قد تبدو هوية سوريا الجديدة واضحة بالنسبة لكثير من السوريين، هوية سوريا الثورة، بشعاراتها ورموزها المعمول بها خلال العقد الفائت. سقط الأسد، ورحل الأبد. اليوم يفرح السوريون، ويحاولون فهم سياقات ما جرى ومتتاليات الأحداث المتسارعة التي دفعت وساهمت في سقوط الأسد.
إشارات على هذا الوضوح، وضوح الهويّة، ظهرت في تسارع السوريين إلى إعلان جوانب من هوية سوريا الجديدة حيث كانت بديهية لهم، عسكريين ومدنيين، محافظين وليبراليين. مثل علم الاستقلال السوري بوصفه علم الثورة، وتداولوا أيضاً نشيداً من قصيدة للسوري عمر أبو ريشة بوصفه نشيد سوريا الجديدة، وبدرجة أقل يتوافق السوريون أيضاً على دولة مدنية ويختلفون على مركزية الحكم فيها.
هوية سوريا مطروحة للنقاش والتداول إذاً، والسوريون متلهفون لمعرفة هذه الهوية وإعلانها. جوانب مهمة سياسية مؤجلة إلى حين تتوضح المرحلة الانتقالية، وجوانب أخرى اعتبروها بديهية، وسارعوا إلى إعلانها مثل العلم والنشيد.
إعادة النظر في البديهيات
اعتبار العلم والنشيد من البديهيات، لا يعبّر عن هويات سوريا كلها، حتى لو لم يكونا يعبّران عن هويات مواطنيها جميعاً، فإنهما يبدوان أقل أهمية أمام بعض الأمور الأكثر وضوحاً، التي ستكون جزءاً من نقاشات المرحلة المقبلة، مثل شكل الحكم، والحريات وهيكل الدولة. فما الذي ينبغي أن يقدّمه كل طرف في سوريا للوصول إلى هوية جامعة لهم ؟.
من يحكم سوريا اليوم هي قوى الأمر الواقع، التي كانت موجودة قبل سقوط الأسد، ولم يكن السوريون قد توافقوا على شرعية هذه القوى من ناحية، كما أنهم أيضاً اعترضوا على سياساتها من ناحية أخرى، وبمجرد سقوط النظام نجد إشارات من الدول المتداخلة والمتسارعة لإرسال وفودها، للسماح بإشراك هذه الأطراف في العملية السياسية والفترة الانتقالية، بل ربما قيادتها.
تتطلب المرحلة الانتقالية توافقاً عالياً ومرونة كبيرة من هذه الأطراف، التي تصارعت في ما بينها أيضاً، إلى جانب معركتها مع النظام، حتى وصلت إلى سوريا فيها الكثير من اللاعدالة، من الثأر الدفين، من التغيير الديموغرافي، ومن حالات القتل والإبادة، إلى غياب تام للثقة بين الشعوب السورية ومكونات سوريا المتعددة.
في سوريا مظلمات تاريخية عديدة، ولكن توجد مظلمتان كبيرتان في السنوات الأخيرة، تطغيان على باقي المظلمات، والمتمثلة في “الإخوان المسلمين” والكرد، عانى هذان المكونان من خطر إبادة كاملة بسبب هويتيهما، وليس فقط معارضتيهما للنظام.
ارتكب النظام السوري مجازر بحق “الإخوان المسلمين”، قبل حماة 1982وبعدها، كان الإسلاميون في سوريا عدو النظام الأول، وانتقم منهم بطرق وحشية. وأثناء الثورة السورية، تركزت المقتلة السورية على المكون السني بشكل أكبر بكثير من باقي المكونات. في المقابل تعرض الكرد لإلغاء مماثل وإجرام من الحكومات السورية المتعاقبة، ومن قبل معارضين للنظام أيضاً، كما تعرضوا لهجوم الإسلاميين وحرب مدعومة من تركيا، لا تزال مخاطرها قائمة.
الأهم من هذا، أن هذين المكونين هما الوحيدان اللذان يمتلكان قوة مسلحة منظمة على الأرض (قوات سوريا الديمقراطية، وهيئة تحرير الشام) لدى كل منهما سلطة ونظام حكم خاص بها، كما لديهما تحالفات إقليمية ودولية، ولا شك في وجود كلمة كبرى لهما في تشكيل هوية سوريا الجديدة.
من يمثّل السوريين ؟
لا تمثّل هاتان القوتان الشعب السوري بصفة شرعية، لكنهما تعبّران بطريقة ما، عن ثنائية سورية قد تظهر في السنوات المقبلة، وتعبّران عن تيارين رئيسيين في المجتمع السوري. تيار محافظ يتمثّل بالإسلام السياسي، الذي سيدفع نحو قوانين شرعية ووجود لافت للدين في هوية الدولة وقوميتها وعروبتها، وتيار آخر يدعو إلى العلمانية واللامركزية والمدنية، وحماية الأقليات وتعددية سوريا، بعيداً عن الهوية العربية الأحادية، ولا ينفي ذلك التجاوزات وأحياناً الانتهاكات التي يرتكبها الاثنان ! والصراعات بينهما لـ”حكم” التراب والناس !
