في بداية الحرب اليمنية عام 2015 استطاع المعسكر المعادي للحوثي بمساعدة التحالف تحقيق إنجازات عسكرية أبرزها السيطرة على مدينة عدن التي أُعلنت حينها كعاصمة مؤقتة. رغم مرور تسع سنوات أي قرابة عقد على هذا الحدث، ظل الفشل في تحقيق نموذج شبه دولة في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية واضحا وغير قابل للنقاش. تبرير ما جرى بحقيقة أن الدولة اليمنية كانت شديدة المركزية والحوثي ورث جميع مؤسساتها المتمركزة في صنعاء لم يعد كافيا، نظراً لطول مدة الإخفاق، الذي تجاوز أعذارا مثل دمار المباني وضعف القدرات المالية وضياع التراكم المؤسسي.
بالطبع، التلكؤ في الانتقال إلى عدن خلق حالة من البطالة السياسية التي استمرأها الكثير من قيادات الصف الأول، وأصبحت عادة يصعب التخلص منها. إضافة إلى حالة من الاستسلام الكلي للفاعل الخارجي ورغباته التي قد تتوافق مع مصالح البلد أو لا تتوافق سواء بسبب الفهم الناقص أو بسبب تباين الأولويات والمصالح.
يمكن إجمال إشكاليات المسألة في ثلاثة أمور: أولها، غياب القيادة التي تمتلك رؤية للمستقبل، فالنخبة الحالية ينتمي معظم أفرادها من الصف الأول إلى تركة آخر مراحل الرئيس علي عبدالله صالح الذي كان يميل في آخر عقد من حكمه لتقريب الضعفاء والفاسدين الذين يسهل تطويعهم، وتلاشى من حوله من كانوا يشكلون المنظومة التي بنت الدولة بخبراتها التكنوقراطية ونزاهتها. بل إنه أضيف لهذه التركة "الصالحية" شخصيات قادمة من الحراك الجنوبي أو الحراك لعام 2011 لا تقل سوءا، ليس فقط لأنها تفتقد الخيال وقبلت بالمنظومة الفاشلة والفاسدة كما هي، بل لأنهم أيضا بلا إرث سياسي أو خبرة وقدرات سياسية.
أوجد هذا مزاجا يتعامل مع الوضع في البلد كسفينة غارقة لا يسع المرء تجاهها سوى التفكير في نجاته الفردية. لذا أصبحت منظومة السلطة عبارة عن شبكة مصالح تظهر بوضوح في التعيينات الوظيفية التي لا داعي لها وتكشف عن شبكة محسوبية وشللية ضيقة الأفق، ناهيك عن الفساد الفاحش الذي قضى على الموارد المحدودة التي كانت تمتلكها الحكومة. ويمكن التغلب على هذه الإشكالية من خلال تطوير أدوات المساءلة مثل تفعيل دور جهاز الخدمة المدنية المسؤول عن التعيينات الوظيفية في الحكومة. وكذا، تمكين قيادات سياسية موجودة بالفعل لكنها ضمن الصفوف الخلفية رغم أنها تمتلك الخبرة والنزاهة الكافيتين للاستفادة منهما.
يمكن تطوير أدوات المساءلة مثل تفعيل دور جهاز الخدمة المدنية المسؤول عن التعيينات الوظيفية في الحكومة*
الأمر الثاني هو عقلية جمع الغنائم قبل انتهاء المعركة. وفي وقت حافظ فيه الحوثي على حماسه القتالي، انشغلت الحكومة بترتيبات تقاسم السلطة وتنازعت حول الكعكة والجائزة قبل انتهاء المعركة، ما كرس حالة نزاع مستديمة أججتها انقسامات دول التحالف وتباين مصالحها، مع غياب أي قواعد واضحة بين الحلفاء اليمنيين والإقليميين في علاقة أصبحت معتلة بوضوح بسبب تباين التوقعات وغياب القدرة على التواصل ومشاعر الإحباط وعدم الثقة المتبادلين. ويفترض أن هناك آليات لحل النزاع، مثل لجنة التشاور والمصالحة التي تشكلت مع مجلس القيادة وغيرها من كيانات وشخصيات قد تلعب دور الوسيط. لكن إشكالية غياب لوائح تنظيمية وتداخل المهام والصلاحيات تظل أسبابا كافية لاستمرار الخلافات التي أصبحت سمة الحكومة وعطلت كل قدراتها عن العمل.
الأمر الثالث: طبيعة العلاقة بين الحكومة والتحالف- والمقصود به المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- محورية في إصلاح وضع الحكومة الشرعية. شهدت اليمن حالة مشابهة مع المصريين عندما تدخل جيشها في حرب اليمن بعد ثورة 1962، لكن مع فارق النخبة لأن النخبة اليمنية بالستينات كان فيها شخصيات أقوى وقادرة على عرقلة أي مسار لا تراه يتبع مصالح اليمن ولا تقبل التبعية.
