رغم الانتقادات التي طالت زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى السعودية وما أثير خلالها من جدل بشأن مسألة حقوق الإنسان في المملكة، التي عكست موقفه الشخصي من ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، انتهت الاجتماعات بالتأكيد على أهمية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين وتم الاتفاق على توثيق أوجه التعاون، وبدا أن الولايات المتحدة تتجه إلى نوع جديد من "الواقعية السياسية"، وفق محللين تحدثا إلى موقع الحرة.
وتقول وكالة فرانس برس إن بايدن واجه انتقادات شديدة من قبل نشطاء حقوق الإنسان المنزعجين من زيارة بايدن الأخيرة إلى المملكة، الدولة التي تعهد ذات مرة بأن يجعلها "منبوذة" بسبب انتهاكات أبرزها مقتل الصحفي، جمال خاشقجي.
وقال مسؤول كبير في الإدارة الأميركية، وفق "سي أن أن": "من الصعب أن نقول إن القيم ستكون جزءا أساسيا من سياستك الخارجية وأن حقوق الإنسان تهمنا بشكل كبير كأمة وبالتأكيد كإدارة ثم لا تذهب إلى الخارج ولا تتحدث إلى (القادة) بطرق صريحة وصريحة حولها".
وقال بايدن في مؤتمر صحفي أثناء تواجده في جدة إنه ناقش مسألة خاشقجي: "لقد قال (محمد بن سلمان) إنه لم يكن مسؤولا بشكل شخصي عنها (الجريمة)، ولكني أشرت إلى أنه (كان ضالعا) على الأرجح".
هذا التصريح قوبل برد من ولي العهد السعودي، وفق تقارير غربية، أشارت إلى أنه أبلغه بأن الولايات المتحدة "ارتكبت أخطاء"، مشيرا على وجه الخصوص إلى "إساءة معاملة سجناء في سجن أبو غريب ومقتل الصحفية الفلسطينية الأميركية، شيرين أبو عاقلة، باعتبارها حوادث انعكست بشكل سيء على الولايات المتحدة".
وقال أيمن محي الدين من شبكة "أم أس أن بي سي" الأميركية إن مسؤولا سعوديا أخبره أن الأمير نفى توجيه أوامر باغتيال خاشقجي "بالطريقة نفسها التي لم يأمر بها جورج بوش بالتعذيب في سجن أبو غريب"، وتساءل ولي العهد: "لماذا مع مقتل العديد من الصحفيين الأميركيين أو فقدانهم أو اعتقالهم يتم تسييس مقتل خاشقجي".
من جانبه، أشار وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، في أعقاب اجتماعات بايدن في المملكة إلى أن ولي العهد أبلغه بـ"احترام" المملكة لحقوق الإنسان وأنها "قيمة جوهرية انطلاقا من معتقداتنا الإسلامية وتراثنا العربي ". وقال الوزير: "محاولة فرض قيمك على الآخرين لن تكون فعالة. ستحصل على رد فعل سلبي".
كما أثارت طريقة استقبال ولي العهد السعودي لبايدن جدلا كبيرا عندما تصافحا بـ"قبضة اليد"، وهو ما اعتبره البعض استقبالا فاترا من قبل مضيفه السعودي، وقوبلت بانتقادات شديدة في واشنطن.
وتصدرت طريقة المصافحة الصفحة الأولى لصحيفة "واشنطن بوست"، فوصفه مديرها التنفيذي بـ"المخجل".
وقال كريستين ديوان، من معهد "الخليج العربي" للأبحاث في واشنطن، لفرانس برس: "التحية بين الرئيس بايدن ومحمد بن سلمان مؤلمة كتعبير مرئي عن عدم قدرتنا على تحقيق المساءلة".
وقال السعودي المعارض، عبدالله العودة، المقيم في الولايات المتحدة لفرانس برس إن هذه التحية "تمثل انتكاسة كبيرة".
