يعيش اليمن على وقع انقسام حاد على كافة المستويات مع تحول مناطق السيطرة المختلفة في البلاد إلى ما يشبه الحكم الذاتي، إذ تمتلك كل منها ترتيبات اقتصادية ومؤسسية فريدة خاصة بها، إلى جانب الإدارة العسكرية والأمنية.
وأعادت الزيارة الأولى من نوعها لرئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي وعدد من المسؤولين الحكوميين إلى حضرموت فتح هذا الملف المتعلق بالانقسام وتفكك المؤسسات العامة وتعدد السلطات الحاكمة وتفشي منظومات الاقتصاد الموازي وممارسات الفساد والتكسب غير المشروع، والتراجع الملاحظ في تقديم السلع والخدمات العامة في ظل تفاقم الأزمات الإنسانية والمعيشية وتسببها في معاناة غالبية السكان في البلاد.
ودشنت القيادة اليمنية مجموعة من المشاريع الاقتصادية والتنموية بتمويل سعودي يقدر بنحو مليار ريال في المحافظة النفطية والاستراتيجية جنوب شرقي اليمن التي تحولت إلى ساحة صراعات وتوترات خلال الفترة الماضية بين السلطات الحكومية المدعومة من التحالف بقيادة السعودية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً والذي ينازع الحكومة اليمنية سلطاتها في مختلف المحافظات التي تسيطر عليها في جنوب اليمن.
إضافة إلى تقديم الوعود لحل مشكلة بعض الخدمات وايجاد البدائل المناسبة لإنهاء أزمة الكهرباء في محافظة حضرموت، بما في ذلك البحث عن التمويلات اللازمة لإنشاء مصفاة نفطية رئيسية في المحافظة.
•تعدد السلطات
ويعاني اليمن من تعدد السلطات التي تتنازع مع الحكومة المعترف بها دولياً في معظم المناطق والمحافظات اليمنية، كما هو الحال في مناطق شمال اليمن والتي يسيطر عليها الحوثيون مع تفكك منظومة العمل العامة على كافة المستويات الاقتصادية والنقدية والمالية في ظل مؤسسات ضعيفة وغير متجانسة.
يشير أستاذ القانون التجاري بجامعة صنعاء عدنان خالد ، لـ"العربي الجديد"، إلى أن ذلك يشمل مسائل وجوانب سيادية تتعلق بعملية إنفاذ القانون والمعاملات الاقتصادية والتجارية والخدمات الاستثمارية، إضافة إلى الجوانب المؤسسية وما يرتبط منها بالحوكمة العامة في مختلف مناطق البلاد. كما تعاني المؤسسات الوطنية من الانقسام ومحدودية السلطة بخلاف ما كان عليه الحال قبل الحرب وسط مركزية مؤسسات الدولة حيث تخضع لإدارة الوزارات التنفيذية.
في السياق، وجهت الحكومة اليمنية في اجتماع عقده رئيسها معين عبد الملك مع وزير الإدارة المحلية ومحافظي عدد من المحافظات منتصف يونيو/ حزيران 2023؛ بإعادة بناء مؤسسات الدولة وتفعيل عملها باعتباره عاملا أساسيا لتضييق هامش الفساد وبما ينعكس على تحسين وضع المواطنين والخدمات.
وأكدت الحكومة اليمنية بعد الاجتماع أن العمل ومواجهة التحديات الصعبة، "لن يتم إلا وفق خيارات الدولة وفي إطار مؤسساتها، وينبغي أن يكون هناك أهداف واضحة ومحددة أمام السلطات المحلية لتلبية احتياجات المواطنين وتحقيق تطلعاتهم".
•خريطة طريق
وتكشف مصادر حكومية مطلعة، تحدثت لـ"العربي الجديد"، عن ترتيبات جارية لعقد اللقاء التشاوري الأول للسلطات المحلية على طريق الاستقرار والتنمية والذي تهدف الحكومة من خلاله إلى تحديد أهم التحديات والمشكلات التي تواجه السلطات المحلية ووضع الحلول المناسبة للتعامل معها، إضافة الى وضع خريطة طريق لتعزيز التنمية المحلية، وتنمية وإدارة الموارد المالية.
وتلاحظ المصادر فشل الحكومة المعترف بها دولياً التي لم تقم بإعادة بناء مؤسسات الدولة المركزية بناء كاملاً وموحداً طوال السنوات الماضية، إذ واجهت الوزارات صعوبات في ربط فروعها في جميع أنحاء البلاد مع تنامي قبضة وسيطرة السلطات المحلية بالتنسيق مع مراكز القوى المحلية، وبسط سلطتها الكاملة على فروعها المحلية وموظفيها.