تُظهر، حتى الآن، “هيئة تحرير الشام” مرونة نحو الأطراف الأخرى، وتحمل خطاباً تسامحياً حتى مع ما يمثّل النظام الساقط. لم تتبنَ الهيئة خطاب تركيا والمعارضة المسلحة في محاربة القوات الكردية، ولم تعتبر تلك معركتها، واللافت عدم الإتيان على ذكر “قوات قسد”، أو وصمها بالإرهاب.
الحالة الوحيدة التي شهدناها، هي توافقات بتسليم سلمي لبعض المناطق، وحماية متبادلة لمناطق النفوذ والمدنيين. في المقابل ترسل “قسد” تطمينات عن انفتاحها على الحوار مع أي سلطة جديدة في دمشق، رفعت علم الاستقلال على مؤسساتها، وأكدت كونها جزءاً رئيسياً من سوريا الموحدة.
على السوريين اليوم، فهم واقع سوريا الجديد وتقبل جميع أنواع التغيير. سوريا الجديدة لا تعني تغيير علمها ونشيدها والشخصيات الحاكمة فيها، إنما تتطلع إلى تغييرات جذرية على شكل الدولة، وشكل الحكم. يخشى السوريون من مركزية للسلطة في دمشق، تمنعهم من الوصول إلى ما حلموا به طوال سنوات طويلة، بينما تذوقوا ومارسوا الحرية في المجتمعات الأوروبية، ووصلوا إلى البرلمانات.
في الجزيرة السورية في المقابل، مظلمة كردية إلى جانب مظلمة عربية وأشورية على حد سواء. التهميش السلطوي لم يكن مقتصراً على النظام الحاكم في سوريا، لكن “الجزراوي” السوري عانى طويلاً من تهميش النخب السورية، ومركزية المدن الرئيسية الصناعية على حساب الأرياف والمدن النائية.
عانى “الجزراوي” من التنميط والخطاب الفوقي والعنصري أيضاً. في سوريا هويات متعددة، غير الهوية الدمشقية والحلبية، التي تمثّلت في الإعلام، في الفن والأدب والهوية السائدة، وفي سوريا أيضاً لغات متعددة، علها تكون جزءاً من تنوعها المقبل،يُنظر إلى هذه الاختلافات بعين الاعتراف على المستوى النظري، إلا أن هذه الاختلافات تتطلب أفعالاً وخطوات عملية، من شأنها إعادة بناء الثقة بين السوريين. وذلك سيعني بالضرورة تقديم كل طرف تنازلات معينة للوصول إلى صيغة جامعة.
هويّة لـ”كلّ السوريين” ؟
لا تعطي أصوات سورية كثيرة الأهمية الكافية لمطالب السوريين وقلقهم على هوياتهم الفرعية، ويعتبرون انتصار الثورة تطميناً كافياً بأن سوريا الجديدة ستكون لكل السوريين، رافضين النظر إلى سنوات من الحروب والتمزيق وغياب الثقة، وبما أن أحد أطراف الحاملة لمظلومية كبيرة (المظلومية السنية) تصل لتكون قريبة من الحكم، فإنها لا تُولي الاهتمام بمظلومية الكرد والأقليات الأخرى، سوى بشعارات التطمين، بل يذهب البعض إلى اتهامهم بقلة الوطنية وبالتخوين والانفصال.
استطاعت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا خلال ما زاد عن سنوات عشرة، أن تكون الطرف الأكثر براغماتية في الصراع السوري، وأظهرت ليونة معقولة في خلق توازن بين تأمين حد أدنى من المتطلبات الخدمية والأمنية، ترصين التحالفات العسكرية واللعب على التوازنات الإقليمية، ونجحت في تمييز نفسها بهوية وثقافة متفردة عن محيطها.
في حين نجحت في تحقيق مكتسبات عديدة، مرّت أيضاً بأوقات عصيبة هددت وجودها، لتكون في المحصلة، حتى الآن، أحد أكثر الأطراف السورية تنظيماً وفاعلية. برغم الاختلاف على مشروعية وصول “قسد” وعلى ما هي عليه من عدمه، فبرنامجها السياسي يقدّم هوية سياسية سورية جامعة، تتبنى العلمانية واللامركزية. فهل تقدّم أطراف سورية أخرى هوية جامعة واعدة للسوريين؟
لم يقدّم النظام بطبيعة الحال أي هوية جامعة للسوريين. والهوية الوحيدة التي قدّمها لسوريا على مدى عقود، كانت هوية “سوريا الأسد”. على الجانب الآخر لم تقدّم المعارضة حتى الآن هوية جامعة. العكس تماماً، أظهرت معارك “فجر الحرية” وارتهان “الجيش الوطني” للقرار التركي؛ حتى أثناء توجه السوريين لإسقاط الأسد، نية أطراف من المعارضة في إنهاء أي وجود كردي، وأعادت إلى أذهان الكرد عقداً من الانتهاكات الممنهجة ضدهم.