إلا وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، اعتبر في مقابلة أجرتها معه شبكة "سي أن أن" بعد ساعات من مغادرة بايدن المملكة، السبت، بمثابة "مكسب" لبايدن، مضيفا: "خرج من لقاء مع زعيم رئيسي في المنطقة. وخرج منه، على ما أعتقد، لإعادة تنشيط الشراكة الاستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة".
واعتبر البيت الأبيض أن الأمر ببساطة يتعلق برغبة بايدن في عدم الاتصال الجسدي وسط الانتشار السريع لمتغير فيروس كورونا الجديد، مشيرا إلى أن بايدن فعل الشيء ذاته مع العديد من المسؤوليين الإسرائيليين قبل وصوله إلى جدة.
•"إنجاز" رغم الخلاف
ورغم الجدل الذي أثير بشأن علاقة بايدن بمحمد بن سلمان، رأى المحلل حسين ايبش في تصريح لفرانس برس أن "الزيارة بحد ذاتها تعد إنجازا، خصوصا بالنسبة للسعوديين وقبل كل شيء لمحمد بن سلمان".
وأضاف أن الزيارة بالنسبة لبايدن تهدف إلى إصلاح العلاقات الشخصية والسياسية بين إدارته والسعوديين "ويبدو أن ذلك قد تم تحقيقه".
مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عمرو الشوبكي، قال لموقع الحرة إن الزيارة تعكس "غلبة الواقعية السياسية على الخطاب الحقوقي، أي ترجيح المصالح المشتركة والعلاقة الاستراتيجية بعد أزمات عالمية، مثل حرب أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة، وهو ما جعل من الصعب أن تكون مسائل حقوق الإنسان بمعزل عن التحديات".
المحلل السياسي السعودي، عبد الله الرفاعي، قال لموقع الحرة إنه سيكون هناك "تحسن" بالتأكيد في العلاقات بين البلدين وعلى الصعيد الشخصي، فقد "كسر الجليد".
ويلفت إلى أن لغة الجسد في اللقاء الأول بين بايدن ومحمد بن سلمان اختلفت "كليا" عما كانت عليه خلال الاجتماع الموسع.
وقال إن خطاب بايدن أثناء الاجتماع كان "أكثر واقعية"، مشيرا إلى أن الإدارة الأميركية تدرك موقع السعودية في القضايا الحالية، وأنها ليست طرفا وحيدا، بل تساندها "كتلة كبيرة" من دول مجلس التعاون ودول عربية.
ويعتقد أن العلاقات بين الرئيسين والبلدين ستشهد مرحلة جديدة في إطار التحالف.
ويقول الشوبكي: "حدث متغير أساسي جعل الخطاب بشأن حقوق الإنسان وقضية خاشقجي يتسم بـ"عدم الحنكة" وأصبح بمعزل عن القضايا الاستراتيجية، وهو ما جعل حتى وسائل الإعلام تتحدث عن "انتصار النفط على حقوق الإنسان".
وأضاف: "بات من الصعب في العلاقات بين النظم المختلفة عزل التحديات التي يواجهها العالم" و"الأمر بطبيعة الحال يختلف بالنسبة لجمعيات حقوق الإنسان والمنظمات المدنية التي تقوم بالأساس على فكرة الدفاع عن حقوق الإنسان بشكل مستقل عن النظم السياسية".
ورأى الرفاعي أن مسألة حقوق الإنسان ستظل حاضرة في العلاقات، لكن الإشكالية تتعلق "بالاختلافات في القيم بين حقوق الإنسان في الغرب والسعودية".
ويعتقد أن الشراكة الجديدة ستعلي مسألة حقوق الإنسان في حدود القيم الراسخة، مع إدراك واشنطن أن "التحديات التي تواجها هي أكبر من هذا الموضوع وبالتالي لن تكون على رأس الأولويات بطاولة البحث".
