بينما يستعد دونالد ترامب للعودة إلى البيت الأبيض، يبدو أن إدارته الجديدة ستسعى إلى إحياء حملة "الضغوط القصوى" ضد إيران.
إذ تم تنفيذ هذه السياسة لأول مرة خلال فترة ولايته الأولى، بهدف شلّ اقتصاد إيران، وتقييد أنشطتها الإقليمية، وإجبار طهران على تقديم تنازلات بشأن طموحاتها النووية، وفي صميم هذه السياسة، كان التركيز على صادرات النفط الإيرانية، العمود الفقري لاقتصادها.
لكن المشهد الجيوسياسي تغير بشكل كبير منذ ولاية ترامب الأولى، مما يطرح تحديات وفرصاً جديدة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع إيران، ومن بين هذه التحديات دور الصين، التي برزت كلاعب حاسم في دعم اقتصاد طهران من خلال مشترياتها النفطية وشراكاتها الاستراتيجية.
وفي هذا السيناريو المعقد على نحو متزايد، قد يعتمد نجاح سياسات الضغوط القصوى الثانية التي سيمارسها ترامب، ليس فقط على عزيمة الولايات المتحدة، بل وأيضاً على قدرتها على التعامل مع الديناميكيات المتطورة للمثلث الأمريكي الصيني الإيراني.
في قلب استراتيجية ترامب تجاه إيران، هناك قناعة بأن العقوبات الاقتصادية يمكن أن تجبر طهران على الخضوع، إذ تسببت خلال فترة ولاية ترامب الأولى، في أضرار اقتصادية شديدة في إيران، مما أدى إلى خفض صادراتها النفطية إلى جزء بسيط من مستوياتها التي كانت عليها ما قبل العقوبات، وارتفعت معدلات التضخم، وارتفعت معدلات البطالة، وتراجع الاستثمار الأجنبي، مما ترك إيران معزولة على الساحة العالمية.
وعلى الرغم من هذه التأثيرات الاقتصادية، قاومت إيران تقديم تنازلات كبيرة، وبدلاً من ذلك، ضاعفت برنامجها لتخصيب اليورانيوم، وصعدت التوترات الإقليمية من خلال وكلائها، وسعت إلى أساليب جديدة للتهرب من العقوبات.
ويزعم المنتقدون لاستراتيجية الضغوط القصوى مثل ريتشارد نيفيو من جامعة كولومبيا، أنها فشلت في تحقيق هدفها النهائي المتمثل في إجبار إيران على التفاوض على اتفاق نووي جديد أو تغيير سلوكها بشكل كبير.
ويعتقد نيفيو، الذي عمل كخبير رئيسي ضمن الفريق الأمريكي المفاوض مع إيران بشأن الاتفاق النووي، أن إيران ستواصل مقاومة التفاوض بشأن المسائل غير النووية، حتى في ظل الضغوط المتجددة.
ومن المتوقع أن يعيد فريق ترامب تبني هذه الاستراتيجية، مع التركيز مرة أخرى على صادرات النفط الإيرانية، لكن التحدي هذه المرة يتفاقم بسبب الدور الحاسم للصين، التي تواصل استيراد النفط الإيراني على الرغم من العقوبات الأمريكية.
ومن ناحية أخرى، ونظرا لتباطؤها الاقتصادي، تشعر الصين أيضاً بقلق عميق بشأن الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، وقد تكون على استعداد للتخلي عن النفط الإيراني.
•دور الصين في صمود إيران
تعمقت علاقة الصين بإيران بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ففي عام 2021، وقعت الدولتان اتفاقية تعاون استراتيجي لمدة 25 عاماً، واتفقتا على استثمارات صينية بمليارات الدولارات في البنية التحتية الإيرانية والطاقة والاتصالات مقابل النفط الإيراني المُخفض السعر.
وقد أكد هذا الاتفاق على التزام بكين بالحفاظ على علاقات قوية مع طهران، ليس فقط لتحقيق مكاسب اقتصادية ولكن أيضاً كجزء من خطتها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً.
وباعتبارها واحدة من أكبر مستوردي النفط في العالم، تنظر الصين إلى النفط الإيراني باعتباره عنصراً حيوياً في استراتيجية تنويع الطاقة، فمن خلال الاعتماد على طهران، تقلل بكين من اعتمادها على الموردين التقليديين - مثل المملكة العربية السعودية - الذين يعتبر العديد منهم حلفاء تقليديين للولايات المتحدة.
