في حين تستمر الهدنة الهشة في غزة، تتلاشى آمال السلام في اليمن جنوبًا، حيث تقترب التوترات الكامنة والأزمة الاقتصادية من نقطة الانفجار.
وشهد اليمن هدوءًا نسبيًا منذ اتفاق الهدنة بين الحوثيين وخصومهم في الجنوب عام 2022، لكن مع اندلاع الحرب في غزة عام 2023، امتد التصعيد في النهاية إلى السواحل اليمنية.
و في الأسبوع الماضي، صنفت الولايات المتحدة رسميًا جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية أجنبية (FTO)، وهو قرار حذر محللون ومنظمات غير حكومية من أنه قد تكون له عواقب وخيمة على الوضع الإنساني والسلام في اليمن.
و يمكن رؤية بوادر هذا التوتر في مأرب، المنطقة اليمنية الاستراتيجية والغنية بالموارد، حيث شهدت الأسابيع الأخيرة حشدًا عسكريًا كبيرًا لقوات الحوثيين واندلاع اشتباكات، ما جعل الهدنة في أكثر مراحلها هشاشة منذ ثلاث سنوات.
و يعتقد (فارع المُسلَّمي)، الباحث في معهد تشاتام هاوس، أن شنَّ هجومٍ واسع النطاق في مأرب أو على جبهات القتال الراكدة الأخرى خلال رمضان أصبح أمرًا شبه محتوم.
وقال المُسلَّمي لصحيفة ذا نيو عرب: "سأكون مندهشًا جدًا في حال مر رمضان دون أن يشن الحوثيون هجومًا كبيرًا في يومٍ ذي دلالة دينية."
وأضاف: "الحوثيون لا يستطيعون العيش دون حرب. وقف إطلاق النار في غزة كان خارج سيطرتهم؛ إذا استمر، فسيضطرون إلى إيجاد جبهة داخلية في اليمن، وإذا انهار، فسيكون ذلك بمثابة طوق نجاة لهم ليعودوا إلى التصعيد في البحر."
ومنذ سيطرتهم على صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014، ظل الحوثيون في حالة حرب شبه دائمة، وحتى بعد بدء الهدنة مع الحكومة عام 2022، واصلوا استهداف السفن في البحر الأحمر وإطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، وهي عمليات يبررها الحوثيون بأنها تعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في غزة.
يؤكد فارع المُسلَّمي أن الصراع يمثل ركيزة أساسية للحوثيين، بوصفهم قوة عسكرية، لابتزاز السكان ماليًا وفرض حكمهم بالقوة، حيث يُعزى غياب الخدمات العامة والانهيار الاقتصادي إلى مآسي الحرب.
وقد استهدف الحوثيون أي روايات تشكك في سلطتهم، إذ تعرض صحفيين للتعذيب والقتل، واعتُقل عمال إغاثة، و اُقتِحمت المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك مكاتب الأمم المتحدة. ومع بدء الهدنة، تراجعت ذرائع الميليشيا لتبرير تفشي الفساد وسوء الإدارة الذي يعصف بالمناطق الخاضعة لسيطرتها.
وقال المُسلَّمي: "لا توجد كهرباء عامة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، لكنهم يديرون شركاتٍ خاصة لمولدات الكهرباء في صنعاء. لا تُدفع رواتب الموظفين، ومع ذلك، جمعوا في عام واحد ضرائب تفوق ما جمعه (الرئيس السابق) (علي عبد الله صالح) خلال خمس سنوات في جميع أنحاء اليمن."
وأضاف: "ما يحدث هو نموذج متكامل للديستوبيا؛ إذا أردت تلخيص أسلوب حكمهم، فهو مزيج من نهجِ فارك (FARC) في تمويلهم عبر الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وتطرف يشبه طالبان ولكن بطابعٍ مذهبي مختلف، إلى جانب عزلة شبيهة بكوريا الشمالية."
شهدت المنطقة تراجعًا في نفوذ الوكلاء الإيرانيين، حيث تعرّضت حماس لانتكاسة كبيرة بسبب الحرب على غزة، وفقد حزب الله جزءًا كبيرًا من قيادته في الغارات الإسرائيلية، كما تلاشى نفوذ نظام (بشار الأسد)، مما دفع مئات المقاتلين الحوثيين الذين كانوا في سوريا إلى الفرار عبر الحدود إلى العراق.
