في الجهة الشمالية من مدينة عدن، حيث العاصمة المؤقتة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، يتواجد "مخيم البساتين" الذي يضم نحو مائة ألف لاجئ أفريقي يعيشون في ظروف إنسانية بالغة التعقيد.
يقطن هؤلاء اللاجئون في خيمٍ لا تقيهم حرّ الشمس ولا تقلبات الطقس المتعددة في المدينة الساحلية، التي تعاني من حرارة شديدة معظم أشهر السنة. كما تفتقر المنطقة إلى الخدمات الأساسية، وقد قدم الجميع إلى هنا في فترات متقاربة بحثًا عن الأمان.
منى سلال مصلح، شابة عشرينية، تعمل في "مؤسسة باحث" التي تُعنى بمساعدة اللاجئين الأفارقة، وتسعى لتسهيل حصولهم على الخدمات منذ ثلاث سنوات.
يقع مقر المؤسسة بالقرب من مخيم البساتين، تأسست كمبادرة عام 2017، لتصبح مؤسسة مسجلة عام 2023 بترخيص من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
تعتبر "منى" عملها تجربة استثنائية، فمتطلبات هذا العمل تستدعي منها فهم رغبات اللاجئين واحترام آرائهم ومساعدتهم في تلبية احتياجاتهم.
"العمل مع اللاجئين الأفارقة ليس سهلًا. نحن نتعامل مع فئة تعاني من تدمير نفسي وضعف صحي نتيجة الأزمات المتراكمة التي فرضتها الحرب وظروف الحياة الصعبة، سواء في اليمن أو في بلدانهم الأصلية"، تقول منى.
تحديات التواصل
تواجه عديد المؤسسات في اليمن تحديات وصعوبات أثناء التعامل مع اللاجئين الأفارقة، إذ يرفض غالبيتهم التعاون.
تشير منى إلى هذه العقبة، "غالبًا ما يحدث سوء تفاهم مع اللاجئين الأفارقة، نظرًا لحساسيتهم الناتجة عن الإهمال المستمر لقضاياهم".
من وجهة نظرها، يتطلب العمل معهم مهارات خاصة وخبرات للتعامل مع تعقيد وضعهم.
رحلة التعلم
كانت البداية صعبة بالنسبة لـ منى، خاصة أنها لم تكن تجيد اللغة الصومالية، قبل أن تتعلمها بالممارسة في الميدان، ما ساعدها على اكتساب مهارات عديدة في التواصل، "كان من الضروري أن أتعلم اللغة لأتمكن من التحدث معهم بشكل أفضل وأن أفهم احتياجاتهم".
بعد ثلاث سنوات من العمل مع اللاجئين، تصف منى شعورها، "جميل جدًا أن تتمكن من مساعدة أشخاص كانوا بحاجة للمساعدة، ولم يكونوا يعرفون أن هناك مؤسسات قد تقدم الدعم لهم. لقد ساهمت في رفع الوعي لدى مجتمع اللاجئين عن حقوقهم، وكنت أتعلم منهم أيضًا كيف أساعدهم".
تجربة امرأة أثيوبية
أم إبراهيم، لاجئة إثيوبية وصلت إلى اليمن مطلع 2019، وهي واحدة من المستفيدات من جلسات الدعم النفسي التي يقدمها مركز الباحث الاجتماعية عبر مختصيها.
لا تزال أم إبراهيم تتذكر رحلتها المحفوفة بالمخاطر عبر البحر، حيث قضت ثلاثة أيام في قارب قادمة من بلدها الحبيس إلى محافظة لحج، جنوبي اليمن. وتقول إنها عانت خلال الرحلة من اكتئاب ومشاكل نفسية، لكنها وجدت الدعم في المؤسسة التي ساعدتها على تجاوز محنتها.
عودة من حافة الجنون
تستعيد أم إبراهيم ذاكرتها بعمق، "كل ما حصل لنا في البحر يهون، حتى لو مت وغرق القارب، فهو أهون من العيشة في اليمن. هربنا من حرب إلى حرب، يعني إذا ما مت بأثيوبيا، سأموت هنا. تعبت نفسيًا، وكل الوقت أفكر: لو مت، من سيجلب لأهلي مصروفًا ليعيشوا؟ الوضع الاقتصادي هنا أيضًا سيء، وكل هذا يسبب آثارًا نفسية وتراكمات سلبية تجعلني أشعر كالمجنونة".
ورغم الصعوبات النفسية التي عاشتها، بدأت تشعر بالتحسن منذ حصلت على جلسات الدعم النفسي في المركز المخصص للاجئين.
"حالتي النفسية بدأت تتحسن منذ أن جئت إلى مؤسسة الباحث الاجتماعية. كل يوم أربعاء أذهب إلى الطبيب وأشرح له كل ما مررت به من ظروف، والحمد لله، تحسنت وأصبحت أفضل من قبل"، تقول.
الدعم النفسي في اليمن
وفقًا لإحصائية منظمة الهجرة الدولية، حصل حوالي 50 ألف من المهاجرين والمجتمعات المضيفة والنازحين في اليمن على دعم في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي من فريق الصحة التابع للمنظمة عام 2022. يساعد هذا الدعم الأشخاص المتضررين من الصراع وسوء المعاملة على تجاوز تجاربهم المؤلمة وبناء مستقبل أكثر صحة.
إلى جانب خدمات الدعم النفسي، تقدم مؤسسة الباحث الاجتماعية، التي يديرها 460 متطوعًا و20 موظفًا، عديد الخدمات الاجتماعية والإنسانية. تشمل هذه الخدمات الاستشارات والدعم والرعاية للاجئين، ورفع الوعي بحقوقهم، وتوفير الخدمات الأساسية لذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى الدعم المادي والمعنوي. كما تشمل التأهيل من خلال التدريب على المهارات التعليمية، والألعاب الذهنية، والرسم.