وتتطرق تقارير اقتصادية إلى ما أثارته الحالات التي تمكنت فيها الحكومة من الحصول على الأموال، من تساؤلات حول فعالية وشفافية توزيع تلك الأموال كما في حالة آلية جمع عائدات تصدير النفط وتوزيعها، والتي تتسم بحسب البنك الدولي بانعدام الشفافية.
ويلفت البنك الدولي، باعتباره الجهة الوحيدة التي تتيح بيانات وتقارير اقتصادية حول اليمن طوال سنوات الحرب، منها ما يصدر بالتعاون مع جهات ومؤسسات ومنظمات محلية، إلى أن هناك عدة مراكز للنمو الملحوظ في مناطق الحكومة اليمنية، ففي مأرب على سبيل المثال أشرفت السلطات المحلية على التطور السريع للبنية التحتية والرعاية الصحية والتعليم، من خلال الاستفادة من عائدات حقول النفط والغاز والمصافي القريبة.
وقررت مأرب في أواخر عام 2015 التوقف عن إيداع الإيرادات المحلية في البنك المركزي اليمني الذي كان مقره في صنعاء في ذلك الوقت، وتولدت هذه الإيرادات بشكل رئيسي من النفط الخام وغاز البترول المسال المنتج في قطاع 18 في مأرب والذي كان يدار من قبل شركة صافر الحكومية، ولم تبدأ سلطات مأرب في مشاركة الإيرادات المحلية مع البنك المركزي اليمني في عدن حتى منتصف عام 2019.
وأصبحت محافظة المهرة الشرقية المتاخمة لسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية نقطة عبور رئيسية للتجارة البحرية والتجارة عبر الحدود، في ظل تزايد حجم الحركة البحرية والتدفقات التجارية عبر الحدود البرية للمهرة مع سلطنة عمان بشكل ملحوظ خلال الحرب، وهو ما أدى إلى توافر قناة إيرادية تعتمد على ضرائب الاستيراد المحصلة محلياً وعائدات الجمارك التي امتنعت السلطات المحلية عن توريدها خلال الفترة 2018-2020.
•اقتصادات موازية
الباحث الاقتصادي عصام مقبل، يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن السلطات المتعددة في اليمن التي تنازع الحكومة اليمنية صلاحياتها فرضت أمراً واقعاً خصوصاً على المستوى الاقتصادي بعدما كونت اقتصادات موازية خاصة في ما يتعلق بالجبايات، أو السطو على المؤسسات الاقتصادية والإيرادات الحكومية، في حين هناك من يستخدم أسلوب الابتزاز ضد الحكومة لتنفيذ أجندته الخاصة به بدعم وتمويل خارجي.
في المقابل، أبقى الحوثيون بعد استيلائهم على السلطة في العاصمة صنعاء المؤسسات القائمة كما هي عليه إلى حد كبير، واستمر الكثير من الموظفين الفنيين في الوظائف التي شغلوها قبل الصراع، قبل أن يتم تجريفها وتأطيرها في إطار نهج سادته ثقافة الكسب غير المشروع بكل الطرق والوسائل المتاحة والتي وصلت إلى استخدام السلطة أو اتخاذها كمظلة للمحسوبية والفساد وفق تشخيص المحلل الاقتصادي مختار السعيدي الذي يقول لـ"العربي الجديد" إن ذلك جرى بالتزامن مع ظهور وانتشار الاقتصاد الموازي ومنظومة مؤسسية موازية بكادر من العاملين والموظفين المحسوبين على الجماعة.
ويتسم هذا النظام الموازي بكفاءة عالية من حيث تحصيل الضرائب والرسوم الجمركية، بحسب السعيدي، في حين تفتقر سلطة الجماعة إلى موارد النفط والغاز التي شكلت المصدر الرئيسي لإيرادات اليمن قبل الحرب، وتدفع رواتب الخدمة المدنية بشكل متقطع في أفضل الأحوال، ويكاد يكون الاستثمار العام منعدماً بنسبة كبيرة.
في المقابل، لم تبد الجماعة أي اهتمام بتقديم الخدمات العامة والعديد من الوظائف الأساسية للدولة، وتركته لوكالات الأمم المتحدة وعدد صغير من المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي سدت جزءا من هذه الفجوات، مع تراجع مطرد في تدفقات المساعدات بسبب المخاوف من تلاعب الحوثيين بالمساعدات وتحويل مسارها، وعرقلة العلاقات مع بعض المنظمات الدولية.