الحالة تتكرر وأثبتت فشلها الذريع على مدى يقترب من العقد. هذه العلاقة تخلق حالة من التواكل والعجز الذاتي لدى الحليف المحلي وتحوله لعبء مع مرور الوقت، لذا البحث عن صيغة علاقة تحالف تعاقدية ولا أقول ندية، لكن بمهام واضحة من كل طرف سوف يصنع فارقا ويجعل التوقعات معروفة وواقعية.
انقطاع كل الموارد الاقتصادية عن الحكومة اليمنية بسبب توقف قدرتها على تصدير النفط إثر ضرب الحوثي للمنشآت النفطية في 2022 بحجة تقاسم الموارد النفطية ودفع مرتبات موظفي الحكومة في مناطق سيطرة الحوثي من الموارد النفطية التي تقع في مناطق سيطرة الحكومة. لذا تواجه الحكومة أزمة اقتصادية حادة ضاعفت من حالة التوتر داخلها بسبب انقساماتها السياسية وتطلعها لمزيد من الدعم من الدول الحليفة، وكذا زيادة اعتمادها على الدعم الخارجي. هذا الوضع غير المسبوق أدى لتدهور حاد في الخدمات وبالتالي زيادة الضغط على الحكومة وتبادل اللوم بين أطرافها المتباينة.
زاد من عمق هذه الأزمة صيغة السلطة الجديدة الممثلة في مجلس القيادة الرئاسي الذي حل محل الرئيس هادي لحل أزمة الانفراد بالسلطة وإيجاد صيغة تشاركية للحكم تشمل القوى الصاعدة أثناء الحرب، لكن ظلت هناك أزمة مستديمة لهذا المجلس ليس فقط بسبب تباين سياسات أعضائه بل أيضا لغياب أية لوائح تنظيمية للمجلس. صحيح أن بيان تشكيل المجلس يعطي صلاحيات واسعة لرئيسه دون توضيح لكثير من آليات العمل الداخلي التي كانت تحتاج لائحة تنظيمية مفصلة، لكن رئيس المجلس لا يمارس هذه الصلاحيات، فهو لا يملك قوى مسلحة تحت إمرته ويعيش في عدن التي يسيطر عليها عسكريا وأمنيا قوات المجلس الانتقالي برئاسة عيدروس الزبيدي عضو المجلس الرئاسي. المسألة تتعلق أيضا بشخصية رئيس المجلس الذي لا يتمتع بصفات قيادية وغير قادر على التعامل مع بقية أعضاء المجلس بصفته رئيسهم الذي يمتلك شرعية فرض بعض القرارات.
من الضروري أيضا معالجة إشكالية الحكومة بحكم أنها المسؤولة بدرجة أساسية عن تحسين الأوضاع المعيشية للناس، وبالتالي ينبغي تحييدها عن الصراعات السياسية. بما أن القوى السياسية والعسكرية ممثلة في المجلس الرئاسي، فلا ضرورة لإعادة تمثيلها في الحكومة التي ينبغي تعيين أعضائها حسب الخبرة والكفاءة.
منذ عام 2012 مع تشكل أول حكومة منذ الانتفاضة، لم يشهد اليمن حكومة ذات فاعلية لأنها حكومات تقاسمية ولم يختر رئيس الوزراء أعضاء حكومته بحكم أنها حكومة تشاركية، فبالتالي يفقد رئيس الوزراء الكثير من سلطته وقدرته على ضبط إيقاع عمل الحكومة والسيطرة على أداء وزراء حكومته. ورفع مستوى أداء الحكومة لن يكون سوى بحكومة يختارها رئيس وزراء يتم اختياره بالتوافق، ولا تكون العلاقة بينه وبين رئيس مجلس القيادة بهذا القدر من التوتر مما يصيب أداء الحكومة بالشلل، خاصة أن رئيس الوزراء الحالي لم يحاول إدارة علاقته بأعضاء مجلس القيادة الرئاسي بحنكة سياسية وينشغل بمعاركه الشخصية الصغيرة.
ومن دون الإصلاح السياسي، من الصعب أن تنجح الحكومة في تجاوز الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، وكذا لا ينبغي نسيان أن قوة الحوثي تنبع من ضعف خصومه أكثر من قدراته الذاتية، وأي نصر عسكري لا يتبعه إنجاز سياسي يضيع أو قد ينقلب إلى ضده، هذه بديهيات سياسية لا تبدو مهمة لنخبة تفتقد الإرادة والخيال معا، لكن الاستمرار في التدهور سوف يدفع ثمنه الجميع ولن تنفع الحسابات الانتهازية الضيقة أحدا.