بعدما وجدت في الحصول على عملٍ في إحدى الشركات الخاصة، مصدر أمانٍ لها وأسرتها، تحول الأخير إلى قيدٍ لليمنية الثلاثينية هدى، عندما أرادت الزواج بمن تقدم إليها، وهي واحدة من عددٍ كبيرٍ من اليمنيات في سن الزواج، بما فيها العاملات المعيلات لأسرهن، تواجه العديد منهن قيوداً فرضتها الظروف المعيشية للأسر، تضاف إلى جملة القيود والوصاية الأسرية، التي لطالما حرمت الفتاة حقوقها، بما في ذلك، حريتها في قبول الشريك.
هدى التي تعد مصدر الدخل الأساسي لأسرتها، توفي والدها منذ أكثر من ثماني سنوات، حيث كان من المقرر أن تلتحق بإحدى الجامعات، لكن وفاته تركت أسرته المؤلفة من زوجته وثلاثة أبناء أصغر سناً، في وضع معيشي صعبٍ تعثر معها مشروعها بالدراسة الجامعية، وازداد الأمر سوءاً بعد توقف الراتب الحكومي الذي كانت الأسرة تتسلمه لعائلها كموظف سابق في جهاز الشرطة، إذ توقفت رواتب الموظفين الحكوميين، بما فيهم المتقاعدون والمتوفون منذ أواخر العام 2016، في واحدة من أكبر مظاهر الأزمة الإنسانية في البلاد.
وكما هو حال العديد من اليمنيات اللواتي أتاحت لهن الظروف المعيشية والاقتصادية، نوعاً أكبر من الحضور والمشاركة الاجتماعية، من بوابة العمل للإعانة في إعالة الأسر، حصلت هدى منذ ست سنوات على وظيفة مندوبة مبيعات في إحدى الشركات التجارية في صنعاء. استطاعت من خلاله توفير احتياجات أساسية لأسرتها وشكل لها مصدر أمانٍ خفف عنها وأسرتها قسوة الظروف، كما تفيد لـDW عربية.
في المقابل، وبعد سنوات من العمل، واجهت تحدياً من نوع آخر، إذ تقدم أكثر من شاب لخطبتها، لكن والدتها ترفض وتضع العراقيل. وبينما أكمل اثنين من إخوتها الأصغر سناً دراستهم الثانوية، بدأت في النظر إلى عملها كعائق أمام حقها في الزواج بالنسبة لأسرتها التي تعيلها منذ سنوات.
معاناة العديد من اليمنيات في سن الزواج مع الوصاية الأسرية، ظاهرة تتعدد أسبابها وتمثل الوجه الآخر لظاهرة أخرى تعرف بـ"زواج الصغيرات"، على أن الأخيرة تبدو أوفر حظاً في تسليط الضوء، لكن عدد اليمنيات اللاتي يحرمن من الزواج في ظروف أو بأخرى، يفوقه بكثير، إلا أنه يبقى بعيداً عن التناول إلى حد كبير.
وفاء خالد، قصة أخرى ليمنية في بداية الأربعينيات، وهي معلمة، رفض والدها على مدى سنوات زواجها، تقول لـDW عربية إنه خلال سنوات تعليمها وحتى بداية عملها كمعلمة "كان هناك العديد من الخطّاب، لكن والدي كان يرفضهم بحجة إكمال تعليمي وتحقيق ذاتي".
تسهم وفاء بتوفير جزء أساسي من نفقات المنزل الذي تعيش فيه مع والديها وأخيها العاطل عن العمل، وتعمل لساعات طويلة في المدرسة وأيضاً كمدرسة لدروس خصوصية. وعلى الرغم من أنها تعلم بحقها القانوني بإمكانية اللجوء إلى القضاء إلا أنها تستبعد إمكانية أن تقوم بذلك، خوفاً من نظرة المجتمع لأسرتها.
