اليمن: الآن وليس غدا وقت التحرُّك لحل أزمة المياه
يمن فيوتشر - المركز اليمني للسياسات- هديل الموفق* السبت, 06 نوفمبر, 2021 - 06:29 مساءً
اليمن: الآن وليس غدا وقت التحرُّك لحل أزمة المياه

قبل الصراع الراهن الذي تمر به البلد كانت اليمن تخوض معركة أخرى؛ هي الشحة الشديدة في المياه. وهذا النقص في الموارد يعد أحد العوامل المساهمة بتوليد العنف في البلد، ومع ذلك، فإن هذا الأمر لا يكاد يلقى أي اهتمام لا على المستوى الداخلي ولا على المستوى الدولي.
ومالم تتم معالجة الأسباب الكامنة خلف العجز المائي، فإن من شأن إيجاد حل للنزاع الراهن أن يكون من الصعوبة بمكان.
مع استمرار النزاع في اليمن للعام السادس، فإن هناك حاجة متزايدة للتعامل مع أزمة المياه المتفاقمة التي لا تقتصر فقط على التوفر المادي للمياه، وإنما تتعدى ذلك إلى جودة المياه وإمكانية الوصول إليها والقدرة على تحمل تكاليفها.
وعلى الرغم من أن اليمن كان يعاني دوماً من مشاكل مرتبطة بالمياه، فإن النزاع يؤدي إلى تفاقم نقص المياه على النحو الذي قد يجعل من ذلك تهديداً خطيراً للاستقرار والأمن البشري. وفي أسوأ الأحوال، قد تؤدي التوترات الناجمة عن انعدام الأمن المائي إلى إدامة النزاع، وخاصة مع استنزاف هذا المورد الطبيعي في غياب الحوكمة الفعالة.
 يركز النهج الحالي للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية في اليمن بشكل أكبر على ضمان تسليم المساعدات الإنسانية، بما في ذلك إمدادات المياه النظيفة، دون عرقلة من أطراف النزاع. وثمة ضرورة ملّحة لتيسير الوصول إلى المياه وتزويد الناس بها نظرا للحالة المثيرة للقلق على أرض الواقع، حيث يحتاج 11.2 مليون شخص إلى الحصول على مياه الشرب النظيفة وخدمات المرافق الصحية.[1] ولكن على الرغم من أن بإمكان المساعدات الإنسانية أن تخفف بعض الاحتياجات العاجلة من المياه، فإنها لا تكفي في حد ذاتها لمعالجة القلق الأكبر: مشاكل استدامة المياه. تتطلب أزمة المياه في اليمن، التي تزداد حدتها بشكل تدريجي، إجراءات عاجلة على مستوى صناعة السياسات.  إن إيجاد حلول طويلة الأمد لأزمة المياه في اليمن يتطلب عدم الوقف فقط عند تلبية الاحتياجات الملحة المياه وتجاوز ذلك إلى التركيز على ضمان الممارسات الإدارية المستدامة للمياه، وعلى توفير خدمات إمدادات المياه بصورة عادلة وبأسعار مقدور عليها. 

 

