في مجتمع يمني يواجه أزمات متلاحقة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، يبرز الإجهاض كقضية شديدة الحساسية. إذ يعتبره كثيرون جريمة قتل عمد، بينما يرى آخرون أنه مخرج أخير للمرأة المعرضة لخطر حقيقي.
ورغم أن القانون اليمني يسمح بالإجهاض فقط عندما يهدد الحمل حياة الأم، إلا أن الواقع يشهد حالات تتجاوز هذا الإطار الضيق.
زيادة مطردة
تحمل مؤشرات ميدانية صامتة، قادمة من داخل أقسام النساء والولادة في مستشفيات يمنية مكتظة، ارتفاعًا ملحوظًا في عدد طلبات الإجهاض، خاصة خلال الأشهر الأربعة الأولى من الحمل.
شهادات حصرية حصل عليها معدا التحقيق من عاملات في الخطوط الأمامية تكشف عن دوافع متنوعة تقف خلف هذه الطلبات المتزايدة، تتجاوز في كثير من الأحيان الإطار الضيق الذي يسمح به القانون اليمني.
تكشف ممرضة تعمل في أحد مستشفيات العاصمة صنعاء، طلبت حجب هويتها خوفًا من التداعيات المهنية المحتملة عن بعض الكواليس: "نستقبل نساءً يقدمن أعذارًا مختلفة للإجهاض. بعضهن يخشين شبح الطلاق وما يتبعه من صعوبات جمة في تربية الطفل بمفردهن في هذا الوضع الاقتصادي المتردي، وأخريات يعترفن بأنهن غير مستعدات نفسيًا أو ماديًا لتحمل مسؤولية الأمومة الثقيلة. وهناك من يبررن طلبهن بانشغالهن الشديد بالعمل وكفاحهن اليومي لتأمين لقمة العيش، وعدم قدرتهن على التوفيق بينه وبين مسؤوليات الأمومة المرهقة."
وتضيف بلهجة يائسة: "تطبيق الإجراءات يختلف بشكل كبير بين القطاعين العام والخاص. في المستشفيات الحكومية، تخضع طلبات الإجهاض لتدقيق صارم وموافقة لجنة طبية ثلاثية تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك وجود خطر حقيقي ومباشر على حياة الأم. أما في بعض العيادات الخاصة، فالأمر يبدو مختلفًا تمامًا. هناك شبهات قوية تدور حول قيام بعض الأطباء باستغلال حاجة النساء وتنفيذ عمليات إجهاض مقابل مبالغ مالية باهظة، دون أدنى التزام بالشروط القانونية والإنسانية."
بين قسم اليمين ونداء الواجب
أطباء يواجهون معضلة الإجهاض في المؤسسات الحكومية المتهالكة، ويؤكدون على التزامهم الصارم بالقانون.
"الإجهاض في مشفانا لا يتم إلا بعد تقرير طبي قاطع صادر عن ثلاثة استشاريين متخصصين، يشهدون بالإجماع أن استمرار الحمل يشكل تهديدًا مباشرًا وحقيقيًا لحياة الأم. أي سبب آخر، مهما بدا مقنعًا من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية، لا يعتبر قانونيًا أو أخلاقيًا من وجهة نظرنا"، تؤكد الدكتورة أحلام (اسم مستعار لحماية هويتها)، أخصائية نساء وولادة في المستشفى الجمهوري بصنعاء.
لكن على الجانب الآخر، وفي مستشفيات تعاني من نقص حاد في الإمكانيات والموارد، تشير أصوات أخرى إلى وجود حالات طبية قاهرة تستدعي الإجهاض حتى في مراحل متأخرة من الحمل.
