قد لا تكون أزمة الحزب الاشتراكي اليمني جديدة، فالحزب الذي يعتبر امتدادًا للحركة الوطنية في الجنوب والشمال ووريثًا لأهم تنظيماتها، عاش أزمات مستمرة ومتلاحقة منذ تأسيسه، لكن تلك الأزمات لم تمنع الحزب الذي كان امتدادًا للحركات السياسية التي طردت الاستعمار البريطاني من الجنوب وقادت دولة الاستقلال لاحقًا، وشكلت طرفًا مهمًا في ثورة 26 سبتمبر في الشمال وقادت المعارضة السياسية والمسلحة للنظام هناك منذ انقلاب 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 والمصالحة مع الملكيين، لم تمنع الحزب من أن يكون رقمًا سياسيًا كبيرًا ومؤثرًا وقوة شعبية وجماهيرية رئيسية في عموم اليمن، بينما يتضاءل تأثيره الآن يومًا عن يوم.
وعلى عكس الأمر في الحرب الحالية - أهلية تداخلية إقليمية- كانت ثورة فبراير/شباط 2011 قد أعادت له الكثير من البريق.
كان موقفُ الحزب من ثورة فبراير الأفضل بين أحزاب اللقاء المشترك التي كانت تشكّل المعارضة. فقد كان أوّلَ من أعلن دعمها، وأدّت شبيبتُه دورًا بارزًا في قيادة التحرّكات الأولى في صنعاء وتعز وإب، بل كذلك في الاحتجاجات على اجتياح تحالف صالح - الحوثيّ لصنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، وعلى الانقلاب في يناير/كانون الثاني 2015. كما أنّ أولى المحافظات التي تحرّرتْ من سلطة التحالف المذكور كانت محافظة الضالع، اعتمادًا على قوًى شعبيّةٍ تُعتبر معقله الأساسيّ. والأمر نفسُه في مشرعة وحدنان في تعز، وهي أولى المديريّات التي سقطتْ من أيدي التحالف؛ وأيضًا في مديريّة عتمة، وهي المديريّة الوحيدة التي انتفضت على التحالف في ذمار في قلب المنطقة الشماليّة، وكان أبرزَ قادتها سكرتيرُ منظمة الحزب الذي قُتل لاحقًا مع مئات الاشتراكيّين في مختلف الجبهات وشاركت منظمات الحزب في الجنوب وفي محافظات تعز ومأرب والجوف بفاعلية في الحرب ضد القوات الحوثية وتبنت بشكل صريح خيار المواجهة المسلحة مع قوات الحوثي وإن كانت قد فشلت في بلورة خط سياسي بديل داخل الحزب بل وحتى في قيادة معارضة جدية لموقف قيادة الحزب المتردد ولم تقدم حتى نقدًا لخط الحزب وسلوك قياداته .
في المقابل، بدا موقفُ قيادة الحزب متردّدًا، ولم يكن الحديثُ عن تواطؤ قسمٍ منها مع الحركة الحوثيّة بلا أساسٍ على ما يبدو. الموقفُ الرسميُّ للحزب بقي شاجبًا للحرب بشكلٍ عامّ، وداعيًا إلى عودة الشرعيّة والعمليّة السياسيّة، ما يعكس العجزَ عن فهم الأحداث التي تجاوزت العمليّة السياسيّة وأعلنتْ فشلَها.
يحاول الحزبُ أن يبني ما يسمّيه "قوةً ثالثةً" - وهذا هو الأمر الصحيح. لكنّه بدلًا من الانخراط في المقاومة وتنظيمها وإعطائها الشعاراتِ والبرنامجَ السياسيَّ المناسب لاستكمال ثورة فبراير/شباط 2011، فإنّه يكتفي بما يشبه الوعظَ، حارمًا نفسَه والمجتمعَ من تكوين أيِّ بديلٍ سياسيٍّ ومسلّح من خارج التحالف السعوديّ وحلف صالح - الحوثيّ.