كما تتمتع إيران بموقع جغرافي استراتيجي على طول مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث تعمل كحلقة وصل أساسية بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، ويمكن ترجمة الاستثمارات في البنية التحتية الإيرانية، إلى تعزيز القدرة الصينية على ربط هذه المناطق وتوسيع نفوذها العالمي.
ومن خلال دعم إيران، تثبت الصين نفسها كقوة موازنة لنفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، كما يعزز التوافق الصيني الإيراني موقف بكين في المفاوضات مع واشنطن بشأن قضايا أوسع، ويمكن استخدام إيران كواحدة من الأوراق المهمة للصين خلال المفاوضات.
وعلى الرغم من هذه المزايا، فإن علاقة الصين بإيران ليست بلا حدود حيث تحافظ بكين على علاقات اقتصادية قوية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكلاهما حذر من طموحات إيران الإقليمية.
بالإضافة إلى ذلك، فضلت الصين تجنب التحدي الصريح للعقوبات الأمريكية، واختارت بدلاً من ذلك أساليب سرية للتجارة مع إيران، مثل التحويلات من سفينة إلى سفينة وشبكات مالية وسيطة.
•السياق العالمي المتغير
تأتي استراتيجية ترامب لممارسة الضغوط القصوى ضد إيران في هذه المرة في عالم مختلف تماماً عن عام 2017، وأحد أهم التحولات هو تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وهي تلك العلاقة التي كانت تبدو في يوم من الأيام معقدة ولكنها فعالة، وتطورت إلى تنافس شرس وحروب تجارية وتوترات عسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وهذه العلاقة العدائية تعقد أي جهود من جانب الولايات المتحدة لتأمين تعاون الصين في فرض العقوبات على إيران، فعلى النقيض من ولاية ترامب الأولى، حين كان من الممكن أن تتعاون الولايات المتحدة مع بكين في قضايا التجارة، فإن احتمالات مثل هذا التنسيق تبدو ضئيلة الآن.
إن تنفيذ حملة "الضغوط القصوى 2" سوف ينطوي على إزالة ملايين البراميل من النفط الإيراني من السوق في وقت يستمر فيه الصراع بين أوكرانيا وروسيا، وتظل العقوبات ضد موسكو قائمة بقوة، وهو الإجراء الذي من المرجح أن يدفع أسعار النفط العالمية إلى الارتفاع.
ويشير ريتشارد نيفيو إلى أنه حتى لو فكر دونالد ترامب في تخفيف العقوبات على روسيا كجزء من استراتيجية أوسع نطاقاً، فإن تعقيدات آليات العقوبات الأمريكية والتحدي المتمثل في تأمين الدعم الدولي يجعل مثل هذه الخطوة صعبة للغاية.
وعلاوة على ذلك، شهد الشرق الأوسط نفسه تحولات كبيرة، فقد تحرك لاعبون رئيسيون مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة - اللتان كانتا في يوم من الأيام من المؤيدين المتحمسين للضغوط الأمريكية على إيران - نحو التقارب مع طهران، وهذا يعكس رغبة أوسع نطاقاً في الاستقرار الإقليمي، وخاصة في أعقاب الصراعات في اليمن وتصاعد التوترات مع إسرائيل وفي أعقاب التحولات الضخمة في سوريا.
وكما يرى ريتشارد نيفيو، فإن "السعوديون والإماراتيون يحاولون عقد صفقاتهم الخاصة مع الإيرانيين، ولم يعودوا يسعون إلى إقامة علاقة عدائية معهم".
•تكيُف إيران مع العقوبات
وعلى مر السنين، أظهرت إيران قدرة ملحوظة للتكييف مع العقوبات، فقد اعتمدت بشكل كبير على الأساليب السرية لبيع نفطها والوصول إلى الأسواق الدولية.
ويشمل ذلك التحويلات من سفينة إلى سفينة، ووثائق شحن مزورة، واستخدام العملات المشفرة لتجاوز الأنظمة المالية التقليدية، وعلى الرغم من فعالية هذه الأساليب في بعض الأحيان، إلا أنها مكلفة وغير فعالة في أحيان أخرى.
كما سعت طهران إلى تقليل اعتمادها على الواردات الأجنبية من خلال تعزيز الإنتاج المحلي، ويشمل ذلك الجهود المبذولة لتصنيع السلع محلياً وتطوير التقنيات المحلية، ومع ذلك، فإن هذه التدابير تستنزف الموارد، ولم تعوض بشكل كامل عن تأثير العقوبات.
وتُعد إحدى الاستراتيجيات الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للغرب هي أن ترد إيران على الضغوط الاقتصادية باستهداف حلفاء الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة.