"نواجه حالات قلبية حادة لدى الحوامل، وارتفاعًا شديدًا في ضغط الدم مصحوبًا بتسمم الحمل الذي قد يودي بحياة الأم والجنين على حد سواء، بالإضافة إلى اكتشاف تشوهات خلقية خطيرة في الجنين تجعل حياته بعد الولادة ضربًا من المستحيل. في مثل هذه الظروف الصعبة، يرى الأطباء أن إنهاء الحمل يصبح ضرورة طبية حتمية لحماية حياة الأم، حتى لو كان الجنين قد تجاوز الأشهر الأربعة الأولى التي تعتبرها بعض الفتاوى الدينية فاصلة"، توضح نوال محمد (اسم مستعار)، وهي ممرضة تعمل في مستشفى الرفاعي بتعز، المدينة التي لا تزال تعاني من تبعات الصراع.
سلطة غير مرئية تؤثر في قرارات حساسة
يكشف التحقيق عن عامل آخر بالغ الأهمية يؤثر في ملف الإجهاض، وهو الضغوط الاجتماعية والقبلية التي تمارس على الأطباء، خاصة في المناطق ذات النفوذ القبلي القوي.
تدفعهم هذه الضغوط أحيانًا إلى إجراء عمليات إجهاض خارج الإطار القانوني الصارم، خوفًا من العواقب الوخيمة التي قد تطالهم أو تطال عائلاتهم.
"تأتي إلينا فتيات صغيرات، بالكاد يتجاوزن سن البلوغ، وهن في حالة من الذعر والخوف الشديد من رد فعل عائلاتهن بعد حمل غير مرغوب فيه. في ظل غياب الحماية القانونية والاجتماعية لهؤلاء الفتيات، نجد أنفسنا في مواقف إنسانية صعبة للغاية. نقدم المساعدة أحيانًا من باب الإنسانية ومراعاة لتقاليد المجتمع التي قد تكون قاسية في مثل هذه الحالات، محاولين بذلك درء فتنة أو حماية الفتاة من بطش محتمل قد يصل حد القتل"، تكشف الدكتورة "م.ت"، طبيبة نساء وولادة تعمل في منطقة قبلية نائية.
وتضيف الطبيبة، بصوت خافت: "بعض الأسر تلجأ إلينا أيضًا لطلب الإجهاض لاعتبارات زوجية بحتة، مثل اكتشاف عدم رغبة أحد الطرفين في إنجاب المزيد من الأطفال، ويتم ذلك بعد توقيع موافقة خطية من الأب والأم. هذا الأمر يثير تساؤلات عميقة حول مدى قانونية وأخلاقية هذه الإجراءات التي تتم في الخفاء."
قيود صارمة واستثناءات ضيقة
يستند الموقف الديني السائد في اليمن إلى فتاوى إسلامية تجيز الإجهاض قبل "نفخ الروح" -المشهور بين الفقهاء بأنه يتم بعد أربعين يومًا أو أكثر بقليل من الحمل- في حالة وجود خطر حقيقي ومؤكد على حياة الأم. وتشجع هذه الفتاوى في الوقت ذاته على استخدام وسائل منع الحمل لتجنب الحمل غير المرغوب فيه من الأساس.
أما القانون اليمني، ممثلًا في قانون الجرائم والعقوبات، فيفرض عقوبات صارمة على الإجهاض الذي يتم بغير رضى المرأة أو بدون مبرر طبي بالغ.
يوضح المحامي فؤاد الجعفري، المتخصص في القضايا الجنائية، أن القانون يعاقب بالإعدام أو السجن لمدة تصل إلى عشر سنوات في حالات الإجهاض القسري الذي يرتكبه شخص آخر ضد إرادة المرأة، بينما تحمل المرأة دية الجنين في حالة الإجهاض الذي تقوم به بنفسها أو بمساعدة طرف آخر، فيما يسمح القانون استثناءً وحيدًا للطبيب بالتدخل الجراحي لإنقاذ حياة الأم من خطر محقق.
ثغرات رمادية تتسع
يشير المحامي الجعفري إلى وجود ثغرات واضحة في القانون الحالي، خاصة فيما يتعلق بتحديد مفهوم "الضرر الجسيم" الذي يبرر الإجهاض. هذا الغموض يفتح الباب واسعًا أمام تفسيرات متضاربة من قبل الأطباء والسلطات القضائية، ما يخلق حالة من عدم اليقين القانوني ويجعل بعض الحالات الإنسانية الصعبة عرضة لتطبيق القانون بشكل متفاوت وغير عادل.