وباتت اليمن والعراق في طليعة التحالف المؤيد لإيران، ومع ضعف أقوى وكلاء طهران، أصبح أمام (عبد الملك الحوثي) فرصة للصعود إلى موقع إقليمي مؤثر، خاصة بعد وفاة (حسن نصر الله).
و يتمتع الحوثيون بميزتين رئيسيتين بالنسبة لإيران، وفقًا لفارع المُسلَّمي:
1- السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الاستراتيجية.
2- إثبات استعدادهم لاستهداف أي طرف، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة.
وقال المُسلَّمي: "الخبر السار للحوثيين هو أنهم أصبحوا في مقعد الدرجة الأولى ضمن محور المقاومة. و ظِلّ الأب الروحي لعبد الملك - حسن نصر الله - قد أزيح عن المشهد، مما جعل الحوثيين أكثر بروزًا وفائدة لإيران، خاصة مع استعدادهم للذهاب إلى أقصى مدى، وتهور عبد الملك الحوثي."
وأضاف: "السؤال هو: هل يمكن لعبد الملك أن يرث مكانة نصر الله؟ أعتقد لا؛ فهو لا يمتلك الحنكة السياسية ولا الخبرة في محاربة إسرائيل، كما أن الإيرانيين ينظرون إليه بدونية مقارنة بنصر الله. علاوة على ذلك، فهو ليس لاعبًا محوريًا في محور المقاومة، ولا يتمتع بأي نفوذ داخل الحرس الثوري الإيراني، على عكس نصر الله."
و يبقى من غير المؤكد ما إذا كانت القوات الجنوبية المتفرقة قادرة على التصدي لهجوم تشنه قوة حوثية موحدة وخبيرة في القتال، خاصة بعد انسحاب السعودية من المشهد.
شكّل تأسيس مجلس القيادة الرئاسي (PLC) في عام 2022 فرصة لتعزيز التماسك بين القوى الجنوبية، ورغم التحسن الذي شهدته القُدرات العسكرية اليمنية، لا تزال هناك تساؤلات حول مدى تكامل القوات الجنوبية المتنوعة وما إذا كانت قادرة على خوض المواجهة مع الحوثيين بمفردها.
وقال (إبراهيم جلال)، الباحث غير المقيم في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، لصحيفة ذا نيو عرب:
"مجلس القيادة الرئاسي موحد -على الأقل- من خلال إدراكه المشترك للتهديد الذي يمثله الحوثيون."
وأضاف: "على مدار السنوات الثلاث الماضية، خضعت القوات المسلحة اليمنية لتدريب جوهري وتغييراتٍ هيكلية، ودمجت الطائرات المُسيّرة ضمن قدراتها. أما القوات الأخرى المتحالفة داخل المجلس، لا سيما ألوية العمالقة، فقد أظهرت في الماضي قدرة قتالية نسبية، خاصة تحت غطاء جوي مكثف.
باختصار، يُعتقد أن القوات المسلحة اليمنية قد حسّنت جاهزيتها وقدراتها التشغيلية، وبالتالي عززت موقفها الدفاعي، حتى في غياب الغطاء الجوي. وسيكون عليها اجتياز الاختبار الحقيقي في حال شن الحوثيون هجومًا واسع النطاق."
وفي غضون ذلك، لا تزال الشكوك تحيط بمستقبل التحالف العسكري الأمريكي-السعودي، وهو توتر بدأ منذ حقبة باراك أوباما عندما سعت واشنطن إلى التوصل إلى اتفاقٍ نووي مع إيران، وتفاقم بعد الهجمات التي استهدفت منشآت سعودية في عام 2019 من قبل وكلاء طهران، والتي مرت دون رد أمريكي حاسم في عهد (دونالد ترامب).
