تشهد مدينة عدن، جنوب اليمن، منذ سبع سنوات دورات عنف متفرقة كان آخرها الاشتباكات العنيفة التي اندلعت في منطقة كريتر التابعة لمديرية صيرة جنوب المدينة، مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
لكن اللافت فيها هذه المرة أنها وقعت بين فصائل مسلحة تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، ما يشير إلى وجود خلافات عميقة بين قوى المجلس الذي يتلقى دعمه من دولة الإمارات، ولا يخفي ميوله الانفصالية.
•أسباب الاشتباكات ودلالات توقيتها
تعود جذور الاشتباكات الأخيرة إلى خلافات غير معلنة بين مراكز القوى العسكرية التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يترأسه عيدروس الزبيدي، وقد بدأت تخرج إلى العلن مطلع عام 2019، ثم تصاعدت تدريجيًّا نتيجة دخول السعودية على خط المنافسة في مدينة عدن، حيث تستأثر الإمارات بنفوذ كبير، في أعقاب أحداث آب/ أغسطس من العام نفسه، التي تمكن خلالها المجلس من هزيمة القوات الحكومية وإخراجها من المدينة بدعم وإسناد من القوات الإماراتية.
بدأ المجلس بعد ذلك عملية إعادة نشر قواته بناء على نتائج المواجهة مع القوات الحكومية، لكن ذلك لم يمنع من بروز تنافس قبلي ومناطقي داخل تركيبة قوات المجلس، التي توزعت ولاءاتها بين ثلاث مناطق جنوبية فاعلة فيه، هي: الضَّالِع، ورَدْفان، ويافِع.
ففي نهاية عام 2019، قرَّر المجلس إخراج قوات للحزام الأمني في عدن يقودها إمام النُّوبي المنتمي الى ردفان، من موقع تمركزها في "معسكر 20" بمنطقة كريتر؛ لتُنقل إلى منطقة البريقة غرب المحافظة، إلا أن ذلك القرار واجه تحديات عديدة، ليتأجل تنفيذه إلى آذار/ مارس 2020.
وبعد ذلك، اتُّفق على انسحاب قوات النُّوبي من معسكر 20؛ بحيث تحلّ محلَّها "قوات العاصفة"، بقيادة أوْسان العنشلي المتحدر من محافظة الضالع.
لكن، وبخلاف الاتفاق، جرى الإبقاء على قوات أمنية تتبع إدارة أمن عدن، بقيادة شلال شايع (من الضالع أيضًا)، لتتحكم في منطقة معاشيق؛ حيث القصر الرئاسي.
و في الفترة الأخيرة، عاد النُّوبي ليبرُز مجددًا بوصفه المتحكم في منطقة كريتر، التي تضم عددًا من المؤسسات الحكومية والتجارية؛ من أهمها البنك المركزي، ثم تعاظم خطره على خصومه، في ضوء تزايد عدد مقاتليه ممن ينتمون إلى عدن، وحصوله على أنواع مختلفة من الأسلحة والمركبات الآلية والدعم المادي الذي تقف وراءه على ما يبدو السعودية وسفيرها لدى اليمن، محمد آل جابر.
وقد تسبب هذا الأمر بتصاعد القلق لدى الفصائل المسلحة الأخرى التابعة للمجلس الانتقالي، ما رفع من منسوب التوتر في كريتر إلى أن اندلعت المواجهات المسلحة فيها مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.
ومن الأسباب المباشرة للمواجهات التي أخرجت التوتر المكتوم بين فصائل المجلس إلى العلن، قيام قوات تابعة للنُّوبي باقتحام مركز شرطة كريتر، وإطلاق سراح معتقل يُقال إنه كان محتجزًا على خلفية الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها عدن قبل أسبوعين من المواجهات. إلا أن ثمة من يربط الواقعة أيضًا وتدخّل بقية أطراف المواجهة بقضايا التكسُّب غير المشروع في أراضي وأملاك الدولة، فضلًا عن الخاصة، الذي شاع بين معظم قادة الفصائل المسلحة التابعة للمجلس، ومثَّلت مصدر صدامات عديدة شهدتها، على نطاق واسع، محافظتا عدن ولحج.
ومن بوابة تخفيف الانطباع حول حدة الانقسامات التي تعصف به، عزا بيانٌ صادر عن المجلس هذه الأحداث إلى مخطَّط سياسي "مُغرِض"، هدفه إبراز عدن بوصفها مدينة غير آمنة، ما يخلق مبررًا لبقاء معظم وزراء الحكومة خارج البلاد، وعرقلة وصول المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، إلى عدن، وإشعال الاحتجاجات الشعبية مجددًّا للقضاء على ما وصفها بـ "المنجزات المحقَّقة للجنوب".
ومع أن البيان لم يصرح بالجهة التي تقف وراء هذا المخطط، إلا أن المعني به الأطراف المناوئة للمجلس داخل الحكومة التي يشارك فيها منذ كانون الأول/ ديسمبر 2020، وقد يمتد هذا القصد إلى السعودية التي عادة ما يلمِّح أعضاء بارزون في المجلس بأنها تقف عائقًا أمام تطلعات تقرير مصير الجنوب، بناء على حسابات خاصة بمصالحها في اليمن.