•عنف اقتصادي وحرمان من الدخل
تتحمل اليمنيات الرعاية الأساسية على مستوى الأسر، بما فيها الأعمال المنزلية كالطهي والتنظيف وحتى في الأعمال الزراعية بالنسبة للريف، ومع ذلك، تشير تقارير دولية إلى التحول الذي حدث في ضوء الصراع الحالي والتدهور الاقتصادي، إذ أدى إلى توسيع دور المرأة في الأنشطة الاقتصادية، في حين أن الرجال في العديد من الحالات، بين في من فقدوا في الجبهات أو فقدوا وظائفهم نتيجة التدهور، وصولاً إلى انقطاع مرتبات الموظفين الحكوميين. وكل ذلك قابله جعل المرأة أكثر انخراطا في كل من العمل المأجور والعمل المعيشي، وفقاً لتقرير متخصص بشأن المرأة، أعدته منظمة أكابس (acaps) ونشر في نيسان/ أبريل 2023.
وفي حين يُنظر إلى التحول المتعلق بتوسع مشاركة المرأة اقتصادياً، كتطور إيجابي، بالنظر إلى القيود التقليدية، كان هناك في المقابل، ثمن بزيادة الأعباء والضغوط الأسرية في العديد من الحالات.
وفي حديثها لـDW عربية، ترى الخبيرة الاجتماعية الدكتورة نجاة الصائم أن النساء في المجتمع اليمني يواجهن أنواعاً عديدة من العنف، أبرزها العنف الاقتصادي الذي تفاقم بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. وتضيف "تعاني النساء من إجبارهن على العمل والاستيلاء على دخولهن، بل ومنعهن من الزواج حتى لا تفقد الأسرة مصدر الدخل الذي توفره الفتاة.
في ظل هذه الظروف، اضطرت يمنيات لرفع شكاوى قضائية بسبب "العنف الاقتصادي"، الذي ترى المتحدثة أنه اتسع بحيث "أصبح الشرط الأساسي للزواج لدى بعض الشباب هو أن تكون الفتاة عاملة"، كما أن "البعض يذهب إلى استلام راتب الزوجة والتصرف فيه كما يشاء، مما يحرمها من الاستفادة من دخلها."
من جانبها توضح رئيسة المركز الأوروبي لحقوق المرأة والطفل آمال الدبعي، في حديثها لـDW عربية، حجم المعاناة بالنسبة للفتيات والمرأة بشكل عام داخل اليمن، كبيرة، حيث "لا تستطيع الفتاة أن تثبت حقوقها أو تأخذ شريك حياتها أو تثبت حقها في الزواج ممن تريد. ليس لها الحق في ذلك إطلاقًا"، إذ أن "ولي الأمر، سواء كان الأب أو الأخ أو الابن أو ابن العم أو أقرب الأقربين، هو الذي له الحق بأن يمد يده ويعطي لها الحق في الزواج، بينما هي ليس لها الحق في أن تقرر، حتى وإن كانت كبيرة في السن".
•القانون و"عضل الولي"
تشترط القوانين بعدم جواز تزويج المرأة بدون ولي أمرها، وهو الأب أو أقرب الأقارب من الذكور، لكنه يستثني بمنح ما يسمى بـ"عضل الولي"، الذي يمنح المرأة حق تقديم دعاوى قضائية إذا ما رفض ولي الأمر تزويجها بمن تريد، لكن في ظل العادات والتقاليد، فضلاً عن الوضع القانوني الهش في البلاد، من النادر أن تستفيد النساء المتضررات من مثل هذا الحق. وعلى الضد من ذلك، فقد شهدت إحدى المحاكم اليمنية منذ سنوات، واقعة شهيرة، قتلت فيها فتاة بأيدي شقيقها. ولأن والده بجواره، وهو ولي الدم، فإن الجريمة التي أدمت قلوب اليمنيين، مرت تقريباً دون عقاب.
ويوضح لـ"DW عربية، أستاذ القانون المشارك بجامعة تعز الدكتور عبدالله الحكيم أن القانون اليمني يمنح المرأة الحق في اللجوء إلى القضاء إذا رفض وليها تزويجها بدون مبرر. إذ أن القاضي يمكنه التدخل وتزويج المرأة بنفسه إذا كانت الأسباب التي يقدمها الولي غير مبررة. لكنه يرى أن "جهل المرأة بحقوقها القانونية" يعتبر من أبرز الأسباب التي تمنعها من اللجوء إلى القضاء. ويشدد على أن "أهمية نشر الثقافة القانونية وتوعية المجتمع حول حقوق المرأة لمنع "عضل الولي".
