات ضخمة من الذخائر الدقيقة بعيدة المدى، وهي ذخائر تعجز الولايات المتحدة فعليًا عن تعويضها، حتى لو لم تكن تواجه أزمة مالية خانقة وتضخمًا في عوائد السندات الحكومية.
أما المنشآت الحيوية في البرنامج النووي الإيراني، فهي محصنة تحت مئات الأقدام من الصخور الجبلية الصلبة.
وفي المقابل، فشلت الولايات المتحدة -رغم استخدام أسلحتها الأثقل والأكثر تقدمًا- في تدمير مخازن الصواريخ والمخابئ السطحية نسبيًا التابعة للحوثيين في اليمن.
وجميع الأسباب التي دفعت أمريكا إلى تسليم السيطرة الضمنية على قناة السويس للحوثيين، ستتضخم بشكل كارثي في أي مواجهة محتملة مع إيران، وستكون أكثر فتكًا بكثير.
ومع تفاقم العجز المالي، وتصاعد الأزمة السياسية الداخلية، وتآكل القدرات العسكرية، تبدو أمريكا كفهدٍ لم يَعُد يمتلك القدرة حتى على محاولة تغيير بُقعه.
كما أن الجنرالات يدركون أن اللعبة قد انتهت، فالنموذج القديم انهار، ولا يوجد نموذج جديد في الأفق، ولا أحد يملك الإرادة أو الطاقة لإصلاح الأمر.
وهكذا، فإن أزمة القوة العسكرية الأمريكية تتكشف على طريقة ما وصفه إرنست همنغواي عن مسار إفلاسه الشخصي: “تدريجيًا… ثم فجأة”.
و كان هناك زمنٌ مضى، كانت فيه دائمًا هناك طائرةٌ أكبر، أو سلاحٌ مستقبلي أكثر تقدمًا، أو خدعةٌ تقنية جديدة في جعبة سلاح الجو يمكن الاستشهاد بها لإسكات المشككين.
لكن تلك الأيام قد ولّت.
و جسامة ما حدث في اليمن لن تظهر بكامل ثقلها إلا عندما تكون الطبقة السياسية مستعدة لمواجهة واقع العالم الجديد الذي نعيش فيه اليوم، عالم لم تَعُد فيه الولايات المتحدة تملك أرانب عسكرية سحرية تخرجها من القبعة، وحتى ما تبقى لديها منها لم يَعُد كافيًا للاقتراب من تحقيق النصر.
لقراءة المادة من موقعها الاصلي: