عصفت أمواج الحروب والصراعات بالملاحة البحرية في البحر الأحمر من قبل الحوثيين والجفاف في قناة بنما، لتتوقف العديد من الرحلات وتتأجل، بل وتغير مساراتها، لتشمل ناقلات وقود وسلعاً أساسية وغيرها.
وتسببت هذه الاضطرابات في التأثير على سلاسل التوريد العالمية وعلى التجارة العالمية، وزيادة تكاليف النقل والتأمين ومن ثم أسعار السلع والتضخم، وهو الذي يمثل امتداداً لسلسلة من الاضطرابات لسنوات عانت فيها سلاسل التوريد عالمياً منذ جائحة كورونا، ليتأثر بذلك العديد من الدول جيوسياسياً واقتصادياً من الشرق إلى الغرب.
•اشتعال لهيب الشحن البحري
أشعلت جماعة الحوثي التوترات في البحر الأحمر بالإعلان عن استهداف أي سفن إسرائيلية، أو التي تتوجه إلى إسرائيل عبر مضيق باب المندب، بهدف حصار الاحتلال اقتصادياً وإجباره على وقف العدوان على قطاع غزة.
وتستورد إسرائيل حوالي 99% من البضائع عبر البحر، ونحو 49% من الواردات تأتيها من دول أوروبية و25% من دول آسيوية، لتشمل الآلات اللازمة لمشاريع البنية التحتية والبناء -خصوصاً من الصين- والمنتجات الاستهلاكية والبضائع المطلوبة من المواقع الصينية، بما في ذلك علي إكسبريس (Aliexpress)، فضلاً عن المنتجات الإلكترونية والمركبات الصينية.
وارتفعت حدة التوترات أكثر فأكثر في البحر الأحمر منذ الإعلان عن أول استهداف لجماعة الحوثي بالاستيلاء على سفينة جالاغسي ليد في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ومهاجمتهم أيضاً سفناً تجارية وحربية بطائرات مسيرة وصواريخ وقذائف، رداً على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لتشكل الولايات المتحدة وبريطانيا بقيادتهما مع دول أخرى تحالفاً بحرياً دولياً باسم "حامي الازدهار" في 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بهدف حماية الملاحة في البحر الأحمر وحركة السفن من هجمات جماعة الحوثيين وضربهم مواقع عسكرية في اليمن.
وتبعاً لذلك، أعلن المتحدث العسكري باسم جماعة الحوثي يحيى سريع استهداف ناقلات أمريكية وبريطانية، لتتصاعد بذلك حدّة التوترات في المنطقة، ما دفع أكبر الشركات العالمية لتعطيل رحلاتها أو إعادة توجيه سفنها بعيداً عن البحر الأحمر (الذي يرتبط بالبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس) عبر رأس الرجاء الصالح حول جنوب إفريقيا، ليثير بذلك مخاوف حول سلاسل التوريد عالمياً.
•النينو تضرب الشحن البحري
وضربت ظاهرة النينو مناطق عدّة مؤخراً ومن ضمنها قناة بنما ليصيبها بالجفاف، إذ كان شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023 هو الأكثر جفافاً على القناة منذ عام 1950 حسب السلطات البنمية، إذ انخفض هطول الأمطار بنسبة 41% عن المعتاد، ما أدى إلى انخفاض بحيرة جاتون التي تغذي القناة لمستويات غير مسبوقة.
وتأتي أهمية قناة بنما في ربطها المحيط الأطلسي والهادئ، وهي ممر مائي اصطناعي طوله حوالي 82 كيلومتراً، وتمر عبرها بشكل رئيس سفن من الولايات المتحدة والصين واليابان، حيث يمر نحو 1000 سفينة عبر القناة شهرياً، بما يزيد على 40 مليون طن من البضائع، أي حوالي 5% من حجم التجارة البحرية عالمياً، وفق البيانات الرسمية.
