[ ارشيفية ]
لم تمضِ سوى بضعة أسابيع على تهديدات الحوثيين باستهداف منشآت النفط والغاز اليمنية حتى وضعتها الجماعة موضع التنفيذ، بعد توجيهها ضربتين بطائرتين مسيرتين قرب ميناءين لتصدير النفط في محافظتي شبوة وحضرموت. صحيح لم يُخلّف الهجوم أضرارًا، لكنه أدى إلى تعليق صادرات النفط بشكل مؤقت وهو ما قلّص إيرادات الحكومة التي تعاني أساسًا من ضائقة مالية. في حال حققت الهجمات أهدافها المقصودة والمتمثلة في منع مبيعات النفط، قد تجد الحكومة المعترف بها دوليًا نفسها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية المُلحة، بما في ذلك دفع الرواتب التي تدعم السكان على مجابهة الظروف المعيشية الصعبة وتمويل الواردات الغذائية المتدفقة إلى مناطق سيطرتها والمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين على حد سواء.
جاء توقيت الهجوم في مرحلة صعبة تمر بها البلاد، في ظل تفاقم التدهور الاقتصادي جراء تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا وتأثيرها على سلاسل الإمداد الغذائي عالميًا وعلى توفير الخدمات العامة؛ فارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية كان يَعِد بمُتنفس للحكومة من مشاكلها الاقتصادية، إذ أن عائدات النفط والغاز تستخدم في المقام الأول لسداد رواتب موظفي القطاع العام في مناطق سيطرتها، مع أن جزءًا من مدفوعات الرواتب يُوزع على موظفي الخدمة المدنية في مناطق سيطرة الحوثيين أو يذهب لدعم أفراد أسر الموظفين الحكوميين المقيمين في الشمال. فضلًا عن ذلك، قد تتأثر رواتب الموظفين العاملين في قطاع الطاقة: فشركتا النفط الحكوميتان -صافر وبترو مسيلة -تديران أهم الحقول الإنتاجية في حضرموت وشبوة ومأرب، وواصلتا دفع الرواتب بانتظام لآلاف الموظفين ومُعاليهم في مناطق سيطرة الحوثيين. للحوثيين سبب يدفعهم للقلق من التبعات النهائية لهذه الترتيبات: فهم يحكُمون سُكانًا ضاق بهم الحال وأظهروا استعدادًا متناميًا لانتقاد النظام علنًا في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، وهو أساسًا ما دفع زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي للتحذير من تنظيم الاحتجاجات والعصيان.
كما أن الروابط المالية بين مناطق سيطرة الحوثيين ومناطق سيطرة الحكومة يعزز من ارتباط مصير ثرواتهم الاقتصادية. فرغم نقل البنك المركزي اليمني المعترف به دوليًا إلى عدن عام 2016، وحفاظه على شبكة ارتباطاته بالأنظمة المصرفية الدولية وتمتعه بصلاحية إصدار عملة جديدة، حافظت السلطات في صنعاء على سيطرتها على أكبر أسواق المستهلكين والمراكز المالية في البلاد. منذ يناير/كانون الثاني 2020، فرضت سلطات صنعاء حظرًا على تداول الأوراق النقدية الجديدة المطبوعة من قِبل فرع البنك المركزي في عدن بسبب مخاوف من التضخم ولمنع الحكومة من جني أرباح سك العملة. ظلت قيمة الأوراق القديمة من الريال اليمني مستقرة نسبيًا، مقابل انخفاض قيمة الأوراق النقدية الجديدة الصادرة عن البنك المركزي اليمني في عدن، ما خلّف عملة مزدوجة فاقمت من تعقيدات ممارسة التجارة وفتحت الأبواب أمام المراجحة في سوق العملات والتربّح من ذلك. سعت الحكومة في الفترة الأخيرة إلى تعزيز قيمة الأوراق النقدية الجديدة من خلال فتح مزادات أسبوعية لبيع العملات الأجنبية للبنوك اليمنية، والمكلفة باستخدام تلك المخصصات لتمويل واردات القطاع الخاص.
في حال عجزت الحكومة على تحمل تكاليف تنظيم المزيد من مزادات بيع العملة الأجنبية، فإن التداعيات غير المباشرة ستمتد على جميع أنحاء البلاد، نظرًا لأنه يتم بيع الواردات الأساسية الممولة من مخصصات المزادات على نطاق البلد. بدون وجود مخصصات تموّل الواردات، سترتفع أسعار المواد الغذائية لا سيما في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة التي ستتأثر بصورة أعمق بسبب انخفاض قيمة الأوراق النقدية الجديدة مرة أخرى. أتاح الانتعاش التدريجي في صادرات النفط والغاز -خلال فترة النزاع -فرصة للحكومة لاستئناف سداد جزء من الديون الخارجية المستحقة والبدء في استعادة ثقة الدائنين الخارجيين. من هذا المنطلق، قد تؤدي خسارة العائدات من صادرات الموارد الطبيعية إلى تقويض التقدم المحرز حتى الآن وزيادة تأثر البلد بالأزمات الخارجية وتدفق رؤوس الأموال خارج البلاد.
لم تمر الهجمات الخطيرة على الموانئ مرور الكرام بالنسبة للحكومة، حيث جاء ردها بتصنيف جماعة الحوثيين كمنظمة إرهابية، وهو ما سيزيد الأمور تعقيدًا. ما يزال هناك أمل في ألا يرقى التصنيف إلى أكثر من مجرد تصريحات بالنظر إلى أن الحكومة تفتقر إلى آلية لوضعه موضع التنفيذ، علمًا أن هذه الخطوة قوبلت بالصمت وعدم الاهتمام من الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية. من خلف الستار، حثت السعودية الحكومة على توخي الحذر لمنع عرقلة محادثات السلام الجارية، بينما لم يصدر عن الولايات المتحدة -التي ألغت في يناير/ كانون الثاني 2021 تصنيفها للحوثيين كمنظمة ارهابية -أي تصريح علني. ولكن يبدو أن ذلك لم يمنع مجلس القيادة الرئاسي الماضي قُدمًا في قراره.
وللمفارقة، قد تصب محاولة فرض قرار التصنيف (في الظروف الحالية) في مصلحة الحوثيين، حيث سيكون ذلك بمثابة استكمال لعملية تقسيم اليمن وتقويض ادعاءات الحكومة بتمثيل كامل البلد، فضلًا عن تعزيز ترسّخ سيطرة جماعة الحوثيين وخدمة مشروعها الهادف إلى إقامة دولة مستقلة -وهو المشروع الذي سعى الحوثيون دائمًا للنهوض به. يمكن القول إن استهداف الحوثيين لقطاعي النفط والغاز يرقى إلى حرب على المواطنين اليمنيين، حيث لن يجلب الأمر سوى مزيد من الألم والمعاناة للسكان في جميع مناطق اليمن. وسيصبح الوضع حرجًا حال الفشل في التوصل إلى اتفاق بشأن استئناف صادرات النفط خلال الشهرين المقبلين. في المقابل، يتعيّن على الحكومة إلغاء قرارها -الذي أقل ما يمكن وصفه بالمُتسرع -بتصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، حيث لن يؤدي سوى إلى تعثّر أي مفاوضات مستقبلية لإنهاء الصراع. في جميع الأحوال، تآكلت الأواصر الاجتماعية والاقتصادية التي تربط شرائح المجتمع اليمني ببعضها، لكن يجب ألا تُقطع هذه الأواصر المهمة بغرض تحقيق مكاسب سياسية.
للاطلاع على المادة من موقعها الاصلي.. هنا