مع سقوط نظام الأسد وبدء حقبة جديدة في تاريخ سوريا، تتجدد الآمال ببناء دولة قائمة على العدل والمساواة، حيث يصبح الشعب الفاعل الأول في صياغة مستقبله.
في حوار معمق مع "يمن فيوتشر"، يتحدث أكاديمي سوري بارز من أصل فلسطيني، حاصل على دكتوراه من جامعة كامبريدج، عن رؤيته للتحولات السياسية والاجتماعية في سوريا، ودور التعليم في النهوض بالبلاد بعد عقود من الاستبداد.
يناقش الدكتور أسامة أبو النعاج المقيم حاليًا في بلدية هالمستاد Halmstad التابعة لمقاطعة هالّاند Halland جنوبي السويد، التحديات التي تواجه اللاجئين في كبرى الممالك الاسكندنافية، حيث يعمل على تمكينهم من تجاوز الصدمات وبناء حياة جديدة، مستعرضًا قصص نجاح ملهمة، ورؤيته لدور التعليم في تحقيق الاندماج، والمساهمة في إعادة إعمار وطن مزقته الحرب.
- كيف استقبلت خبر الإطاحة بنظام الأسد؟ وماذا تعني لك سوريا دون هذا النظام للمرة الأولى بعد أكثر من خمسة عقود من الحكم؟
الإطاحة بنظام الأسد تحمل دلالات تاريخية، فهي ليست مجرد نهاية لحكم طويل بل رمز لتحول عميق في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا. الخبر يمكن أن يُقرأ بطرق متعددة حسب خلفيات الأفراد وتجاربهم. بالنسبة لي، سوريا دون هذا النظام تعني فرصة لفتح صفحة جديدة تحمل آمالًا بتأسيس دولة قائمة على العدل والمساواة، حيث يمكن للشعب أن يكون الفاعل الأول في صناعة مستقبله.
- كيف تقرأ المشهد السوري الآن، وما رؤيتك لمستقبل البلاد في ظل هذا التحول الكبير؟ وما هي أبرز تطلعاتك الشخصية لسوريا الجديدة؟
المشهد السوري حاليًا يبدو معقدًا ومليئًا بالتحديات، لكن في الوقت نفسه، يحمل الكثير من الفرص. مرحلة التحول غالبًا ما تكون مليئة بالفوضى لكنها تحمل أيضًا جذور البناء.
رؤيتي لسوريا الجديدة تعتمد على تأسيس بنية سياسية واجتماعية تحترم التنوع وتؤسس لنظام ديمقراطي حقيقي. التعليم سيكون مفتاح النهضة، إذ يمكن أن يكون وسيلة لتجاوز التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
تطلعاتي الشخصية لسوريا تتمثل في رؤية مجتمع يتعايش فيه الأفراد باحترام متبادل، مع وجود مؤسسات قوية وشفافة تحمي حقوق الجميع. كما أتمنى أن يتم التركيز على إصلاح النظام التعليمي ليصبح أداة لتحرير العقول وليس فقط لنقل المعلومات.
- هل ترى أن هذا التحول يمكن أن يلهم ملايين السوريين في الشتات للعودة والمساهمة في إعادة بناء سوريا؟ خاصة أن تجاربهم مع ثقافات ولغات مختلفة قد تشكل فرصة لخلق نهضة حضارية أكثر تنوعًا وثراءً؟
بالتأكيد، هذا التحول يمكن أن يكون حافزًا قويًا للسوريين في الشتات للعودة والمساهمة في بناء وطنهم. السوريون في الشتات اكتسبوا خبرات واسعة في مختلف المجالات، ومن خلال تفاعلهم مع ثقافات أخرى، أصبح لديهم رؤية مختلفة يمكن أن تعزز من فرص خلق مجتمع حضاري ومتطور.
لكن العودة تحتاج إلى بيئة آمنة ومستقرة، ووجود نظام عادل وقوانين تحمي الجميع. إذا توفرت هذه الظروف، يمكن أن تتحول سوريا إلى نموذج حضاري يُحتذى به، حيث يمتزج الماضي بالحاضر لإنتاج مستقبل غني ومتنوع.
تحولات بهذا الحجم تحتاج إلى جهود جماعية وصبر طويل، ولكن مع الإرادة والرؤية الواضحة، يمكن أن تكون هذه اللحظة بداية لحقبة جديدة من الأمل والازدهار.