•تحديات المياه هي في الغالب مشكلة حوكمة
إن جغرافية اليمن شبه القاحلة تضعها بالفعل في وضع غير مؤات. فعلى عكس البلدان الأخرى في المنطقة، لا يوجد في اليمن أنهار دائمة، مما يجعل المياه الجوفية والطبقات الحاملة للمياه هي المصدر الرئيسي لإمداد المناطق الحضرية والري الزراعي. ومعدل نضوب المياه الجوفية في الوقت الراهن هو ضعف كمية تجدد مورد المياه في عموم البلد. وزاد الأمر سوأ بسبب النمو السكاني السريع في السنوات الأخيرة. فقد انخفض إجمالي موارد المياه المتجددة للفرد سنويًا؛ بما مقداره 80 متر مكعب في عام 2014 مقارنة بالوضع في دول أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يبلغ فيها معدل المياه المتجددة سنويا للفرد 550 متر مكعب. وفضلا عن ذلك، فسيكون من شأن تغير المناخ في السنوات القادمة أن يؤدي إلى تفاقم شحة المياه، خاصة إذا لم تعمد البلد إلى تطوير استراتيجيات للتخفيف من حدة ارتفاع درجات الحرارة.
ومع ذلك، فلا ينبغي إرجاع أسباب المحنة المائية في اليمن، فقط، إلى استعداد الطبيعة الجغرافية لاحتضان الجفاف؛ فجوهر المشكلة يتعدى ذلك إلى سنوات من السياسات الحكومية الفاشلة ومن سوء الإدارة التي شجعت على الاستخدام غير الفعّال للمياه. وعلى سبيل المثال، فقد شجع دعم الوقود المزارعين وغيرهم على الإفراط في استخراج المياه من الآبار من خلال مضخات المياه التي تعمل بالغاز وبسعر جعلته الحكومة رخيصا. وقد كان من شأن ذلك في كثير من المناطق أنْ دفع الناس إلى ما بات يعرف بـمنافسة “السباق نحو القاع” التي يحرص الأفراد فيها على ضخ المياه قبل أن يفعل ذلك أحد من جيرانهم. وبالمثل، حفزت الإعانات الحكومية للحبوب المستوردة المزارعين على التحول من زراعة الحبوب المقاومة للجفاف إلى زراعة نبتة القات المدرِّة للنقد والمتطلبة زراعتها كميات كبيرة من المياه. إنَّ زراعة هذه النبتة المرتبطة بعادات “الكيف” على مستوى شعبي واسع النطاق تتطلب ما نسبته 37% من جميع المياه المستخدمة في الري في عموم البلد.
لقد مثل الفساد وغياب الإرادة السياسية المتلازمة الثنائية الكامنة وراء مشكلة العجز، على المستويين الحكومي والمحلي، في تطوير سياسات تعالج أزمة المياه. والمعلوم أنّ المؤسسات الحكومية المتصفة بالضعف، حتى قبل الصراع، قد فشلت في وقف الحفر غير القانوني لآبار المياه، على الرغم من قانون المياه الوطني الذي صدر في عام 2002 والذي كان يشترط الحصول على تصاريح تسمح بعملية حفر آبار جديدة.[2] وفي ظل غياب الضوابط المنظِّمة وعدم إنفاذ القوانين ذات الصلة، فإنّه يتم الاستيلاء الشخصي على الحقوق العامة المتعلقة بالمياه عن طريق الرشوة أو من خلال التسهيلات التي توفرها شبكات المحسوبية. لقد كان من شأن هذا الوضع أنْ سمح، في حالات عديدة، لشخصيات تنتمي إلى طبقة النخبة وتتمتع بالنفوذ، مثل المسؤولين الحكوميين وزعماء القبائل (الشيوخ)- سمح لهم أن يحفروا آبار المياه بشكل غير قانوني ومن دون مساءلة. والنتيجة الحتمية لذلك هي الخصخصة شبه الكاملة لموارد المياه في اليمن. 

 

•عدم المساواة في الوصول إلى المياه بين ارتفاع التكاليف وضعف الجودة
في خضم هذا الوضع، أصبحت معظم الأسر في اليمن تعتمد بشكل كبير على توفير المياه من القطاع الخاص من خلال شاحنات صهريجية تشتري المياه من أصحاب الآبار. وقد ازدهر هذا النظام غير الرسمي لإمدادات المياه في ظل غياب خدمات المياه البلدية الرسمية المدعومة، خاصة بعد انهيار مؤسسات الدولة بسبب الصراع. وبالتالي، فإن الوصول إلى المياه للأغراض الأساسية المتمثلة في الشرب والصرف الصحي والنظافة أصبحت مقيدة بقدرة الناس على تحمل الأسعار المرتفعة للمياه. ووفقا للبنك الدولي، فإن تكاليف المياه التي توفرها حاملات الصهاريج
في عام 2018 بلغت سبعة أضعاف سعر مياه المشاريع الحكومية في صنعاء. أما في عدن فالتكلفة تبلغ 25 ضعفا من حيث الزيادة. وقد تسببت الحرب أيضًا في أزمة وقود جراء القيود التي فرضت على الواردات، مما أدى إلى ارتفاع سعر البنزين. وهذا بدوره أدى إلى ارتفاع جنوني لأسعار المياه؛ إذ إن البلد تعتمد على المضخات المشغلة بالوقود في استخراج الماء من قيعان الآبار.
لقد ساءت جودة المياه في غياب أنظمة الرقابة الحكومية؛ فالمورّدون من القطاع الخاص يعملون، في الأعم الأغلب، خارج الأطر القانونية المعمول بها في الدولة. إن غياب الرقابة وضبط جودة المياه قد أديا إلى انتشار الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا التي ارتبط بها وفاة أكثر من 3 ألف شخص منذ مطلع العام 2017، طبقا لما أوردته منظمة اليونسيف.

