حذر الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، عبدالرحمن السقاف، من التداعيات العميقة لتصاعد الخطابين المناطقي والطائفي في البلاد، مؤكدًا أنهما عمّقا الانقسامات خلال سنوات الحرب وأضعفا البنية الوطنية الجامعة، ويمهدان لتحويل اليمن إلى كيان هش خاضع لإرادات خارجية في ظل دولة شكلانية بلا مضمون حقيقي.
وفي مقال نشره في منصة "الثوري" الناطقة باسم الحزب بمناسبة الذكرى السابعة والأربعين لتأسيسه، جدد السقاف تمسك الاشتراكي بخيار الدولة الوطنية المدنية باعتبارها الضمانة الوحيدة للإطار الجامع وهويته المشتركة، محذرًا من أن الخطابات المتصارعة التي تهيمن على المشهد دمرت التعايش، وأنتجت ثقافة الكراهية، وصادرت الفضاء العام، وأضعفت الأحزاب السياسية، كما أفرغت الوعي الشعبي من أي انتماء وطني.
وأشار السقاف إلى أن هذه الخطابات لا تكتفي بتمزيق النسيج الوطني بل تعيد إحياء الخرافة والشعوذة لتزييف الوعي وتشتيته، لافتًا إلى أن تكريس المحاصصة في السلطة والثروة يسهم في إضعاف الدولة ويجعلها عرضة للعبث الداخلي والتأثير الخارجي.
واستعرض الأمين العام مسيرة الحزب الاشتراكي منذ تأسيسه، مؤكدًا أنه خاض نضالاته ضمن مشروع سياسي وطني تغييري رافق كل المراحل التاريخية، بدءًا من مقاومة الاستعمار وبناء دولة حديثة منحازة للفقراء، وصولًا إلى تجربة الوحدة التي انهارت سريعًا وأعادت رسم مسار البلاد.
ورأى أن الوثائق الفكرية والسياسية التي صاغها الحزب ما تزال تمتلك قدرة تفسيرية لمشكلات الواقع اليمني الراهن وتقدم تصورات موضوعية للحلول، مشددًا على أن تقييم دور الاشتراكي لا ينفصل عن محطات التاريخ الوطني التي كان فيها طرفًا محوريًا أو شريكًا فاعلًا.
وختم السقاف بالتأكيد على أن هذه الرؤى التي صيغت بعقل جمعي عبر مؤتمرات الحزب وقياداته وقواعده ما تزال قادرة على إرشاد اليمنيين نحو مشروع وطني جامع يعيد للدولة روحها ويستعيد لمواطنيها هويتهم المشتركة.
- نص المقال...
(الاشتراكي ورهان الدولة الوطنية في زمان الانقسام)
بقلم الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني عبد الرحمن عمر السقاف
تحل علينا الذكرى السابعة والأربعون لتأسيس الحزب الاشتراكي اليمني، متزامنة مع الذكرى الثالثة والستين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، والذكرى الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدتين، والمناخ السياسي في بلادنا معبأً بالهيمنة لنوعين من الخطاب السياسي.
أولهما مناطقي وضمن مواجهات متضادة في سياقاته، والآخر مذهبي بأبعاد طائفية ومذهبية متناحرة يلغيان بعضهما الآخر، والخطابان أفلحا داخل صراعات الحرب الجارية منذ تسع سنوات في تدمير التعايش السلمي وإنتاج ثقافة الكراهية، ما جعل من الحالة النفسية الانفعالية في المجتمع محددًا للسلوك تجاه الآخر المستهدف.
إن تراجع الحالة العقلية عند الفرد وتقدم الحالة النفسية الانفعالية في التعاطي مع الآخر زاد من فاعليتها، فقد أدى استهداف الخطابين المناطقي والمذهبي المسيس، وبطريقة مقيتة وباستخدام لغة مبتذلة، إلى ضرب جميع عناصر البنية السياسية الوطنية في الوعي والقائمة على التعبيرات المدنية الحداثية وتجسيداتها المؤسسية، وفي المقدمة منها الأحزاب السياسية المدنية والمنظمات الاجتماعية والنقابات — وهي البنى التي ناضلت من خلال عقود طويلة من أجل إدخال اليمن إلى الحضارة الإنسانية المعاصرة، ودفعت بالتاريخ الوطني لليمنيين إلى الأمام ونشرت مفاهيم المواطنة والمساواة الاجتماعية والحرية وحقوق الإنسان والدولة والدستور، وهي بمجموعها عملت على رفع الحس الوطني العام المشترك لدى اليمنيين. ولا تغيب عنا اليوم المفاعيل السلبية للخطابين سالفي الذكر على مستوى الوعي الوطني.
كيف أنها شيئًا فشيئًا تؤدي إلى مصادرة الشعور بالهوية الوطنية المشتركة، فينشأ من جراء ذلك الفراغ في الروح الوطنية، فتنصدع الأوطان، وهذا ما نراه اليوم ماثلًا أمامنا.