- تخرجت من جامعة كامبريدج وحصلت على دكتوراه في اللسانيات التطبيقية. كيف شكلت هذه التجربة الأكاديمية حياتك العملية؟ وكيف انعكست على ما تقدمه اليوم؟
تجربة جامعة كامبريدج كانت أكثر من مجرد مرحلة دراسية؛ كانت بوابة لاكتشاف إمكانياتي الأكاديمية والتفكير النقدي. هناك تعلمت كيف يمكن للغة أن تكون أداة فعّالة في بناء الجسور الثقافية وتعزيز التفاهم بين الشعوب. الدراسة في جامعة بهذا المستوى الرفيع زودتني ليس فقط بالمعرفة المتخصصة في اللغة الإنجليزية، ولكن أيضًا بمنهجيات تحليل عميقة وتجربة تعليمية شاملة شكلت رؤيتي للعمل الأكاديمي والتربوي. انعكس ذلك بوضوح في أسلوبي اليوم، حيث أركز على التعليم الشمولي الذي يدمج المهارات اللغوية مع التعرف على الثقافة والسياق الاجتماعي. عملي الحالي مع اللاجئين يعتمد بشكل كبير على هذه الرؤية، حيث أحاول مساعدتهم على استغلال اللغة كأداة للتواصل والتعبير عن الذات وفتح آفاق جديدة.
- بعد سنوات طويلة من التدريس في العديد من الجامعات العربية، كيف تبدو تجربتك الحالية في السويد؟ وهل هناك اختلافات في التوجهات التعليمية أو التحديات التي واجهتها؟
عملي في الجامعات العربية كان مرتبطًا بمنهجيات تقليدية تركز على التعليم الأكاديمي والمحتوى النظري. في السويد، الأمور تختلف تمامًا. هنا، التركيز ينصب على الفردية، حيث يُعتبر الطالب محور العملية التعليمية. بالإضافة إلى ذلك، هناك اهتمام كبير بمساعدة الطلاب على بناء مهارات حياتية وعملية. التحديات التي أواجهها الآن في السويد تتعلق أساسًا بالتنوع الثقافي بين الطلاب، حيث يأتي اللاجئون من خلفيات تعليمية متفاوتة. بعضهم يمتلك معرفة أكاديمية متقدمة، بينما آخرون لم يتلقوا تعليمًا رسميًا على الإطلاق. هذا يتطلب مني ابتكار طرق تدريس مرنة وشخصية تناسب احتياجاتهم جميعًا، مع مراعاة الظروف النفسية والاجتماعية التي مروا بها نتيجة الهجرة.
- كيف ترى دورك اليوم في تقديم التعليم للمقيمين واللاجئين في بلدية هالمستاد Halmstad؟ وهل تجد أن هذا العمل أثر بالغًا في حياتهم ومنحهم فرصًا لم تكن متاحة لهم في بلدانهم؟
دوري اليوم هو أن أكون موجهًا وداعمًا للأفراد الذين يبحثون عن بداية جديدة في حياتهم. التعليم لا يعني فقط إعطاء المعرفة، بل تقديم أدوات تساعد الأفراد على الاندماج في المجتمع، وفهم ثقافته، والعمل على تحقيق طموحاتهم. رأيت كيف يمكن أن يكون التعليم وسيلة لتغيير الحياة بالكامل، خصوصًا للأشخاص الذين فقدوا كثيرًا من الفرص في بلدانهم الأصلية بسبب النزاعات أو الظروف الاقتصادية. أحد الأمثلة البارزة كان لطالب قدم إلى السويد دون معرفة اللغة أو كيفية التعامل مع النظام التعليمي هنا. من خلال التعليم والدعم المستمر، أصبح هذا الشخص يعمل الآن في وظيفة مستقرة ويشارك بشكل فعّال في المجتمع السويدي.
- ما أبرز التحديات التي تواجهها في عملك الآن؟ وهل تجد صعوبة في توفير بيئة تعليمية تساهم في التكيف والنمو للمجتمع الجديد؟
التحديات كثيرة ومتنوعة، أبرزها الحواجز اللغوية والثقافية. الطلاب يأتون من خلفيات مختلفة تمامًا، مما يجعل من الصعب إنشاء منهج موحد يناسب الجميع. بالإضافة إلى ذلك، يعاني الكثير من الطلاب من آثار الصدمات النفسية نتيجة للهجرة القسرية، مما يجعل التعلم عملية شاقة بالنسبة لهم. البيئة التعليمية التي أعمل على توفيرها تحتاج إلى أن تكون آمنة وداعمة، بحيث يشعر الطلاب بالراحة والثقة. أعتمد على أساليب تفاعلية وتعليمية تجمع بين التعليم التقليدي والتكنولوجيا لتحفيز الطلاب على التعلم وتحقيق النمو الشخصي.
- ما هي أبرز الصعوبات التي يواجهها اللاجئون في السويد في محاولاتهم للتأقلم مع المجتمع المحلي؟ وكيف يمكن تخطي هذه الصعوبات؟
أكبر التحديات التي يواجهها اللاجئون هي تعلم اللغة السويدية، والتي تُعتبر مفتاح الاندماج في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، فإن فهم النظام الاجتماعي والثقافي للبلد يحتاج إلى وقت وجهد. يشعر العديد من اللاجئين بالعزلة بسبب قلة التفاعل مع المجتمع المحلي، مما يؤثر على قدرتهم على التكيف. لتجاوز هذه العقبات، يمكن تصميم برامج تعلم لغة تجمع بين الدراسة النظرية والتطبيق العملي من خلال التفاعل مع المجتمع، مثل برامج العمل التطوعي أو النشاطات المجتمعية المشتركة.