 

•تهديد للاستقرار وعملية بناء السلام
إذا لم تعالج جذور مشكلة المياه بشكل فعال، فإن من شأنها أن تؤدي إلى زعزعة استقرار البلد. فشحة المياه كانت ولازالت، في واقع الأمر، مصدرًا للصراعات القبلية الصغيرة في مناطق ريفية مختلفة من البلاد.
ففي عام 2010، قدرت الحكومة اليمنية أن أربعة آلاف شخص يلقون حتفهم سنويا نتيجة النزاعات القَبَلية بشأن الأراضي والمياه. وفي أحد هذه النزاعات المتطرفة تقاتلت قبيلتان بارزتان في محافظة الجوف من أجل بئر يقع على حدود مناطق كل منهما، ودامت تلك الحرب ما يقرب من ثلاثة عقود. ومع اشتداد شحة المياه، فإنه يُتوقع أن تشتد وتيرة المنافسة على موارد المياه وهو ما يعني حدوث المزيد من الصراعات.
إنْ لم يحصل اليمنيون على منظومة قانونية عادلة يكون من شأنها مساعدتهم في الوصول إلى إمدادات المياه المحدودة في البلاد وتوزيعها، فسيشعر الكثيرون منهم أنه ليس أمامهم من خيار سوى تسوية النزاعات خارج نطاق القضاء. وفي حين أن شحة المياه وحدها قد لا تؤدي إلى صراع عنيف واسع النطاق على مستوى البلد، فإنّ في اجتماع معاناة الأهالي من شحة المياه مع غياب حكومة مركزية قوية ما قد يشكل تهديدات كبيرة للسلام المستدام. إن انهيار قطاع الأمن الرسمي، ومن ضمنه جهاز الشرطة، جراء الحرب الراهنة سيكون من أكثر التركات الثقيلة الباعثة على زعزعة للاستقرار. وهذه الظروف عينها هي ما سمح بانتشار المليشيات والجماعات المسلحة التي استفادت من الفراغ الأمني ​من أجل تعزيز سيطرتها على مناطق وعلى مؤسسات الدولة.
وقد استخدمت بعض هذه الجماعات المياه كسلاح حرب؛ إما لمعاقبة السكان المحليين أو لتجنيد مقاتلين جدد. فوفقًا لتقرير صادر عن وكالة أسوشيتد برس، فإنَّ إحدى استراتيجيات القاعدة لكسب قلوب وعقول السكان المحليين تتمثل في تزويدهم بالضروريات كالماء والكهرباء. كما يستخدم أنصار الله (الحوثيون) المياه في تعز كسلاح للسيطرة على السكان ومعاقبتهم من خلال منع المنظمات الخيرية أن توزع المياه. هذا الاتجاه في استخدام الماء كأداة للسيطرة والإخضاع ليس حكرا على الجماعات المسلحة في اليمن، فالصراعات في منطقة الشرق الأوسط عامة تزودنا بأمثلة أخرى مشابهة. ومن ذلك ما عمدت إليه داعش في العراق وسوريا من قطع للمياه على بعض السكان.