إن تفكيك البنية السياسية الوطنية الجامعة بإعلاء شأن المناطقية والخطاب المذهبي الاستعلائي، وترسيخ نظام المحاصصات الفئوية في الوعي المجتمعي، وخاصة فيما يتعلق بالسلطة والثروة، كما هو جار في الأوضاع الراهنة شمالًا وجنوبًا، ومصادرة الفضاء العام، وضرب الأحزاب السياسية الوطنية باعتبارها أوعية سياسية جامعة، والتمكين لقوى ما دون الدولة في إدارة شؤون المجتمع، وإفراغ الوعي السياسي لدى المواطن من أية هوية سياسية وطنية جامعة لصياغة عقله، بحيث تتوفر لديه قابلية، ومن دون أدنى درجة من القدرة على الامتناع، لما يتشكل راهنًا من دولة شكلانية وراء صورتها الخارجية خواء حقيقي، يسهل العبث بها بأيدٍ داخلية ومتظافرة مع الخارج الذي يسعى إلى تشكيل اليمن اقتصاديًا ضمن تبعيته بنيويًا في صيغ روابط إقليمية تشاركية أو تقاسمية خلال أنصبة ثلاثية أو خماسية يتحدد موقع اليمن فيها بأقل من قدره ومكانته الجيواستراتيجية.
والخطاب السياسي هذا المهيمن ببعديه المذهبي والمناطقي، وإذ يمعنان في تخريب الوعي الشعبي وتفتيته بالتوجهات السياسية الشعبوية وإعادة إحياء الأساطير والخرافة والشعوذة وتمكينها من عقول الشباب، يهدفان إلى خلق فوضى المفاهيم في العقول وتزييف الوعي الاجتماعي وتشتيته واغتراب المواطن عن الحقيقة والتنكر للوقائع وتضخيم الأوهام.
ولفهم أفضل لطبيعة الأمور التي كانت سائدة منذ الفترة 1990 وحتى اللحظة، أي خلال خمسة وثلاثين عامًا، يتبين فيها القضايا الجوهرية التي شكلت الشاغل السياسي والفكري والنضالي للحزب الاشتراكي اليمني، وفي هذا السياق لنا أن نوضح للقارئ الحقائق الأساسية التالية:
1. لما كانت السياسة هي الفكر السياسي والعمل السياسي معًا، استطاع الحزب الاشتراكي اليمني في سياقات نضالاته الوطنية على الأصعدة الحياتية كافة وفي مختلف مراحل تاريخه الخاص أن يبني نسقًا فكريًا كفاحيًا تغييريًا، ذلك أنه لم يكن يعمل بالسياسة ارتجالًا، بل وفقًا لمشروع سياسي وطني بحسب كل مرحلة تاريخية ومتطلباتها، بداية من طرد الاستعمار البريطاني من الجنوب وإيجاد هوية وطنية سياسية جامعة على جغرافيته، وبناء دولة حديثة منحازة طبقيًا لصالح الفقراء والكادحين، وتحقيق جغرافيا سياسية ملتحمة في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية مع قوى التحرر الوطني والعربي والعالمي في الظروف التي فرضتها الحرب الباردة عالميًا وقيمها الأخلاقية والفكرية والأيديولوجية المتصارعة، كما عمل على مشروع سياسي وطني ممتد على كل الجغرافيا اليمنية في إطار وحدة تدهورت في أقل من ثلاث سنوات وتغيرت بنتيجة هذا الفشل أقدار اليمن والحزب والشعب وانتهت بنا إلى وضعنا الحالي.
2. وإذ تمثل الوثائق الفكرية السياسية النظرية اجتهادات الحزب في الرد على أسئلة الواقع، تستطيع القول بشأنها إنها إجاباته عن السؤال الرئيسي (ما العمل؟)، وبصرف النظر عن تلك الإجابات، وهي محكومة بظروفها، إلا أننا عند البحث فيها بتجرد وحيادية موضوعية متخففة من ثقل الأيديولوجيا واحتقانات الخصومة السياسية سنجد في استخلاصات تلك الوثائق بين دفتي الكتاب هذا أنها لا تزال تملك قدرة تفسيرية تلامس بوضوح حقائق واقعنا اليومي من حيث متطلبات الحلول الموضوعية للخروج من أزماته وفق تصور يضم تطلعات الشعب والمصلحة الوطنية الحقيقية.
3. لا يمكن فصل الحزب، ومن أجل تحديد مكانته السياسية والوطنية، عما أنجزه خلال نضالاته في سياقات تاريخ اليمن المعاصر؛ فقد كان الحزب خلالها محركًا للأحداث الوطنية الكبرى أو ضمن محركات بعض تلك الأحداث بالتشارك مع الآخرين، ولعل العوامل التي شكلت أرضيات تطور الحزب متطابقة مع مجمل التطورات السياسية الوطنية التي شهدها البلد. وفي هذا الصدد كذلك لا يمكن التعرف على الحزب ورؤاه الفكرية والسياسية وتحديد صوابية مواقفه السياسية من عدمها بمعزل عن تلك التطورات وظروفها، وإلى ذلك فإن الحكم على مواقفه السياسية والتاريخية ينبغي أن يعتمد على طروحاته السياسية.
وفي هذا الصدد، فأطروحاته السياسية تكمن فائدتها الراهنة في كونها ترشدنا، على الأقل، وتبصرنا بما يمكن أخذه في الاعتبار.
ولا بد من التنويه هنا إلى أن تلك الأعمال الفكرية السياسية والنظرية تم إنتاجها في معظمها عبر "العقل الجمعي" ومن خلال المؤتمرات العامة الدورية والاستثنائية للحزب، وكذلك عبر دورات اللجنة المركزية ومناقشات ومداولات مكتبها السياسي والأمانة العامة للحزب ومشاركة قواعد الحزب وممثليه وإسهاماتهم في المؤتمرات والحوارات واللقاءات التي تمت في الحياة الحزبية الداخلية أو على المستوى الوطني العام.