تزايد أعداد اللاجئين
بحلول منتصف 2023، عبر أكثر من 77 ألف مهاجر خليج عدن وصولًا إلى اليمن، قادمين من الصومال وأرتيريا وأثيوبيا، وهو رقم يتجاوز ما سُجل خلال 2022، حيث بلغ عدد المهاجرين الواصلين 73 ألف مهاجر. وفي حين كانت الأعداد في العام الذي سبقه 27 ألف مهاجر فقط، سجل وصول 37 ألف مهاجر عام 2020. يُظهر هذا التزايد ثلاثة أضعاف عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى اليمن خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
مخاطر وتداعيات
مع تزايد أعداد المهاجرين، تزداد أيضًا المخاطر التي يواجهها الأفراد المتنقلون على "الممر الشرقي"، المعروف بانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك التعذيب والعنف والإتجار بالبشر.
تقول الناشطة الحقوقية تهاني الصراري: "ساهمت الأوضاع في اليمن والحرب بشكل عام في حالة من التدهور والانفلات، ما أدى إلى زيادة هجرة الأفارقة إلى اليمن عامًا بعد عام".
تضيف، "كانت هجرة الأفارقة إلى اليمن محطة عبور إلى المملكة العربية السعودية، لكن المعادلة تغيرت، حيث تم استخدام بعض الأفارقة كخلايا نائمة ومصالح شخصية في التهريب، ليصبح دخولهم عبر الحدود منظمًا"، مؤكدة أن عدد الأفارقة اللاجئين أصبح هائلًا، بعدما أصبحت عدن وجهتهم الرئيسية.
غياب الإجراءات الحكومية وتأثير الأزمات
وتأسف الصراري لغياب الإجراءات الحكومية حيال مشكلة الهجرة المتزايدة، مشيرةً إلى أن "الدولة لم تقم بأي خطوات حقيقية تجاههم".
وتسلط الضوء على دور المنظمات الدولية، التي ساهمت في إعادة العديد من المهاجرين إلى بلدانهم، "تعمل منظمات دولية مثل الهجرة الدولية على إعادتهم إلى أوطانهم عبر مطار عدن، وهي خطوة هامة. ومع ذلك، ما زالت أعداد المهاجرين في تزايد، والهجرة مستمرة جراء عدم مراقبة الحدود بشكل مستمر".
الوضع الإنساني في اليمن
أدى تصاعد الصراع واستمرار حالة انعدام الأمن إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية، مما دفع 73% من سكان البلاد للاعتماد على المساعدات الإنسانية. ولا تزال بيئة الحماية غير مواتية، حيث يواجه المدنيون تبعات الصراع بشكل مباشر.
تشير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن اليمن، رغم كونه يعيش واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم، يستضيف 95,815 لاجئًا وطالب لجوء، معظمهم من الصومال وإثيوبيا.
أطفال في مهب المعاناة
أسامة محمد، طفلٌ صومالي تجاوز عمره عشرة أعوام، لم يلتحق بالمدرسة بسبب فقدان أوراقه الثبوتية مع عائلته أثناء فرارهم من الصومال، مما حرمه من التعليم.
يقول: "يئست أن أعود للمدرسة أو أتعلم، لكن مؤسسة الباحث أعطتني الأمل في أن أدرس، وتوفر لي مكانًا للتعليم والقراءة والكتابة، كما أتعلم مهارات تفيدني."
يضيف، "هذا المكان غيّر لي نفسيتي، وجعلني أشعر بأنني كلاجئ في اليمن لدي حقوق. إنه شعور مختلف وحياة جديدة".
ظروف نفسية صعبة
تتسبب رحلات التنقل التي يقوم بها اللاجئون من بلدانهم، وصدامهم بالواقع المزري في اليمن، في تعرضهم لظروف نفسية قاسية.
يشير الأخصائي النفسي الدكتور محمد سلطان، من مدينة عدن، إلى أن غالبية اللاجئين الأفارقة الذين هربوا من أزمات بلادهم، كانوا يأملون في أن تكون اليمن محطة عبور للوصول إلى دول الخليج أو أوروبا بحثًا عن الأمان.
"لكنهم يواجهون واقعًا صعبًا في اليمن، خاصة أولئك الذين فشلوا في الوصول إلى وجهتهم النهائية، ما يعرضهم لاضطرابات وأزمات نفسية نتيجة التعذيب والاعتقالات والانتهاكات التي تعرضوا لها، أو بسبب إجبارهم على القتال في الجبهات أو استغلالهم في الأعمال الشاقة وسوء معاملتهم"، قال.
ويضيف سلطان، "مثل هذه الحالات تتعرض لتراكمات نفسية متزايدة، ومع تفاقم الأزمات التي شهدتها البلاد نتيجة الحرب، تتضاعف معاناتهم وتزداد حاجتهم للدعم النفسي والاجتماعي."
وسط التحديات المتصاعدة والمخاطر التي تحيط باللاجئين الأفارقة في اليمن، تشكل جهود الأفراد والمؤسسات، مثل "منى سلال" ومؤسسة "باحث" وبقية المنظمات الإنسانية، بارقة أمل تسعى لتخفيف معاناة هؤلاء اللائذين عبر الدعم النفسي والاجتماعي وتحسين ظروف حياتهم.
ورغم المبادرات، يبقى المطلب الأهم في تدخل فعّال من الجهات الحكومية والدولية بقرارات وسياسات شاملة، تعالج جذور الأزمة وتوفر بيئة آمنة تحترم الكرامة الإنسانية وتمنح اللاجئين فرصة حقيقية للعيش الكريم.
تم نشر هذه المادة في منصة هودج