ويشمل ذلك شن هجمات على سفن الشحن في مضيق هرمز، والضربات على منشآت النفط السعودية، وذلك بهدف إجبار الدول الأخرى على تحمل بعض التكاليف الاقتصادية والأمنية.
وبينما سمحت هذه الاستراتيجيات لإيران بالصمود، إلا أنها لم تمنع البلاد من مواجهة صعوبات اقتصادية شديدة حيث مازال التضخم مرتفعاً، والبطالة منتشرة على نطاق واسع، ويستمر الاستياء العام من الحكومة فيما يتعلق بمعدل النمو، ومع ذلك، تمكنت الجمهورية الإسلامية من الحفاظ على دعمها للوكلاء الإقليميين، ومواصلة أنشطتها النووية، ولم يتحقق الهدف الأولي المعلن للضغوط القصوى بعد، وهو التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران.
•دور الدعم الدولي
ستكون إحدى التحديات الرئيسية لاستراتيجية ترامب لممارسة ضغط جديد على إيران هي حشد الدعم الدولي، فخلال فترة ولايته الأولى، واجهت الولايات المتحدة معارضة كبيرة من الحلفاء الأوروبيين، الذين انتقدوا قرار الانسحاب من الاتفاق النووي المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، وقاوموا الجهود لإعادة فرض العقوبات.
وبينما حاولت إدارة بايدن إصلاح العلاقات مع أوروبا وإعادة الدخول في الاتفاق النووي، فشلت هذه الجهود في النهاية. وطالب الإيرانيون بضمانات بأن الولايات المتحدة لن تنسحب من أي اتفاق مستقبلي، وهو الوعد الذي لم تكن واشنطن راغبة في تقديمه.
وبدون الدعم الأوروبي، يقع عبء فرض العقوبات إلى حد كبير على الولايات المتحدة وقدرتها على الضغط على الصين، ومع ذلك، كما أشار نيفيو فإن "السؤال الحقيقي هو ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لمواجهة الصين بشأن دعمها لإيران، وبدون ذلك، قد تسفر الضغوط القصوى عن نتائج محدودة".
ومن منظور بكين، يجب موازنة علاقاتها مع طهران بالأولويات الجيوسياسية الأوسع، وفي حين أنه من غير المرجح أن تقطع الصين شراكتها مع إيران، إلا أنها حريصة أيضاً على تجنب أي إجراءات قد تؤدي إلى تصعيد التوترات مع الولايات المتحدة إلى مواجهة واسعة النطاق.
وبالنسبة لدونالد ترامب، فإن نجاح إحياء حملة الضغوط القصوى يتوقف على قدرة إدارته على التعامل مع هذه الديناميكيات الجيوسياسية المعقدة، وخاصة التحديات التي يفرضها نفوذ الصين المتنامي.
أما بالنسبة لطهران، فإن المخاطر بالغة الأهمية، فعلى الرغم من قدرتها على الصمود في مواجهة العقوبات، يظل اقتصاد إيران هشاً، ويخاطر برنامجها النووي المتقدم بمزيد من العزلة عن المجتمع الدولي.
وفي نهاية المطاف، ستشكل الطريقة التي ستدير بها طهران علاقاتها مع الصين وأوروبا والولايات المتحدة مستقبلها الاقتصادي والسياسي.
ويرى البعض في طهران وواشنطن أن سمعة ترامب كزعيم ذو نزعة تجارية، هي فرصة لإبرام صفقة جديدة، وتشير التقارير الأخيرة غير المؤكدة إلى دبلوماسية محتملة عبر قنوات خلفية بين الولايات المتحدة وإيران، مما يشير إلى استعداد حذر للتفاوض.
ومع ذلك، فإن المتشددين داخل إيران يعارضون بشدة هذه الخطوة حيث ينظر الإيرانيون - وخاصة أولئك الذين يتحالفون مع الحرس الثوري - إلى المفاوضات بعين الشك، ويفسرونها على أنها تنازل أمام الضغوط الأجنبية.
وعلى الصعيد الدولي، يشكك البعض أيضاً في قيمة متابعة المحادثات مع طهران، بحجة أنها قد لا تحقق سوى القليل من الفائدة، ومع استمرار لعبة الشطرنج الجيوسياسية المعقدة هذه، هناك شيء واحد واضح، هو أنه لن يتشكل الفصل التالي من العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران فقط من قبل ترامب وطهران، بل سيتأثر أيضاً بالوجود المتزايد لبكين في المنطقة.