تقرير: في غزة...آباء يجبرون بناتهم على الزواج لتخفيف همّ النزوح
يمن فيوتشر - درج- إسراء الأعرج السبت, 07 سبتمبر, 2024 - 02:38 مساءً
تقرير: في غزة...آباء يجبرون بناتهم على الزواج لتخفيف همّ النزوح

“كنت عايشة في مكان بالي مرتاح، والآن تغير وضعي كله، خسرت كل جهاز عرسي وذهبي راح، ما في ولا شيء بحياتي، تزوجنا غصب عنا لأنه كل شي خسرناه، ما في فرحة ولا حتى بعد الحرب”.

هكذا تصف سماح البيك (19 عاماً) حالها، كواحدة من الفتيات اللواتي تزوجن خلال الحرب الجارية في قطاع غزة، إذ كانت مخطوبة قبل الحرب لابن خالتها وسيم، الذي يكبرها بـ 5 سنوات، وكان من المقرر أن يحتفلا بزفافهما في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

أُجبرت سماح، كما قالت، على الزواج في هذا التوقيت تحديداً، لأن والدها أخذ هذا القرار ليخفف عبء نزوحها عنه بعد قصف منزله، تقول سماح: “طلب والدي من خطيبي أن نتمم زواجنا لعدم قدرته على تحمّل نزوحي ونقل حاجياتي”، ولخص والد سماح موقفه بـ”ليتحملا هي وزوجها مسؤولية بعضهما بعضاً”.

يشير آخر تحديث لتقرير رصد عقود الزواج المسجلة لعام 2022 في المحاكم الشرعية في فلسطين والمنشور في تموز/ يوليو 2023، إلى إجراء 19167 عقداً في قطاع غزة، مقابل 20575 عقداً في العام الذي سبقه، أي بانخفاض أقل من المتوقع، قياساً على ظروف الحرب التي يشهدها القطاع.

 

الزواج لتخفيف العبء!

تقول سماح لـ”درج” إنها تزوجت لأن لا خيارات أخرى متاحة أمامها، فالحرب أجبرت الكثيرين على اختيار الزواج، على رغم ظروفه الصعبة وغير المؤاتية في هذا الوقت، فلا “حياة ولا بيوت إنما نزوح وخيام بدلاً منهما” بحسب تعبيرها.

حصلت سماح على مهرها كاملاً وجهزت شقتها قبل الحرب، إلا أن الحرب دمرت كل شيء، ولم يتبق لديها مما كانت تملكه سوى بضع قطع من الملابس، وخيمة ملاصقة لخيمة أهل زوجها تؤويها وزوجها كـ”عش الزوجية”.

 تعاني سماح قسوة النزوح كغيرها من النساء في الحرب، كما أنها أجهضت مرتين، فحياة الخيام متعبة وشاقة، والمهام اليومية الملقاة على عاتق النساء في الحرب لا تُنجز إلا بطرق بدائية، ناهيك بالإجهاد وقلّة الغذاء.

 سماح الآن في حملها الثالث الذي ثبت، بعدما اعتمدت على أقاربها في الشهور الأولى في القيام بالمهام، وتأمل بأن تُرزق بمولودها وتكون الحرب قد انتهت.

ارتفعت نسبة الإجهاض لدى النساء الحوامل في قطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية، وفق ما رصدته الكوادر الطبية، ويعود ذلك إلى عوامل عدة مرتبطة بالصدمات النفسية والنزوح المتكرر وسوء التغذية والإجهاد في العمل.

 

“طلب والدي من خطيبي أن نتمم زواجنا لعدم قدرته على تحمّل نزوحي ونقل حاجياتي”، ولخص والد سماح موقفه بـ”ليتحملا هي وزوجها مسؤولية بعضهما بعضاً”.