بعد محاصرة “قسد” في حيي الاشرفية والشيخ مقصود في حلب، وتل رفعت، أجبرت فصائل المعارضة “قسد” على التوجه نحو مناطق نفوذها في شرق الفرات. الأمر الذي أدى إلى نزوح جماعي جديد لمهجرين كانوا أصلاً مهجرين قسراً من عفرين وغيرها. ولم يعودوا إلى بيوتهم حتى بعد إسقاط النظام. وبرغم تجنب الاشتباك حتى الآن، وعرض الهيئة تطمينات للمدنيين، لا يثق المجتمع الكردي بها.
يستمر الإصرار من بعض أطياف المجتمع السوري (محافظين وليبراليين) على شيطنة مشروع الإدارة الذاتية، على أنه كردي قومي ومناهض للثورة. يزيد هذا من شعبية “قسد” في مناطق شرق الفرات (من الكرد والمسيحيين وعرب المنطقة والمتخوفين من هو متخوف من الإسلام السياسي) ويزيد من انكماش هذا المشروع على نفسه، بعيداً عن هوية وطنية مزعومة. أبعد من ذلك، يصبح هذا المشروع بالنسبة إلى معارضي “قسد” المحليين أنفسهم، ملاذاً يحميهم من احتمالات عنف قد تصل إلى تطهير عرقي، ويدفعهم إلى أن يفضلوها على السلطة المركزية.
ما بعد حزب العمال الكردستاني
في المقابل تعي “مسد/ قسد” تماماً أن الحكم بمنطق الميليشيا أصبح من الماضي، لذلك تحاول ما استطاعت، صنع بعض التغييرات الهيكلية، وظهرت إشارات لهذه المرونة من قبل “قسد” في السنوات الأخيرة، خلافاً للسلطوية الحادة في بداية سيطرتها على الشمال الشرقي.
لكن منذ “هزيمة عفرين” عام 2018 على سبيل المثال، قامت “مسد” بالتقرب من المكونات الأخرى بشكل أكبر، والاعتماد على “مجلس سوريا الديمقراطية” كممثل سياسي، وإبقاء حزب “الاتحاد الديمقراطي” حزباً ضمن منظومة أكبر، وإعادة تدوير شعار الفيدرالية في مؤتمرها المنعقد صيف 2018، وتبني اللامركزية السياسية في وثيقة العقد الاجتماعي بشكل معقول، وقدّمت بالمقابل كل التطمينات المطلوبة، للبدء بمرحلة انتقالية ورفع شعارات الثورة وعلمها، ويُطلب منها انفكاك القرار السياسي من حزب “العمال الكردستاني”.
الانفكاك عن قرار حزب “العمال الكردستاني” هو مطلب سياسي للقوى السياسية، كما هو مطلب شعبي أيضاً. لكن يُطلب اليوم من السوريين تفهّم سياقات المجتمع الكردي، وفهم المسألة الكردية تاريخياً واجتماعياً وسياسياًً.
لا يمكن أن ينفك حزب “الاتحاد الديمقراطي” أيديولوجياً عن حزب “العمال الكردستاني”، لان كرد سوريا جزء رئيسي من بنية الحزب، ناضلوا ضمنه، وقاتلوا وتطوعوا منذ تأسيسه في نهاية السبعينيات.
لم يكن الكرد ينتمون إلى الدول التي أُلحقوا بها، وانتموا بشكل طبيعي إلى نسيجهم الكردي، وحركات التحرر ضد المشاريع التي مزقت مجتمعاتهم. وجود حزب “العمال الكردستاني” في سوريا، هو نتيجة إيمان شريحة كبرى من الكرد السوريين، بنضالاته وما انتزعه لكرد تركيا من حقوق.
يشبه الكرد بذلك الفلسطينيين الملتفين حول حركات التحرر الفلسطينية المؤمنة بحقهم التاريخي في الأرض، وإذ يفهم الحزب أن أدوات النضال والمقاومة اليوم تغيرت، والصراع المسلح لن يكون خياره الأول، فإنه يتوجه لدمشق، ويؤمن بضرورة حل مسألة كرد سوريا ضمن إطار الدولة السورية، بعيداً عن القوموية، لا يمكن مطالبة كرد سوريا بحل الحركة الكردية وتخطيها، في حين يجب إشراكها وفهم مطالبها المحقة.
وصف مشاريع الكرد السوريين بـ”الإرهاب” و”الانفصال”، وشيطنة هذا المشروع، يخدم المشروع التركي فقط، الذي حاول خلال سنوات من الحرب السورية واحتلال الأراضي السورية، تغيير ديمغرافيتها، وهويتها الدينية، وفرض سياسات تتريك.
هذه المخاوف لم تتلاشَ بعد، لذلك الاعتراف والحوار مع الإدارة الذاتية في المرحلة الانتقالية ضرورة قصوى، والانفتاح على تغييرات في شكل الدولة واسمها ورموزها، سواء كانت علمانية، أو لون العلم، أو كلمات النشيد. بعد نصف قرن من حكم أحادي، يجب أن تكون هوية سورية مطروحة على طاولة النقاش، من دون شروط أو “فيتو”.