في ظل الحرب المستمرة في اليمن يطارد شبح الألغام الناس حتى قرب بيوتهم، حيث تحولت مساحات واسعة من البلاد إلى حقول ألغام فتكت بالآلاف أو بترت أطرافهم. والمشكلة لم تنته عند هذا الحد، بل ستبقى تهدد حياة الناس لسنوات طويلة.
بعد 3 سنوات نزوح عاشها اليمني محمد زهير 45 عاماً بعيداً عن مسكنه بمحافظة الحديدة غربي البلاد، عاد إليها منذ شهور بعد تغير الظروف الأمنية، لكن لغماً أرضياً حول أحلامه بطي سنوات التشرد إلى إعاقة دائمة، حيث الألغام المنتشرة بمئات الآلاف على مساحات واسعة في البلاد، تمثل قاتلاً متخفياً في الطرقات والمزارع وحتى المنازل لا يعترف حتى بـ"الهدنة" الهشة، التي تشرف عليها الأمم المتحدة منذ شهور.
نزح زهير وأسرته المؤلفة من 13 فرداً، من قريته في منطقة "شعب"، بمديرية حيس جنوب الحديدة، مطلع العام 2018، مع تحول المديرية إلى ساحة مواجهات متقطعة وقصف متبادل بين قوات الحكومة المعترف بها دولياً وقوات الحوثيين (أنصار الله). وبعد أيام قليلة من تقدم الأولى في الربع الأول من العام الجاري، استقل زهير مع شقيقه الأكبر، دراجة نارية وهو يحن لرؤية دياره أخيراً، إلا أن اللغم المضاد للأفراد والذي كان مزروعاً في مدخل قريته، انفجر متسبباً بجروح خطيرة في إحدى قدميه، أسُعف على إثرها، وحينما عاد إلى وعيه، وجد نفسه بقدمٍ واحدة، بعد أن أدى الانفجار إلى بتر الأخرى.
وإلى الجنوب من الحديدة، وتحديداً في مدينة تعز ، إحدى أكبر المدن اليمنية، تجلس اليمنية دليلة 33 عاماً، دون قدمين، وهي تبحث عن تجديد للأطراف الصناعية التي حصلت عليها، بعد أن كانت ضحية حادثة مأساوية وقعت منذ خمس سنوات. فبينما كانت عروس قبل يوم واحد من حفل الزفاف، انفجر بها لغم أرضي مخلفاً ثلاث إعاقات نساء من أسرة واحدة، فقدت دليلة على إثر ذلك قدميها، فيما الأخريان (ابنتا أحد عمومتها)، فقدت كل واحدةٍ منهن قدم واحدة.
دليلة التي اضطرت أسرتها عقب تحول الفرحة إلى مأساة، إلى استلاف مبالغ مالية لإعادة النفقات لأهالي عروسها الذي كانت تتهيأ للذهاب إليه، تقول لـDW عربية، "جاء العريس وأنا بالعناية، يشتي فلوسه (يطلب استعادة المهر الذي دفعه) لأنني أصبحت معاقة ورجعناها له"، بعد أخذ ورد مع والدها في المحاكم.
وتوضح أنها اليوم لا تطيق البقاء على "عربة" الإعاقة، بعد أن تعودت على الأطراف الصناعية التي حصلت عليها في مستشفى تابع لمنظمة أطباء بلا حدود، لكنها وهذه الأطراف ليستا بأحسن حال، إذ تتطلب التجديد من حين لآخر، إلى جانب أنها سعت إلى تحدي الإعاقة بإيجاد مصدر دخل بالعمل كبائعة في الرصيف.
•القاتل الأول في زمن الهدنة
وعلى مدى الأعوام الماضية، تحولت مساحات واسعة من اليمن إلى حقول ألغام، وتعد المناطق القريبة من خطوط التماس بين المتقاتلين أو تلك التي كانت ساحة لمعارك في سنوات سابقة، في صدارة المساحات المزروعة بالألغام، التي لا تستثن البشر ولا الماشية. وتعد النساء والأطفال، في مقدمة الضحايا المعرضون لخطر هذه المتفجرات.