لاحقًا ومع تطور الأحداث تحول الخط السياسي للحزب إلى ما يشبه التذيل للمجلس الانتقالي الجنوبي جنوبًا، وخطاب يحاول أن يتجنب بطش الحركة الحوثية من قياداته في صنعاء حينًا ويتملقها ويسايرها حينًا آخر - كانت الأدوار معكوسة في بداية الحرب وإسقاط الحوثي لصنعاء.
والحق أن الحزب الاشتراكي اليمني رغم شعاراته اليسارية كان في الواقع تنظيما معبرًا عن الوطنية اليمنية أكثر من أي شيء آخر، لذا فإن موقفه الممالئ لقوة لا ترفع شعا الانفصال فحسب بل وترفض أساسًا الهوية الوطنية اليمنية - وصل الحال إلى إسقاط اليمني من اسمه في بعض منظمات الجنوب - يضرب تراث الحزب وخطابه السياسي من أساسه لحزب كان إنجازه الأساسي قيادة استقلال الجنوب وتوحيد أزيد من 25 سلطنة ومشيخة في دولة واحدة بأفق الهوية اليمنية.
ويصلح موقف الحزب من المجلس الانتقالي الجنوبي وقبله الحراك السلمي الجنوبي لبيان طبيعة قيادة الحزب وخطها الفكري والسياسي، فالحزب – كما لا تزال قياداته تردد حتى الآن - لم يرد أن يسيطر على الحراك - الذي نشأ في مقراته وبقيادة أعضائه وكوادره وقياداته - وأن يترك للناس أن تقرر إرادتها كما تشاء، والحال أن كل ذلك انتهى بجعل خطه الأساسي ممثلًا لخصوم الحزب الاشتراكي التاريخيين من رابطة وسلاطين ومشايخ.. إلخ.
يصلح هذا الموقف لبيان طبيعة قيادة الحزب؛ لأنه يعبر عن إحدى مسألتين تسمان خطه القيادي وتفسران سلوكه السياسي:
الأولى عدم الرغبة في تحمل المسؤولية السياسية ورميها على المجتمع، والنتيجة طبعًا فقدان التأثير على الحركة الاجتماعية والسياسية حتى لو كان أعضائه بالمئات في مواقع قيادية.
والثانية وهي المفسر الأساسي لدور ومواقف الحزب، وهي عدم الحسم في أي مسألة بشكل كامل ونهائي؛ لأن ذلك قد يؤثر على وحدة الحزب والنتيجة افتقاد الحزب لأي وحدة سياسية أو تنظيمية حقيقية.
هذه المسألة كانت مسيطرة على أداء الحزب منذ حرب 94. إضافة إلى الاعتقاد أن تشكل أي وضع تنظيمي جديد سوف يمثل إعادة لتوزيع القوة والقرار ونقلها للأوضاع التنظيمية الجديدة، فأصبح الخط العام هو المراهنة على التحالفات السياسية - التي انتهت إلى اللقاء المشترك - وعلى القوى الدولية - الأمر المستمر إلى اليوم - بدلًا من إصلاح الحزب سياسيًا وتنظيميًا، وتبني خطاب حقوقي مثل أغلب اليسار العربي حول الأحزاب من حركات اجتماعية وجماهيرية إلى ما يشبه المنظمات غير الحكومية.
اليوم لا يكاد يتعرف المرء على موقف الحزب من المساءلة الوطنية ولا الاجتماعية، وقيادته التي انتخبها كونفرنس - غرضه الحقيقي كان عدم رغبة القيادة السابقة وبالأخص الأمين العام مواجهة المتوقع - لمدة عام واحد تدخل عامها العاشر دون أي خط سياسي أو برنامج معلن، وموظفيه في السلطة - أحسنوا أو أساءوا - لا يمثلون إلا أنفسهم!
طبعًا من الممكن تقدير مسؤولية الحرب عن كل ذلك، لكن بالنسبة لحزب نشأ في أتون حرب التحرير وحرب الجمهورية الملكية فإن الاكتفاء بموقف الانتظار، واستخدام خطاب المنظمات غير الحكومية ليس أفقًا.