و تزامن اندلاع أحداث العنف المسلح في كريتر مع عودة رئيس الحكومة، معين عبد الملك، إلى عدن، بعدما غادرها إلى الرياض، مع عدد من الوزراء، في آذار/ مارس 2021، نتيجة تصاعد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بمعالجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية والصحية المتردية في المدينة.
وجاءت عودة رئيس الحكومة أيضًا بعد توقف احتجاجات مماثلة نادت بالمطالب ذاتها في كل من مدينة المُكلَّا بمحافظة حضرموت، وعدن، وتَعز، وكذلك مع استئناف الجهود الدولية بشأن وقف الحرب، بعد تعيين غروندبرغ مبعوثًا جديدًا إلى اليمن، الذي وصل عدن بعد يومين من توقف المواجهات، والتقى رئيس الحكومة وقيادة محافظة عدن، ثم قيادة المجلس الانتقالي، كلًّا على حدة.
•الأطراف المنخرطة في مواجهات عدن
كان على أحد طرفي المواجهات الأخيرة في منطقة كريتر، إمام النُّوبي ومعه عشرات من المسلحين، بينهم شباب عدنيون وآخرون ممن شكلوا مجاميع مسلحة لمقاومة تقدّم قوات جماعة الحوثي، وحليفهم الرئيس السابق علي عبد الله صالح، طوال سنوات الحرب الدائرة منذ محاولة اجتياح عدن عام 2015.
وانضم اثنان من إخوة إمام النوبي، هما عوَّاد وعلي، إلى ساحة المواجهة بتعزيزات مسلحة لم تأخذ فرصتها في تعديل ميزان المواجهة، في حين لم يتضح بجلاء موقف أبرز إخوته وهو مختار، الذي يشغل منصب قائد "اللواء الخامس دعم وإسناد".
وعلى الطرف الآخر، تقف فصائل من القوات الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي، أبرزها قوات العاصفة، وقوات الحزام الأمني، وقوات مكافحة الإرهاب، ومن أبرز الأسماء الحاضرة فيها، قائد قوات العاصفة أوْسان العنشلي، وقائد الحزام الأمني في عدن جلال الربيعي (اليافعي). وقد جاءت نتائج المواجهة غير المتكافئة لمصلحة قوات المجلس الانتقالي التي باتت تمتلك قدرات عسكرية مهمة تمكنت عبرها من هزيمة القوات الحكومية الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي، في أحداث آب/ أغسطس 2019.
وعلى الرغم من تمركز مقاتلي جماعة إمام النُّوبي في مداخل الأحياء وعلى أسطح المباني السكنية وفي الجبال المطلة على منطقة كريتر، فإن أسباب الصمود لم تكن متوافرة على الإطلاق.
أسفرت المواجهات عن وقوع قتلى وجرحى من الطرفين وبين المدنيين، وتكشف هوية الضحايا عن أبعاد المواجهة وطبيعة تركيبة قوات المجلس والولاءات المناطقية والقبلية والأُسرية التي تتحكم فيها؛ وأيضًا عن طبيعة العلاقة وصراع النفوذ بين السعودية والإمارات في عدن.
وتشير النهاية السريعة للمواجهات إلى أنّ مختلف أطرافها اتفقت على وقف التصعيد، حيث أدت القوات السعودية المتمركزة في مقر التحالف بمديرية البُرَيقة دورًا بارزًا في ذلك. ولم يتضح مصير إمام النوبي رغم ما يثار حول نقله إلى مقر قيادة التحالف عبر مدرعة سعودية. ويتوقع أن تسفر الاشتباكات الأخيرة إلى إعادة ترتيب قوات المجلس الانتقالي بما يضمن هيمنة الضلع الأبرز في مثلث التنافس داخله (الضالع/ ردفان/ يافع) الذي يمثِّله رئيس المجلس عيدروس الزُّبيدي.
•خاتمة
أضافت الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها مدينة عدن احتقانات جديدة في الصف الجنوبي الانفصالي، قد تؤسِّس لدورات عنف قادمة، مع ما عزَّزته من قناعات بأن مشروع الانفصال الذي يتبناه المجلس الانتقالي أو أطراف أخرى إلى جانبه تتضاءل فرص إنجازه.
فالهيكلية العسكرية لقوات المجلس تقوم، كما كشفت الاشتباكات الأخيرة، على قواعد لا تؤسس لإنشاء قوةٍ موحدة يُرتجى منها بلوغ ما يسمِّيه دعاة الانفصال "القوات المسلحة الجنوبية".
وقد أضافت أحداث كريتر بعدن تراكمات أخرى إلى تراكمات سابقة أفرزتها أحداث عنف ماضية، أقربها مواجهات آب/ أغسطس 2019، التي تسببت بانقسامات عميقة في الجنوب اليمني.
أما أحداث كريتر فقد مهَّدت لانشطار آخر داخل الشطر الانفصالي، بل تشظّيه أكثر. ويعني هذا الأمر أن إعادة التفكير في الدعوة الانفصالية باتت ضرورة وطنية لحماية وصون تماسك الجنوب اليمني لا تقل أهمية عن الضرورة التي تقتضيها حماية الوحدة الوطنية للتراب اليمني برمّته، كما أصبح واضحًا أن الانفصال إذا حصل لا يتوقف عند جنوب اليمن، بل يستمر ليفتت الجنوب نفسه.