على مدى عقود، نظرت الولايات المتحدة إلى اليمن بشكل شبه حصري وذلك عن طريق أسوأ مشكلاتها.
في أوائل العقد 2000، اعتبر المسؤولون الأمريكيون اليمن مجرد مشكلة مكافحة الإرهاب التي يجب حلها فقط. ثم، في عام 2015، تحوّل التركيز إلى إيران وكيف يمكن للولايات المتحدة استعادة علاقتها مع المملكة العربية السعودية. والآن، يتم التركيز على الحوثيين والتهديد الذي يشكلونه على حركة الملاحة التجارية في منطقة البحر الأحمر ومحيطها.
في كل مرة، كما تقول (ألكساندرا ستارك) في كتابها "نموذج اليمن"، اختارت الولايات المتحدة التركيز على الأعراض بدلًا من معالجة السبب الجذري. والنتيجة: سلسلة من المشاكل المتطورة التي لم يتم حلها أبدًا.
خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، ركّزت الولايات المتحدة بشكل حصري على تحدي الإرهاب، مما دفعها لتجاهل المخاوف الأكثر تعمقًا بشأن الفساد والحكم السلالي التي أدت فيما بعد إلى تفكك البلاد. وفي الآونة الأخيرة، رغم تأكيدها على رؤية اليمن فقط كجزء من مشكلة إيران، أغفلت الولايات المتحدة -وأحيانًا ساهمت في- القصف الخاطئ وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها التحالف السعودي في اليمن، والذي لم ينتج إلا تعزيز قبضة الحوثيين على السلطة.
وقد يكون من المتوقع، و بعد سنواتٍ من الأخطاء، أن الجهات المعتمد عليها من قبل الولايات المتحدة للمساعدة في حل المشاكل السابقة المتعلقة بتنظيم القاعدة وإيران لا ترغب في المشاركة - أو غير قادرة - في مساعدة الولايات المتحدة في التعامل مع الحوثيين.
وقد تم قتل (علي عبد الله صالح)، الرئيس اليمني السابق الذي كان شريكًا للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب في العقد 2000، على يد الحوثيين عام 2017. والمملكة العربية السعودية، التي دخلت اليمن عام 2015 بهدف طرد الحوثيين من صنعاء، تشعر الآن بالإرهاق الشديد جراء الصراع، وتبذل كل ما في وسعها للخروج من اليمن، ورفضت الانضمام إلى العمليات التي تقودها الولايات المتحدة ضد الحوثيين. وكل هذا يعني أن الولايات المتحدة تجد نفسها الآن بدون شركاء محليين على الأرض في اليمن، أو شركاء إقليميين في الشرق الأوسط يكونون على استعداد لمساعدتها في التعامل مع تهديد الحوثيين.
وبالنسبة للولايات المتحدة، تبدأ وتنتهي مخاوف التهديدات بالنسبة إليها بالهجمات الحوثية على الشحن التجاري، ولا يثير اهتمامها أي شيء آخر حقًا.
في البداية، في نوڤمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول عام 2023، اتخذت الولايات المتحدة نهجًا دفاعيًا فقط، حذرة من صراع آخر غير محدد المدة في الشرق الأوسط، حيث قامت بتشكيل عملية حارس الازدهار لمرافقة السفن والدفاع عنها في البحر الأحمر. وفي منتصف يناير/كانون الثاني، عندما أصبح واضحًا أن ذلك غير كافٍ، قامت الولايات المتحدة بالتحول إلى نهج "ردع وتقليل القدرة" من خلال عملية قوس بوسيدون.
وعلى مدار خمسة أشهر مضت، تراوحت هجمات الحوثيين بين الانكماش والتوسع، لكنها لم تختفِ. وهو ما يشير، كما يقول بعض المحللين، إلى وجود "حالة طبيعية جديدة" الآن. وتستمر شركات الشحن في تجنب البحر الأحمر، وإعادة توجيه حركة المرور حول القرن الجنوبي لأفريقيا، مما زاد من الوقت والتكاليف واستهلاك الوقود. وما يثير قلقًا أكبر هو أن خطاب ونطاق العمليات للحوثيين لا يزال متوسعًا. وفي مارس/ آذار، هددت الجماعة باستهداف السفن في المحيط الهندي، ثم أنجزت تهديدها في أبريل/ نيسان، عندما أطلقت صواريخ على سفن في المحيط الهندي. وفي أوائل مايو/ آيار، أضاف الحوثيون البحر الأبيض المتوسط إلى قائمة أهدافهم، قائلين إنهم سيستهدفون السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية. وما إذا كان الحوثيون سينجحون في تنفيذ هذا التهديد الأخير لا يزال قيد التحديد، لكن كما صرحت (أفريل هينز)، مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية، للكونغرس في الثاني من مايو/أيار، فإن تهديد الحوثيين "سيظل نشطًا لبعض الوقت".