هذا الغموض في العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية دفع الرياض إلى تعزيز تسليحها مع السعي في الوقت نفسه إلى تقارب مع إيران، وهو ما تُرجم إلى اتفاقٍ مفاجئ بوساطة صينية مع طهران في عام 2023. ومع ذلك، من غير المرجح أن تخفف هذه الخطوة المخاوف السعودية، خاصة وسط الاضطرابات التي شهدتها الأشهر الأولى من الولاية الثانية لدونالد ترامب، لا سيما في تعامله مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين.
وقال إبراهيم جلال:
"لكي تعيد السعودية الانخراط في اليمن، هناك شرطان أساسيان على الأقل:
1- ضماناتٍ أمنية أمريكية تتضمن حزمة دفاعية مطورة.
2- استعادة المصداقية الأمريكية."
وأضاف:"السعودية لم تنسَ تخلي إدارة ترامب الأولى عنها خلال هجمات بقيق وخريص عام 2019 (التي استهدفت منشآتٍ نفطية سعودية من قبل ميليشيات موالية لإيران)، والتي لم يكن مصدرها اليمن. و بشكلٍ عام، تميل الرياض إلى خفض التصعيد، رغم إدراكها للتهديد المستمر الذي يمثله برنامج الصواريخ والطائرات المُسيّرة الحوثي المدعوم إيرانيًا."
على صعيد آخر، أدت الهجمات الحوثية في البحر الأحمر إلى تراجعٍ حاد في واردات القمح والنفط والسلع الأساسية، مما تسبب في ارتفاع كبير في تكاليف التأمين على السفن التجارية.
وأدى ذلك إلى زيادة حادة في أسعار المواد الأساسية، مثل الخبز، إضافةً إلى تدهور البنية التحتية العامة في جنوب اليمن، نتيجة نقص قطع الغيار و تفاقم الفساد. وتصاعد الغضب الشعبي، خاصة في مدينة عدن، حيث خرجت احتجاجات واسعة بعد أشهر من انقطاع التيار الكهربائي المتكرر وأزمات المياه.
و لمنع اندلاع جولة جديدة من العنف، أكد (محمد السحيمي)، ممثل المجلس الانتقالي الجنوبي (STC) في المملكة المتحدة، أن على المجتمع الدولي الانخراط بشكل عاجل في العملية السياسية في اليمن، مشددًا على ضرورة إعادة النظر في هيكل مجلس القيادة الرئاسي (PLC)، الذي تم تشكيله بشكلٍ متسرع في سياق سياسي مختلف تمامًا عن الوضع الحالي.
وقال السحيمي لصحيفة ذا نيو عرب: "الجميع يترقب حدوث شيء، لكن لم يطرح أحد أي مبادرة جدية لحل الصراع أو حتى للبدء بمحادثات سلام."
وأضاف: "كانت هناك خارطة طريق قدمتها السعودية، لكنها كانت مبادرة سلام تهدف بالأساس إلى إخراج السعوديين من اليمن، وربما عززت الحوثيين أكثر، لأنها تضمنت دفع الرواتب. نحن نتحدث عن مليارات الدولارات التي سُلّمت للحوثيين، مما منحهم نفوذًا أكبر وقوة متزايدة."
ومع احتمال بدء الهجوم الحوثي، لا يزال المحللون منقسمين بشأن مدى دعم دول الخليج للحكومة اليمنية والقوات الجنوبية. و هناك إجماع على أن الإمارات ستواصل دعم حلفائها في الجنوب، في حين أن دور السعودية يبدو أكثر غموضًا.
ويعود ذلك إلى التكلفة الهائلة للتدخل العسكري السعودي في اليمن، والتي بلغت ذروتها حوالي 6 مليارات دولار شهريًا، إضافة إلى الضرر الكبير الذي لحق بسمعة المملكة الدولية بسبب سقوط آلاف الضحايا المدنيين جراء الغارات الجوية السعودية.
وقال السحيمي: "إذا تم رفع الغطاء عن اليمن، فإن الحوثيين سيمضون قدمًا للسيطرة على بقية البلاد."
وأضاف:
"الحوثيون لا يقاتلون من أجل قضية يمنية، بل من أجل حق إلهي في الحكم! لذلك، ستكون هناك حرب حقيقية ستدمر كل شيء، ومن المحتمل أن تمتد إلى المنطقة. و لن يكون هناك منتصر في هذا الصراع."