ويستشهد المحامي بالمادتين 239 و240 من قانون الجرائم والعقوبات لتوضيح هذه الثغرات التي "تنص على أن عقوبة الإجهاض القسري تصل إلى دفع دية كاملة للجنين بالإضافة إلى السجن لمدة لا تزيد على خمس سنوات"، و"تحدد مسؤولية المرأة التي تجهض نفسها أو تسمح لغيرها بإجهاضها بدفع دية الجنين"، على التوالي.
مقاربة إنسانية شاملة
في خضم الجدل المحتدم، يرى الناشط الحقوقي عبدالفتاح الصلاحي أن "الوقاية خير من العلاج"، مشددًا على الأهمية القصوى لتوسيع برامج التوعية الجنسية الشاملة وتنظيم الأسرة، وتوفير وسائل منع الحمل الآمنة والفعالة بأسعار مناسبة وفي متناول جميع النساء، للحد من حالات الحمل غير المرغوب فيه وبالتالي تقليل الحاجة الماسة إلى الإجهاض.
في المقابل، تؤيد الدكتورة "س.و"، وهي طبيبة نفسية متخصصة في الصحة الإنجابية، السماح بالإجهاض في حالات الضغط النفسي الشديد والاكتئاب الحاد الذي يهدد الصحة العقلية للأم بشكل جدي، معتبرة أن استمرار الحمل في مثل هذه الظروف القاسية قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على صحة الأم وسلامتها النفسية والعقلية، بينما تصف بعض طلبات الإجهاض الأخرى بأنها ناتجة عن "دلال زائد" وعدم تحمل للمسؤولية.
من جانبه، يركز رئيس منظمة "سياج" لحماية الطفولة، أحمد القرشي، على ضرورة تدخل الدولة بشكل عاجل لإنشاء دور رعاية متخصصة ومجهزة للأطفال المهملين أو غير المرغوب فيهم.
ويؤكد أن توفير بيئة آمنة ورعاية صحية وتعليمية شاملة لهؤلاء الأطفال يضمن حقهم الأساسي في الحياة والنمو بشكل سليم وكريم، ويقلل في الوقت ذاته من احتمالية تعرضهم للإهمال أو الرمي في الشوارع كحل يائس تلجأ إليه بعض الأمهات المقهورات.
حفظ الحقوق ومراعاة الضرورات
يبقى ملف الإجهاض في اليمن عالقًا بين قيود قانونية صارمة وواقع اجتماعي وإنساني يفرض تحديات متزايدة على كاهل النساء.
يكشف هذا التحقيق عن الحاجة الملحة إلى تبني مقاربة أكثر شمولية وتوازنًا لهذه القضية الحساسة التي تتجاهلها أصوات كثيرة.
وتظل توفير بدائل صحية وقانونية آمنة للنساء اللاتي يواجهن حملًا غير مرغوب فيه أو يهدد حياتهن، وتعزيز الوعي الجنسي الشامل وتنظيم الأسرة بشكل فعال، وتطوير التشريعات القائمة لتغطية حالات الاستثناء بوضوح وعدالة، بالإضافة إلى توفير الدعم النفسي والاجتماعي والرعاية الشاملة للأمهات والأطفال غير المرغوب فيهم، خطوات أساسية وحتمية نحو معالجة هذا الواقع المعقد بشكل مسؤول وإنساني.
ولن يؤدي تجاهل هذه القضية أو التعامل معها بمنطق التجريم المطلق إلا إلى تفاقم معاناة النساء ودفع البعض منهن إلى البحث عن حلول غير آمنة تعرض حياتهن للخطر، وتزيد من حجم المأساة الإنسانية في بلد يئن تحت وطأة الصراعات والأزمات المتلاحقة.