ومع ذلك، أشارالرفاعي إلى تحركات "إيجابية" في مجال حقوق الإنسان في المملكة، نتيجة الإصلاحات التي حدثت بالفعل، مثل تلك المتعلقة بحقوق المرأة والطفل، لكن "التطور يحتاج إلى وقت، كما يرتبط بالبيئة المجتمعية التي قد لا تتفق أحيانا مع بعض الإصلاحات".
ورأى أن الطرفين "تجاوزا هذه المسألة، خاصة الرئيس بايدن"، لافتا إلى أنه أشار في كلمته إلى "الأشياء الإيجابية التي نادى بها ولي العهد السعودي والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي".
وأشار إلى "إنجازات" حققها بايدن من الزيارة، من أهمها الأجواء الايجابية تجاه عملية السلام و"الضغوط على إيران التي تصب في مصلحة السلام والاستقرار" مشيرا إلى أنه لن يكون في مصلحتها الوقوف ضد كتلة كبيرة في المنطقة.
وتابع قائلا: "يبدو أن الإدارة لم تلق اهتماما كبيرا بالتعليقات الإعلامية حول الزيارة وستركز أكثر على الداخل الأميركي ومصالحها الخارجية".
وهذه الزيارة، وفق الشوبكي، أكدت أنه يمكن الحديث عن دولة "منبوذة" في سياق حملة انتخابية "لكن بمجرد الوصول إلى السلطة ومواجهة تحديات عالمية، خاصة من قبل قوة عظمى مثل الولايات المتحدة، سيصبح من الصعب الحديث عن خطاب حقوقي نقي منفصل عن السياقات السياسية والاستراتيجية".
وقالت"سي أن أن" إن النقاش حول حقوق الإنسان يبدو أنه قد تضاءل أمام المحادثات الأوسع حول أمن الطاقة والاستقرار الإقليمي والتجارة والاستثمار، كما أن طموحات إيران النووية والحرب في اليمن كانت جزءا أساسيا من المناقشات".
وأصدرت الولايات المتحدة والسعودية بيانا مشتركا، في أعقاب اجتماعات جدة، أكدتا فيه على تعزيز مصالحهما المشتركة، والدفع برؤية مشتركة من أجل تحقيق مزيد من السلام والأمن بما يفضي إلى شرق أوسط مزدهر ومستقر.
وشدد الجانبان على ضرورة ردع التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول، ودعمها للإرهاب من خلال المجموعات المسلحة التابعة لها، وجهودها لزعزعة أمن واستقرار المنطقة، مؤكدين على أهمية منع إيران من الحصول على سلاح نووي.
ويتوقع مسؤولون أميركيون زيادة إنتاج السعودية من النفط في الأشهر المقبلة في إطار "أوبك بلس".
وقال وزير الخارجية السعودي في مقابلته مع "سي أن أن" إن ولي العهد منفتح على زيادة الإنتاج ضمن حدود. وقال: "أهم نقطة في بيان ولي العهد اليوم هي أننا بحاجة إلى نهج متوازن تجاه تحول الطاقة لدينا لأن المملكة تزيد طاقتها إلى 13 مليون برميل ولا يمكن أن تتجاوز ذلك".
وقال المحلل السياسي السعودي، عبد الله الرفاعي، في حديثه مع موقع الحرة إن الولايات المتحدة "يجب أن تكون واقعية وتستفيد من شراكتها مع الكتلة التي تقودها المملكة. واشنطن تحتاج إلى دعم تحالفاتها في الشرق الأوسط، في مواجهة الصين".
وتوقع أن تشهد المنطقة خلال الأشهر المقبلة زيادة الارتباط الأميركي بالشرق الأوسط، قائلا إنه سيكون "أكبر ومختلفا"، لأن "مصالح واشنطن العليا تقتضي ذلك". وقال إن "الواقعية السياسية ستكون سائدة".