 

لا مفرّ من الحرب ولا الحمل

“موكلتها لربنا ويلي من الله ياما أحلاه إذا إلي نصيب معه أكمل بكمل وإذا إلي نصيب أجيب منه أولاد كمان بجيب”، هكذا تلخص براءة السرسك واقع الزواج خلال الحرب القائمة على غزة منذ 9 أشهر.

تزوّج الفتيات في هذه الحرب أحياناً دون إرادتهن، ويتحملن بشجاعة مسؤولية هذا القرار المصيري الصعب وانعكاساته السلبية على نفسياتهن، إضافة إلى القلق العاطفي الذي يصيبهن في حال حملن مباشرة بعد الزواج، لكنهن يتعاملن مع الأمر على أنه “قضاء وقدر”، فنراهن مستسلمات للواقع، متصالحات مع الخوف الذي يسكن قلوبهن على مصائرهن خلال الحمل ومصائر أطفالهن، ويكملن حيواتهن متحديات الموت والظروف المعيشية الصعبة التي يقاسينها في خيام النزوح.

براءة حالها كحال الكثير من النازحات اللواتي اتخذن وشركاءهن قرار الزواج في الحرب، متنازلة عن كل أشكال الفرح وتقاليده المعروفة، وكل الطقوس التي اعتاد الناس على أن يحيوها في أيامهم العادية في غزة، ومع ذلك حظيت براءة بفستان عرس أبيض وحفل زفاف “على القد”، في خيمة جمعت أقاربها ومن تعرفت عليهم في منطقة النزوح التي تعيش فيها، معتبرة أن عرسها كان شكلاً من أشكال الفرح أو الرفاهية في هذا الوقت.

لم تحصل براءة على أبسط حقوقها الزوجية من مهر و”جهاز” وبيت يؤويها، لأنها اقتنعت بفكرة أن “الزواج في الحرب هو لخلق مساحة من الفرح وسط الموت”، من دون تفكير في أبعاد هذه الخطوة أو المسؤوليات المترتبة عليها، فوالدها شجعها على رغم صغر سنها على هذا القرار، لأن هناك علاقة وطيدة تربطه بزوجها الحالي.

“هي الخيمة مش عيشة للعريس والعروسة بس هينا صابرين لحتى ربنا ييسرها علينا ونشوف الحياة الي كنا نحلم فيها، كنا نحلم بحياة أحسن نتزوج ببيت وعيلة بمكان أفضل”، تختم براءة، مؤكدة أن قرار الزواج خلال الحرب صعب طبعاً، فبالنهاية هي تعيش وزوجها في خيمة وليس في بيت.

يقضي القانون الدولي الإنساني بتقديم عناية خاصة للنساء الحوامل وأمهات الأطفال الصغار، لا سيما الأمهات المرضعات، ويلحظ هذا القانون توفير الغذاء، والثياب، والمساعدة الطبية، والإجلاء، والنقل، لكن في ظل الحرب القائمة والدمار وشح الأدوية والأغذية يتحول الحمل إلى مخاطرة بحياة الجنين والأم على حد سواء.

تتعرض النساء بشكل خاص للانفصال عن أفراد عائلاتهن وللمعاناة الناجمة عن عدم معرفة مصير أقاربهن المفقودين، سواء أثناء النزاع المسلح أو بعده، وبما أن الغالبية العظمى من المفقودين من الرجال، فكثيراً ما تواجه النساء معاناة انتظار أخبار عن زوج أو طفل مفقود، وهن في كثير من الأحيان اللواتي يتحملن عبء محاولة البحث عن أقاربهن، بخاصة الأطفال، الذين انفصلوا عنهن بسبب القتال.

 

محاكم زواج متنقلة

رصدنا في “درج” عدد من المنشورات والصور التي تنقل الأعراس المقامة في القطاع، على الرغم من الحرب والموت، وكانت هذه الأعراس تتم في مراكز الإيواء أو خيام النزوح وحتى بين المواطنين الذين لا يزالون يسكنون في بيوتهم.