في المقابل ترى الدبعي أن الفتاة في اليمن لا تستطيع أن تستخدم هذا الحق القانوني الموجود في قانون الأحوال الشخصية من أجل أن ترفع قضية، إذ أنه في حال قامت إحداهن باستخدام الحق "الكل يقف أمامها"، فيما القوانين "لا يمكن أن تحميها بل تعطي الأولوية في أن يحضر أولياء أمرها الذين لم يعقدوا لها".
وتضيف أن القانون لا يسمح بتزويج المرأة نفسها "حتى لو كانت ثيبًا، ومهما كانت درجة وعيها، ومهما كانت حاصلة على شهادات أو إنسانة ناضجة أو لها منصب معين، ليس لها الحق في هذا الموضوع على الإطلاق". وتشدد على أن هذه القضية تمثل عائقًا كبيرًا بالنسبة للفتيات، ومخالفة لقوانين حقوق الإنسان وحقوق المرأة التي تعطي المرأة الحق في أن تختار شريك حياتها والحق في الحياة الأسرية السعيدة".
•قانون لا ينصب ومجتمع لا يحرم
تُرجع مدير عام الشؤون القانونية في اللجنة الوطنية للمرأة في اليمن د. روزا الخامري محدودية اللجوء إلى المحاكم بدعوى "العضل من قبل ولي الامر"، إلى تخوف النساء من الأهل والضغوطات والاثار الاجتماعية. حيث يُنظر "لمن تستخدم هذا الحق من وجه نظر المجتمع" باعتباره "عيباً".
وترى الخامري لـDW عربية، أن المشاكل القانونية أعمق بكثير من قضية "عضل الولي"، وتستشهد بـالمادة 16، من قانون الأحوال الشخصية التي تعطي لولي الأمر تزويج المرأة، حيث تعتبر هي - حال كانت أماً - وصية على ابنها حتى سن 15 عاماً، ويتجاوز "هذا السن يصبح هو ولي أمرها بحسب القانون وله حق التحكم في قرارات مصيرية بحياتها".
المشكلة الأخرى التي تواجهها النساء، وفق الخامري، تتمثل منح الولي حق الوكالة عنها وعنه في الوقت نفسه، بحسب المادة 20 من القانون وهنا "تفقد المرأة حتى حقها في الرضا والقبول والذي هو شرط أساس في الزواج"، وصولاً إلى مشاكل أخرى، تتعلق بولاية أبناء العم، وفق ترتيب القرابة، لكنه في المقابل، يُغيب إرادة المرأة ويضع لها العديد من العوائق. كما أن "المجتمع لا يرحم النساء في حالة اللجوء للمحاكم ومحاولة اخذ حقوقهن".
•تعديل القانون بدرجة أساسية
تتآزر العوامل الاقتصادية التي فاقمتها الحرب وما رافقها من أزمة إنسانية، جنباً إلى جانب مع غياب القوانين والعادات والتقاليد التي تمنح الرجال الحق في التصرف كيفما شاءوا لتزيد من معاناة النساء، إذ أنه وفقاً لنجاة الصائم، بالإضافة إلى الأعباء المنزلية والعمل خارج البيت "تُحرم النساء من حقهن في الاستفادة من دخلهن". في حي أن المعالجات "تتطلب سن وتطبيق قوانين تحمي حقوق المرأة ورفع الوعي المجتمعي لاحترام حقوق الجميع".
على ذات الصعيد، تقول الدبعي إنه ينبغي تعديل القوانين بما يتفق مع استقلالية وحرية المرأة وأن تكون "هذه القوانين موائمة مع الاتفاقية الدولية الخاصة بحقوق الإنسان بشكل عام والاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة بشكل خاص". كما ينبغي بدرجة أساسية "إشراك المرأة في عملية اتخاذ القرار ومنحها الحق الكامل في تحديد مصيرها ومستقبلها مع مراعاة وضعها ومستوى تعليمها ووعيها ومركزها الاجتماعي، بما ينعكس على دورها في المجتمع ومكانتها".