ومرور الأشهر السبعة الماضية يوضح شيئين بشكلٍ جَلي:
أولًا، تهديد الحوثيين للشحن التجاري وحرية الملاحة لن يختفي. وهذا سيظل صحيحًا سواء كان هناك وقف لإطلاق النار في غزة أم لا.
ثانيًا، لدى الولايات المتحدة أدوات ضعيفة لمواجهة تهديد الحوثيين. كما صرحت هينز للكونغرس، أن إجراءات الولايات المتحدة "لم تكن كافية لوقف الحوثيين عن الانتقال في هذا الاتجاه". وكل هذا يطرح السؤال الأساسي: كيف يمكن للولايات المتحدة التعامل مع تحدي طويل الأمد ومستمر مثل هجمات الحوثيين على الشحن التجاري؟
الجواب، كما يوحي كتاب ستارك الجديد، أن الولايات المتحدة تحتاج إلى الخروج من وضع الدفاع التفاعلي والتوقف عن التعامل فقط مع أعراض التحديات الأمنية عند ظهورها. فالحوثيون ليسوا المشكلة بذاتها؛ إنما نتاج مشاكل اليمن الأساسية من الفساد والفقر وسوء فرص التعليم.
وبالنسبة لكثير من صانعي القرار في واشنطن الذين تعبوا من الشرق الأوسط ومستعدين للتركيز على تحدي الصين، هذا الجواب ليس مقبولًا. في نظرهم، قضت الولايات المتحدة سنوات كثيرة وصرفت الكثير من المال وفقدت الكثير من الأرواح في الشرق الأوسط لتنخرط مرة أخرى في صراعاتٍ لا تستطيع الفوز بها.
وقد يقول البعض الآخر إن مشاكل الشرق الأوسط عالقة لا يمكن حلها، بل يمكن إدارتها فقط. وقد يكون الاثنان على حق، ولكن في الواقع البدائل أسوأ حتى من ذلك.
في الـ 24 سنة الماضية منذ هجوم تنظيم القاعدة على سفينة يو إس إس كول، أنفقت الولايات المتحدة مبالغ ضخمة من المال في اليمن وقامت بتنفيذ عديد الضربات، لكن بأي نهاية؟ لم تختفِ مشكلات الأمن في البلاد، بل تغيرت واكتسبت وجهًا مختلفًا. وكانت المشكلة في الماضي تتمثل في تنظيم القاعدة؛ أما اليوم فتتمثل في الحوثيين. والفرق الوحيد هو أن الولايات المتحدة الآن لديها شركاء وخيارات أقل.
مواجهة المشاكل الجذرية في اليمن لن يكون أمرًا سهلًا أو سريعًا أو رخيصًا، ولهذا السبب لم يحاول أحد بالفعل في ذلك. ولا يمكن للولايات المتحدة ولا يجب أن تحاول ذلك بمفردها. ومع ذلك، فإن لها دورًا رائدًا يجب أن تلعبه، ضمن خيارين؛ إما محاولة فعل شيء عظيم وجيد أو فعل ما يفعلونه دائمًا: معالجة الأعراض والأمل في عدم عودة المشكلة مرة أخرى.
والخيار الثاني هو الذي تتبعه الولايات المتحدة في معظم الأحيان، لكنه أيضًا هو الخيار الذي وضع واشنطن في المأزق الذي تواجهه اليوم، حيث تكافح لإيجاد وسيلة لحماية الشحن التجاري عبر البحر الأحمر. وإذا انتقلت الولايات المتحدة إلى هذا الطريق مرة أخرى، فيجب أن تتوقع النتائج نفسها: المزيد من المشاكل وقلة الأدوات المتاحة لحلها.