ومع تراجع وتيرة العمليات العسكرية، على ضوء الهدنة التي ترعاها الأمم المتحدة ، بقيت الألغام الخطر الأول التي يحصد حياة المدنيين، حيث أفاد المبعوث الدولي هانس غروندبرغ في إحاطة أمام مجلس الأمن الدولي منتصف أغسطس/آب الماضي، أن معظم حالات الإصابة بين المدنيين، خلال شهور الهدنة، "ناتجة عن المخّلفات الحربية المتفجرة، بما فيها الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة".
وفي حديث خاص لـDW عربية، مدير "المرصد اليمني للألغام"، فارس الحميري، الارتفاع في أعداد الضحايا في أعقاب الهدنة وما رافقها من خفض للتصعيد، إلى محاولة عدد من الاسر النازحة العودة الى منازلها، مع انخفاض مستوى العمليات العسكرية في العديد من المناطق.
•آلاف الضحايا
في الوقت الذي تتحفظ فيه الجهات الرسمية اليمنية عن إعطاء حصيلة دقيقة للضحايا، تذهب التقديرات إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى، جراء الألغام والقذائف غير المتفجرة المنتشرة بوتيرة متفاوتة في مختلف المدن المتأثرة بالحرب مباشرة منذ سنوات.
ويكشف المرصد اليمني للألغام في تصريح لـDW عربية، أنه وثق خلال الفترة منذ منتصف العام 2019 وحتى مطلع أغسطس 2022، سقوط 426 قتيلاً بينهم 101 طفل و22 أمرأة، إلى جانب 568 جريحاً منهم 216 طفلاً و48 امرأة، يعاني الكثير منهم إعاقات مستديمة، سقطوا نتيجة "الألغام التي زرعها الحوثيون والعبوات الناسفة والقذائف غير المنفجرة من مخلفات الحرب في عدد من محافظات البلاد".
وتعد الحديدة الساحلية، وفقاً للمصدر، الأكثر تلوثاً بالألغام، وهي أكثر محافظة سقط فيها ضحايا مدنيون نتيجة الألغام والعبوات والمقذوفات في السنوات الأخيرة، يليها محافظة تعز ثم محافظات الجوف وحجة ومأرب وشبوة والبيضاء ولحج.
ويقول الحميري إن "الحوثيين مستمرون في عملية صناعة الألغام محلية الصنع، وزراعة الألغام في مناطق واسعة خاصة في مداخل ومخارج مدينة تعز الخاضعة لسيطرتهم، وكذا في خطوط التماس العسكرية بينهم وبين القوات الحكومية".
•السيول تفاقم المشكلة
على مدى الأسابيع الماضية، شهد اليمن موجة من الأمطار الغزيرة في العديد من المحافظات، ألحقت أضراراً متفاوتة في البنية التحتية المتهالكة ومساكن الأسر الفقيرة وحتى مخيمات النازحين، ولم تكن الألغام المزروعة بعيدة عن هذا التطور، أذ تسببت السيول بجرفها نحو طرق ومساحات زراعية ومناطق مأهولة، على نحوٍ يفاقم التهديد الذي تشكله على حياة المدنيين.
ويقول مدير المركز التنفيذي الحكومي للتعامل مع الألغام أمين العقيلي في تصريحات صحفية حديثة إن السيول ساعدت على اتساع رقعة انتشار الألغام بجرفها لمناطق غير ملوثة لتصبح أماكن انتشارها غير محدودة ولا معلومة تحتاج إلى جهود كبير، محذراً من أن كارثة الألغام، ستمتد لعشرات السنين.
وتواصلت DW عربية، مع المركز التنفيذي للألغام للحصول على بيانات بشأن المساحات الملوثة وحصيلة الضحايا، إلا أنها لم تحصل على رد.