- هل تلاحظ تغييرات إيجابية في حياة اللاجئين بعد أن مروا عبر برامجك التعليمية؟ هل هناك قصص نجاح تود مشاركتها تلهم الآخرين؟
بالتأكيد. واحدة من أعظم مكافآت عملي هي رؤية التغيير الإيجابي في حياة الطلاب. أتذكر طالبًا بدأ رحلته في الصفوف التعليمية بالكاد يعرف الأبجدية، لكنه الآن قادر على التواصل باللغة السويدية ويعمل كفني في شركة محلية. قصص مثل هذه تُظهر قوة التعليم في تغيير مسارات الحياة وإعادة بناء الأمل.
- ما الظروف التي تحيط بعملك هنا في السويد؟ وهل تشعر أن الدعم الذي تقدمه المؤسسات المحلية كافٍ لتلبية احتياجات الدراسين؟
السويد توفر دعمًا جيدًا للمؤسسات التعليمية، ولكن هناك دائمًا مجال للتحسين. الموارد المتاحة لا تكفي دائمًا لتلبية الاحتياجات المتزايدة للطلاب، خاصة مع تنوع الخلفيات الثقافية والتعليمية للاجئين. أعتقد أن المؤسسات بحاجة إلى زيادة الاستثمار في تدريب المعلمين على التعامل مع الطلاب من خلفيات مختلفة، بالإضافة إلى تطوير مواد تعليمية تتناسب مع هذه البيئة المتنوعة.
- كيف ترى دورك كمعلم في تشكيل حياة هؤلاء الدراسين من خلفيات ثقافية متعددة؟ وكيف يمكنك وصف المسؤولية الإنسانية التي تتحملها في هذا السياق؟
أعتبر نفسي وسيطًا ثقافيًا أكثر من مجرد معلم. دوري لا يقتصر على تعليم اللغة أو المهارات الأكاديمية، بل يشمل مساعدة الطلاب على فهم وتقدير هويتهم الثقافية بينما يتعلمون كيف يكونون جزءًا من المجتمع الجديد. المسؤولية الإنسانية كبيرة جدًا، لأنني أعلم أن الكثير يعتمد على كيفية تقديمي للدعم والطريقة التي أساعد بها الطلاب على بناء ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم.
- ما هي الطرق التي يمكن أن يتبعها المجتمع السويدي لدعم اللاجئين في مسيرتهم نحو التكيف الكامل مع الثقافة السويدية؟
لتسريع عملية اندماج اللاجئين في المجتمع السويدي، يجب علينا تعزيز التفاعل الاجتماعي بينهم وبين المجتمع المحلي. يمكن تحقيق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من المبادرات، مثل تنظيم فعاليات ثقافية مشتركة، وإطلاق حملات تطوعية مشتركة، وتشجيع الشركات على تقديم فرص تدريب وتوظيف مخصصة للاجئين. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الحكومة أن تلعب دورًا محوريًا في توفير الدعم المالي واللوجستي لهذه المبادرات، وتبسيط الإجراءات البيروقراطية التي تواجه اللاجئين. من خلال العمل معًا، يمكننا بناء مجتمع أكثر شمولية وتنوعًا، حيث يشعر الجميع بالانتماء والترحيب.
- ما الذي يجعلك تشعر بالأمل في عملك؟ وهل لديك حلم ترغب في تحقيقه في هذا المجال؟
أكثر ما يلهمني هو رؤية شبابنا، وخاصة اللاجئين والمهاجرين، يتجاوزون الصعاب التي تواجههم، سواء كانت صعوبات لغوية أو ثقافية أو اجتماعية اقتصادية، ليحققوا أحلامهم. إن قدرتهم على التكيف والتعلم في بيئة جديدة هي شهادة على إرادتهم القوية وعزيمتهم الصلبة. لذلك، فإن حلمي هو تأسيس مركز تعليمي عالمي مبتكر يوفر لهم بيئة تعليمية آمنة وداعمة، حيث يمكنهم اكتساب المهارات والمعرفة اللازمة لبناء مستقبل مشرق لأنفسهم ولمجتمعاتهم. هذا المركز سيعمل على دمج أحدث التقنيات في التعليم، مثل التعلم الذاتي والتعاون عبر الإنترنت، لتلبية احتياجات المتعلمين المتنوعة، وسيساعدهم على تطوير مهارات القرن الحادي والعشرين مثل التفكير النقدي والإبداع وحل المشكلات. كما أنه سيشجع على التبادل الثقافي والحوار بين الطلاب من مختلف الخلفيات، لتعزيز التسامح والتعايش السلمي.
- كلمة أخيرة.
شكرًا جزيلًا على هذه الفرصة!