 

سبيل للمضي قدماً
إنّ ثمة ارتباطا وثيقا بين أزمة المياه وانعدام الاستقرار الآخذ في التعاظم وهو يتطلب تدخلا عاجلا من قبل الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية المستثمرة في بناء السلام في اليمن.
إنَّ على القيادات في كل المستويات أنْ تدرك أنّ أزمة المياه في اليمن ليست مجرد قضية بيئية، وإنما هي، في الوقت نفسه، قضية ذات أبعاد سياسية واجتماعية متأصلة. إن الحلول لإدارة أزمة المياه موجودة، لكنها تتطلب إرادة سياسية قوية وعملًا جماعيًا لتنفيذها.
ومنذ وقت سابق يسعى مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، مارتن غريفيث، مع طرفي الصراع الرئيسيين، الحوثيين والحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، من أجل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى البلاد. وتلك فرصة لإلزام الطرفين بالمزيد من الفعل. ومن هنا، فإنه يتعيّن على مبعوث الأمم المتحدة انتهاز الفرصة من أجل فرض حوارات حول إدارة موارد المياه المشتركة. ويجب إشراك جماعات من العاملين في حقل المجتمع المدني في هذه المحادثات من أجل ضمان إدراج مصالح طيف واسع من المجتمعات المحلية. وسيتعين إقناع أطراف النزاع بأنه من مصلحتهم الذاتية وضع استراتيجية طويلة المد لإدارة موارد المياه، بصرف النظر عن المفاوضات بشأن مستقبل اليمن.
إن التعاون من أجل الماء قد يكون واحدا من الطرق التي من شأنها الإسهام في بناء الثقة بين الأطراف. وقد يكون من شأن إبرام عقد اتفاق مائي برعاية أممية أنْ  يكون بمثابة نقطة انطلاق لبناء السلام؛ لا سيما أن المياه تعد، بصورة نسبية، من القضايا الأقل تسييسًا.
وعلى نفس المنوال، فإنه ينبغي على المنظمات الإنسانية أن تحوّل مجال تركيزها من مجرد تقديم المساعدات إلى العمل مع السلطات الحكومية المحلية مثل المؤسسة العامة للمياه والصرف الصحي من أجل ترسيخ سلطتها التنظيمية والقانونية فيما يتعلق بإدارة المياه. وفي الوقت الذي أدّى فيه الصراع الراهن إلى تآكل من قدرة العديد من هذه الجهات الحكومية المختصة وفاعليتها الوظيفية، فإنه يمكن للمنظمات غير الحكومية أن تساعد في محاولة إعادة بناء العلاقة بين هذه الجهات والمجتمع.
وسيعتمد هذا التدخل المطلوب من المنظمات الإنسانية، إلى حد كبير، على توفر الأموال. ففي الوقت الراهن ثمة نقص حاد في الدعم الإنساني المقدم لصالح خدمات المياه والصرف الصحي. لقد حذرت الجهات الفاعلة في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة في اليمن – في رسالة مشتركة نُشرت في يونيو 2020- من أن أكثر من 6 ملايين شخص سيفقدون الوصول إلى المياه إذا استمر نقص التمويل. ويتوجب على الجهات المانحة أن تزيد من منحاتها إلى ما هو أبعد من مجرد توفير الإمدادات المائية الأساسية. وعلاوة على ذلك، فإنّ ثمة حاجة إلى المال من أجل البدء في وضع أسس لتنفيذ سياسة إدارة المياه.  وليكن معلوما أنَّ الفشل في معالجة الأسباب الجذرية لأزمة المياه في اليمن لن يؤدي إلا إلى بروز مشاقّ أخرى ترهق كاهل البلد الذي يعاني، منذ زمن سابق، من المرض والجوع وانعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية.


*هديل الموفق زميلة باحثة في المركز اليمني للسياسات. تخرّجت مؤخرًا من جامعة ستانفورد، بكالوريوس في العلوم السياسية. وكانت في وقت سابق باحثة في منظمة مواطنة لحقوق الإنسان. انضمت هديل إلى ألآلاف في الشوارع أثناء الثورة اليمنية عام 2011 للمطالبة بالتغيير السلمي.


التعليقات