وقد دفع تغير المناخ السلطات البنمية إلى الإعلان عن إجراءات تشغيلية جديدة وقيود أبرزها تخفيض عدد السفن المارّة تدريجياً، وصولاً إلى 18 سفينة يومياً مطلع فبراير/شباط الماضي، بعد أن كانت 25 سفينة مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي كانت طاقتها القصوى يمكن أن تمر عبرها ما بين 38 و40 سفينة يومياً.
وتشير التقارير إلى أن أزمة قناة بنما الحالية بسبب التغير المناخي وتوسعة البنية التحتية كذلك، وانخفاض أعداد السفن المارة بالقناة، وانخفاض حمولتها وارتفاع أسعار المرور، دفع العديد من الشركات إلى تحويل مساراتها نحو قناة السويس، والذي ربما تسبب بنسبة كبيرة في ارتفاع إيرادات قناة السويس 264.1 مليار جنيه مصري (8.5 مليار دولار) خلال أول 10 أشهر من عام 2023، مقابل 118.1 مليار جنيه مصري (3.8 مليار دولار) خلال الأشهر المناظرة من العام السابق عليه، بمعدل 123.7%، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
إلا أن التوترات في البحر الأحمر دفعت حركة مرور السفن عبر قناة السويس إلى الانخفاض بنحو 30%، وفقاً لرئيس هيئة القناة أسامة ربيع، كما أن إيرادات القناة انخفضت 40% منذ بداية العام الحالي مقارنة بعام 2023.
وقد أجبر الجفاف في قناة بنما عملاق الشحن البحري شركة "ميرسك" على البدء في استخدام "الجسر البري" لنقل البضائع، وأبلغت عملاءها أن السفن التي تستخدم قناة بنما لن تعبر بعد الآن مع الشحن من أوقيانوسيا (أستراليا ونيوزيلندا) بسبب الوضع المائي المستمر، الذي أدى إلى تكبد شركات الشحن أيضاً حوالي 235 مليون دولار لتفادي طابور قناة بنما، وفقاً لبيانات شركة واي بوينت بورت سيرفسز.
•التوترات تشعل تكاليف الشحن
يتمتع البحر الأحمر بأهمية استراتيجية كبيرة، فبين ضفتيه تتمركز أهم المواني، فهو ممر ملاحي لحركة التجارة العالمية، وحلقة الوصل الأسرع والأقصر بين آسيا وأوروبا، ومنفذ بحريٌ مهم لإسرائيل، لذا فإن اشتعال التوترات دفع شركة ميرسك إلى أن ترجح أن لا تسير جداول المواعيد المعقدة مثل ما هو مخطط لها بالنسبة إلى سفن الشحن العملاقة وناقلات النفط وسفن نقل البضائع الأخرى خلال العام، إذ يتعامل قطاع النقل البحري مع 90% من حجم التجارة العالمية وهو ما يواجه احتمال حدوث اضطرابات ضخم.
فيما رفضت أيضاً شركات التأمين تغطية السفن الأمريكية والبريطانية والمرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، وأضافت بنوداً في العقود تشترط عدم ارتباط السفن بتلك الدول، كما رفعت الشركات التكاليف لشركات الشحن، إلى ما يقرب من 250% لمواجهة المخاطر.
وشهدت أيضاً ناقلات الغاز أكبر انخفاض في الرحلات عبر البحر الأحمر، بنسبة 96% عن ديسمبر/كانون الأول الماضي، وعلى سبيل المثال حول كل من روسيا وقطر عدداً من سفن الغاز الطبيعي المسال بعيداً عن البحر الأحمر، لتزداد تكاليف الوقود على السفن بشكل عام فتبلغ نحو مليوني دولار لكل رحلة ذهاباً وإياباً بعد تحويل المسار بعيداً عن قناة السويس، وفق تقرير لوكالة رويترز.
