اليمن: عدن القديمة.. المزيج الفريد من العمارة الهندية والإهمال المعاصر
يمن فيوتشر - محمد جسار الإثنين, 04 نوفمبر, 2024 - 08:55 مساءً
اليمن: عدن القديمة.. المزيج الفريد من العمارة الهندية والإهمال المعاصر

تتجلى في شوارع كريتر بعدن لمسات المعمار الهندي، تأخذك التفاصيل إلى زمن مضى، مفعم الحياة، إذ تروي الشرفات الخشبية المطلة المعروفة بـ(الروشن) قصة المدينة العريقة.

يشير المهندس مارسيل خان، المعيد في قسم المعمار بجامعة عدن، إلى أن "قصر السلطان العبدلي بُني بمساعدة عمال من الهند جلبتهم الشركة الهندية إبان الاستعمار الإنجليزي، مما أضفى عليه طابعًا يشبه الطراز المغولي الجامع بين الفلسفة المعمارية الإسلامية والفارسية والهندية."
وبُني القصر الشهير المعروف بـ"البراق" أو "الشكر" أسفل قلعة صيرة بـ"حي الروزميت" في كريتر، على مدى ست سنوات إبان الحرب العالمية الأولى، 1912-1918، في عهد السلطان فضل بن علي العبدلي، قبل تحويله لاحقًا إلى "المتحف الوطني للآثار".
يضيف خان، أن "غزو الإسمنت أدى إلى تراجع استخدام المواد المحلية مثل الحجر الشمساني والبوميس (الصخر البركاني Pumice)، مما ساهم في طمس الهوية المعمارية للمدينة."
وحذّر من أن الإهمال وانعدام الصيانة الدورية يمثلان تهديدًا حقيقيًا لهذه المباني، مشيرًا إلى أن الصيانة تُجرى غالبًا بمواد غير مناسبة، "دخيلة على مواد البناء والتشطيبات الأساسية"، كما أكد على أهمية استخدام المواد الأصلية في أي أعمال صيانة للحفاظ على الهوية المعمارية.

وفي السياق، يشرح المهندس ممدوح لطفي أن "التصميمات المعمارية قديمًا كانت تعتمد على المواد الطبيعية المتوفرة في المنطقة، حيث كان الحجر هو المادة الأساسية في كريتر بفضل توفره في المنطقة الجبلية"، مشيرًا إلى استخدام "مادة البوميس كمادة أسمنتية، مما يعكس تكيف المعماريين مع الموارد المتاحة."

بين التراث والمعاصرة
يعد تخطيط الحواري في كريتر تخطيطًا حضريًا متميزًا، تم تقسيمها إلى بلوكات وشوارع منظمة.
يشير لطفي إلى الطراز المعماري الذي أظهر تنوّع المباني في تصميمها، بين العصرية منها المتميزة بالبساطة وغياب النقوش، فيما حملت الأخرى تأثيرات من الطراز الروماني.
ويبرز النمط الهندي في المعابد، من خلال أقواس النوافذ والألوان المستخدمة والمشربيات الخشبية.
يقول عالم الاجتماع والرحالة الفرنسي آرتور دو غوبينو في إحدى رسائله إلى شقيقه، بعثها من عدن، عام 1855: "شاهدتُ مدينة هندية فوق أراضٍ عربية وسط الصخور."

تتحدث المهندسة المعمارية وديان أحمد حول بعض المباني التي تحتفظ بتراثها الهندي، مشيرةً إلى أن "العمارة الهندية في عدن تمثل مزيجًا فريدًا من التراث والتأثيرات، وتشكل كنزًا معماريًا خاصًا يجمع بين العناصر الهندية والمحلية والعربية."

تستعرض لـ"يمن فيوتشر" أبرز ملامح هذه العمارة، التي تتضمن "الأقواس أو القناطر والقباب المزخرفة، وتمثل أبرز سمات العمارة الهندية المستلهمة من العمارة المغولية"، إلى جانب "الشرفات الخشبية المنحوتة بدقة، التي تزيد من جمال المباني، وتوفّر تهوية طبيعية."
كما تتضمن "النوافذ المشربية ذات الزخارف الهندسية المعقدة" التي تعكس "المهارة الحرفية العالية"، و"الأعمدة الرقيقة والمنحوتة" التي تمنح "المباني طابعًا أنيقًا"، إلى جانب "الزخارف النباتية والهندسية" التي تزين "جدران المباني وسقوفها وأعمدتها"، مما يعكس "تأثير الفنون الإسلامية".
وتشير وديان إلى "استخدام المواد المحلية مثل الحجر الجيري والخشب في البناء، ما يجعل هذه المباني متناسبة مع البيئة المحيطة."

نسمات الحياة اليومية بين الأزقة القديمة
تستمر في السير وسط كريتر، حيث "عدن القديمة" الواقعة على فوهة بركان (Crater)، وحيث تملأ أصوات الحياة اليومية المكان، من نداء الباعة إلى ضحكات الأطفال. لِلَحْظة، تصبح جزءًا من هذا النسيج الحي، لتعيش زمنًا جميلًا لا يزال ينبض في قلب المدينة.
تتجول في الأزقة الضيقة، حيث تتشابك البيوت القديمة مع ذكريات الماضي. تصل إلى أحد المقاهي التقليدية، حيث يجلس الرجال يتبادلون الأحاديث ويحتسون الشاي العدني الشهير، بينما تعبق في الأجواء رائحة البخور، مما يضفي سحرًا خاصًا على المكان.
يقول الحاج المتقاعد أبكار السيد، من أصل هندي، جاء أجداده مع السفن الإنجليزية في القرن التاسع عشر: "لم يكن تواجد العنصر الهندي في عدن للاحتلال، بل انصهرت العادات والتقاليد، وصار التبادل الثقافي الذي تعكسه هذه العمارة دليلًا على عمق العلاقات التاريخية والتجارية بين الهند وعدن."
"هذه المباني تمثل إرثًا حضاريًا، وهي جزء لا يتجزأ من الهوية الحضارية لمدينة عدن، كما أنها شكل سياحي يجذب الزوار من جميع أنحاء العالم، مما يساهم في تنشيط الحركة السياحية في المدينة، كما كانت الحال قبل تدهورها في 2011"، قال.
يضيف السيد، "لكن التدهور طال بعض المباني، بالإضافة إلى التغيرات العمرانية وغزو الإسمنت السريع في أنحاء المدينة."

تتوقف عند أحد المحلات الصغيرة التي تبيع التحف والهدايا التذكارية، حيث تجد قطعًا تعكس التراث والثقافة المحلية. تتأمل الأواني الفخارية المزخرفة والأقمشة المطرزة بألوان زاهية، تشعر وكأنك تحمل جزءًا من هذه المدينة معك.

يقول شعيب العفيف، مسؤول العلاقات العامة في معهد جميل غانم للفنون: "أشعر بجمال وروعة التصاميم التي برع فيها المهندسون في تشييد المباني التي ما زالت شامخة وصامدة منذ زمن طويل"، آملًا "من المواطنين والسلطات المختصة الحفاظ على هذا الطراز المعماري وحمايته من التشويه والطمس."
في نهاية جولتك في كريتر، تجد نفسك بمحاذاة البحر، حيث تتلاطم الأمواج على الشاطئ وتنساب أغنية قديمة تروي حكايات البحارة والمغامرين. تجلس على أحد الصخور، تستمتع بمشهد الغروب يلون السماء، وتحمل في قلبك ذكريات لا تُنسى.


التعليقات