بعض هذه المنشورات تحدثت عن مندوبين من المحاكم الشرعية يوثقون عقود الزواج من خلال خيام تسمى بالمحاكم المتنقلة، موزعة على 3 مناطق وهي: دير البلح وخانيونس ورفح، إلا أن خيمة رفح قد ألغيت بسبب الاجتياح البري الأخير.

ويقول سعيد المشهراوي وهو مأذون شرعي في محكمة غزة ويعمل الآن في دير البلح لـ”درج”، إن “موضوع الزواج مطلوب كأي موضوع آخر، وهو حاجة إنسانية مثل أي شيء في الحياة كالأكل والشرب، وكان الزواج متوقفاً في البداية إلى حين أن تنتهي الحرب، لكن حينما طال أمدها، الناس بدأت تبحث عنه، لذلك لجأوا إلى الطلب من المحاكم تيسير عقود الزواج، بعدما كانوا يكتبون أوراق زواج عرفية بسبب غيابها”.

ويتابع “قررنا استحداث محاكم متنقلة تتبع قانونياً للمحاكم الشرعية في غزة، وأخذ القضاة هذا الأمر على عاتقهم وبدأوا يعملون بأمور عقود الزواج، ويتسلسل عقد الزواج كما هو معلوم عند الناس، بأن يتجهوا إلى المختار في المنطقة، من ثم يتجهون إلى القاضي الذي يوقع على وثيقة الزواج، ومن بعده إلى القاضي الآخر الذي يحول المعاملة إلى المأذون الشرعي حتى يوقع على المعاملة، والآن نعمل تحت ظروف الحرب، ولسنا بكامل قوانا المادية، فقط في أمرين الزواج والطلاق بالتراضي والمتفق على كامل شروطهما، فلا نستطيع أن نطلق الا للمتفقين، والطلاق بجميع أنواعه أمر بالغ الصعوبة، وذلك لأنه يحتاج إلى تبليغ الزوجة، كطلاق الغائب، ولا يوجد أي قوة شرطية تقوم بتبليغ الطرف التاني”.

ويؤكد المشهراوي أن “الزواج يكون باتفاق كامل يكمل خلاله المأذون الإجراءات، أما بقية القضايا فمتوقفة تماماً أو شبه متوقفة، وعلى مستوى دير البلح تم التوثيق خلال الشهرين الماضيين أكثر من 1000 حالة زواج، وكان هناك نقطتان أخريان في خانيونس وفي رفح، ويتوقع أنه سيتم إغلاقهما بسبب الاجتياح الأخير”.

يضيف:”هذه العقود قانونية 100 في المئة فقد تمت طباعتها من خلال أرقام السجلات إسناداً للعقود السابقة، وسارت معاملات الزواج كما يجب أن يكون، والمحاكم تماشت مع أمر العقود العرفية التي تم عقدها قبل البدء بالمحاكم المتنقلة، وذلك حتى لا يحصل “فلتان أخلاقي”، فهذا الأساس والسبب الرئيسي هو لتمسك الناس بأمر التزويج بشكل قانوني”.

تبدو الصور والتسجيلات المنتشرة عن “الفرح وسط الحرب” و”أعراس على رغم الموت” وكأنها تحد للحرب في قطاع غزة، لكنها تخفي وراءها حكايات وتجارب، تُهدر في بعضها حقوق فتيات ونساء لإجبارهن على الزواج كوسيلة لـ”الخلاص من همهن”، أو أخريات يُدفعن إليه غصباً عن إرادتهن. وتكشف لقاءات سابقة نوعاً من الاستسلام لدى الفتيات والنساء. ويظهر هذا في الكلام الذي نقلته سماح عن لسان والدها: “ليتحملا هي وزوجها مسؤولية بعضهما بعضاً”، أو من خلال التعامل مع الزواج كـ”قضاء وقدر”، أو أنه الطريق الوحيد للنجاة. هذه الحكايات تكشف عن عنف تتعرض له النساء والفتيات، يضاف إلى عنف حرب الإبادة.


التعليقات