وقفز السعر الفوري لشحن البضائع في حاوية بطول 40 قدماً من آسيا إلى شمال أوروبا إلى 4000 دولار، وهو ما يمثل قفزة بنسبة 173% عما كان عليه قبل بدء عمليات التحويل في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، وارتفعت الأسعار من آسيا إلى الساحل الشرقي إلى أمريكا الشمالية بنسبة 55% لتصل إلى 3900 دولار للحاوية التي يبلغ طولها 40 قدماً، وفق بيانات منصة الدفع والحجز للشحن الدولي "فريتوس" (Freightos).
كما ارتفعت أيضاً أسعار الشحن من آسيا إلى شمال أوروبا إلى أكثر من الضعف متجاوزة 4000 دولار لكل حاوية بطول 12 متراً، وزادت الأسعار من آسيا إلى البحر المتوسط إلى 5175 دولاراً.
•ردود أفعال شركات الشحن العالمية
ونتيجة توترات المنطقة أوقفت العديد من شركات الشحن رحلاتها، أو أعادت توجيها، ففي وقت سابق أعلنت شركة كوسكو (أكبر شركة شحن صينية) وقف الإبحار باتجاه المواني الإسرائيلية على البحر الأحمر، نتيجة تصاعد التوترات في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، والتي تمتلك وحدها ما يقرب من 11% من حجم سوق التجارة.
وانضم إليها العديد من أهم شركات الشحن العالمية والمصنعون وأهم منتجي النفط كذلك، منهم شركة روبنسون التي غيرت مسار أكثر من 25 سفينة حول إفريقيا خلال أسبوع، كما أعلن خط شحن الحاويات التايواني إيفرجرين إبحار بعض سفنه إلى المياه الآمنة القريبة، مع إعادة توجيه السفن المقرر أن تمر عبر البحر الأحمر حول إفريقيا.
بدورها علقت مجموعة الشحن الدنماركية ميرسك حركة المرور في البحر الأحمر "في المستقبل المنظور". وقالت شركة النفط الكبرى بريتش بتريليوم إنها أوقفت مؤقتاً جميع عمليات النقل عبر البحر الأحمر. وأيضاً أعلنت مجموعة الأغذية الفرنسية دانون أن معظم شحناتها جرى تحويلها، ليزيد وقت العبور.
ومن ردود الفعل أيضاً، قالت شركة دي إتش إل إن تحويل مسار الشحن قد يؤدي إلى نقص حاويات الشحن في آسيا خلال الأسابيع المقبلة، بينما رأت شركة إيكيا السويدية المتخصصة بالأثاث الجاهز أن الوضع سيؤدي إلى تأخيرات وقد يتسبب في قيود على توفر بعض المنتجات. كما علّقت صانعة السيارات الكهربائية الأمريكية تسلا معظم إنتاج السيارات في برلين بسبب نقص المكونات.
إلى ذلك، ذكرت صانعة السيارات السويدية فولفو أنها ستوقف الإنتاج في مصنعها في بلجيكا لمدة ثلاثة أيام بسبب التأخير الناجم عن الوضع في البحر الأحمر. كما أكدت مصادر مطلعة أن شركة النفط البريطانية الكبرى شل علقت جميع الشحنات عبر البحر الأحمر إلى أجل غير مسمى.
وعلى صعيد آخر؛ ونتيجة التحديات التي يواجهها الشحن البحري، كشفت بعض شركات الخدمات اللوجيستية في وقت سابق أن هناك ارتفاعاً في عدد شركات الصناعات التحويلية التي تسعى لنقل منتجاتها جواً، نتيجة للتوترات في البحر الأحمر وبحثاً عن طرق بديلة، في تحوّل قد يستفيد منه قطاع الشحن الجوي الذي يعاني من ضعف الطلب عقب جائحة كورونا.
لكن الشحن الجوي يعتبر مكلفاً مقارنة بالشحن البحري، وغير تنافسي بالنسبة إلى السلع الضخمة ذات هامش الربح المنخفض، وقد أدت هذه إلى تقييد الشحن الجوي إلى أقل من 1% من التجارة العالمية من حيث الحجم، حسب اتحاد النقل الدولي الجوي (IATA).