ضربة الحوثيين الأخيرة في البحر الأحمر أسفرت للمرة الأولى عن مقتل مدنيين -ثلاثة عمال على سفينة شحن تحمل علم بربادوس- مما يؤكد ذلك فشل الاستجابة العسكرية للرئيس الامريكي جو بايدن بعد خمسة أشهر طويلة من الهجمات المتطرفة هناك.
كما تُظهر مدى صعوبة تحقيق الهدف المنشود في إنهاء الحرب التي استمرت لما يقرب من عقد في اليمن.
و بعد أسبوعين من توليه الرئاسة في يناير/كانون الثاني 2021، قام (جو بايدن) بثلاثةِ خطواتٍ رئيسية بهدف إنهاء الحرب في اليمن. أولاً، قام بإزالة تصنيف الحوثيين كمنظمةٍ إرهابية أجنبية و الذي أُعلن في الأيام الأخيرة من ولاية (دونالد ترامب). ثانياً، قام بتعيين (تيم ليندركينغ) كمبعوثٍ خاص إلى اليمن. وأخيراً، أعلن أن واشنطن ستتوقف عن دعم العمليات العسكرية السعودية في اليمن، وأعلن أن الحرب في اليمن يجب أن تنتهي. و إن إنهاء الحرب في اليمن لا يزال هدفًا سياسيًا رئيسيًا لإدارته.
و بحلول وقت إعلان هذه البيانات، كان النظام السعودي، بقيادة ولي العهد (محمد بن سلمان)، قد بدأ في سحب نفسه من المستنقع اليمني، لذلك لم يتم استقبال الموقف الأمريكي الجديد بالعِداء من الرياض كما كان متوقع؛ بل تم "ترحيبه" رسمياً على أمل أن تساعد المشاركة الدبلوماسية الأمريكية في هذه العملية. و منذ ذلك الحين، انضم ليندركينغ بنشاط إلى المبعوث الخاص للأمم المتحدة (هانس غروندبرغ) في جهوده لإنهاء الحرب في اليمن، على الرغم من أن تأثير مشاركته لا يزال غير واضح.
كما جرت أيضاً تطوراتٍ رئيسية في أبريل/ نيسان 2022 مع إعلان (غروندبرغ) عن هدنة بين الحوثيين والتحالف الذي تقوده السعودية. (على الرغم من انتهاء صلاحية تلك الهدنة رسمياً في أكتوبر التالي، إلا أن القتال منذ ذلك الحين كان بصورة محدودة، ولم تقُم كل من السعودية والإمارات بشنِّ ضرباتٍ جوية ضد الحوثيين.) و بعد أيام قليلة من إعلان غروندبرغ، تم استبدال الرئيس اليمني للحكومة المعترف بها دولياً (IRG) )عبد ربه منصور هادي)، الذي تشبث بهذا المنصب منذ عام 2012، بشكل غير رسمي بمجلس قيادة رئاسي (PLC) في اجتماع في الرياض استضافه (محمد بن سلمان).
وكما هو الحال مع بيان الاستقالة الذي أعلنه رئيس الوزراء اللبناني (سعد الحريري) في الرياض عام 2017، فقد تمت قراءة استقالة هادي في ظروف توحي بالإكراه.
و يتألف المجلس الرئاسي الحالي من ثمانية رجال -يترأسهم (رشاد العليمي)، وزير الداخلية السابق الذي تولى الرئاسة، وقادة الفصائل العسكرية المعارضة للحوثيين كنواب رئيسيين، بعضهم متحالف مع السعوديين والبعض الآخر مع الإماراتيين. و عند تسليم سلطته، أعطى هادي لهم ولاية يقومون بموجبها بالتفاوض "مع (أنصار الله) الحوثيين للوصول إلى هدنة دائمة في الجمهورية اليمنية والجلوس على طاولة المفاوضات للوصول إلى حلٍ سياسي نهائي وشامل يشمل مرحلة انتقالية تقوم بنقل اليمن من حالة الحرب إلى حالة السلام".
و كما كان متوقعًا، نظرًا لتكوين المجلس، قضى أعضاؤه بعد ذلك مزيدًا من الطاقة في الخلافات بينهم بدلاً من محاربة الحوثيين.
و كان التطور الرئيسي الآخر في وقت لاحق من عام 2022 هو بدء المفاوضات المباشرة والمُعترف بها علنًا بين السعوديين والحوثيين، مما أدى إلى التهميش الفعلي لكل من العملية التي ترعاها الأمم المتحدة والمجلس الرئاسي اليمني، ولكن فتح المجال للوساطة العمانية. و خلال معظم عام 2023، تقدمت تلك المحادثات بعلامتين رئيسيتين: في أبريل/ نيسان، قام وفدٌ سعودي كبير بزيارة رسمية إلى صنعاء، العاصمة التي يسيطر عليها الحوثيون، تليها في سبتمبر/ أيلول زيارة عودة إلى المملكة من قبل كبار الحوثيين.
و في كلا الحدثين، ترددت شائعات واسعة الانتشار بأن هناك اتفاقًا على وشك التوصل إليه. و في الواقع، تم استدعاء أعضاء المجلس الرئاسي إلى الرياض في هذين الحدثيم لإبلاغهم بالوضع، بدلاً من استشارتهم. وبالمثل، تم إبلاغ المبعوث الخاص للأمم المتحدة بالتطورات على الأكثر.
و تضمن مشروع الاتفاق هدنة لمدة ستة أشهر، تليها ثلاثة أشهر من المناقشات الداخلية في اليمن استعدادًا لمرحلة انتقالية تستمر عامين. وكان تنازل الحوثيين الرئيسي هو أن يوقع السعوديون باعتبارهم "وسطاء" بدلاً من "مشاركين"، مما يقلل من احتمال توجيه تُهم جرائم الحرب للرياض نتيجة لحملتها القصفية المدمرة خلال السنوات السابقة في الصراع.
و بالمقابل، وافق السعوديون على دفع رواتب جميع موظفي الحكومة، بما في ذلك العسكريين والأمنيين التابعين للحوثيين، لمدة لا تقل عن ستة أشهر. وكانت النتيجة المتوقعة ستكون حدثًا حيث يوقع الحوثيون والمجلس الانتقالي الجنوبي، اللذان سيتكبدان خسائر كبيرة جراء مثل هذا الاتفاق، بما في ذلك الدعم السخي من السعودية، كمشاركين في وثيقة يشهدها السعوديون ومن المحتمل أن يكون العمانيون وسطاء. وكان من المقرر أن يكون ذلك توثيقًا رسميًا لانسحاب المملكة العربية السعودية من الصراع في اليمن، مع ترك المهمة الأكثر صعوبة لوساطة الأمم المتحدة في معالجة الصراعات الداخلية في اليمن.
ومع ذلك، أدت التطورات الأخيرة في البحر الأحمر إلى صعوبةٍ متزايدة في مواصلة المفاوضات، وحتى إتمام الاتفاق المعلّق. وقد تلا استيلاء الحوثيين على سفينة "غالاكسي ليدر" في 19 نوڤمبر/ تشرين الثاني سلسلة من الهجمات على السفن المرتبطة بإسرائيل، حيث زعم الحوثيون أنها تعبر عن تضامنهم مع المدنيين الفلسطينيين في غزة. و كانت ردة الفعل الأمريكية الأولية مترددة بشكل كبير وذلك بسبب أمل إدارة بايدن المتبقي في أن حدثًا علنيًا يؤكد "نهاية" الحرب في اليمن سيمكنها من الادعاء بتحقيق نجاح كبير في السياسة الخارجية في سنة الانتخابات.
و بينما تفسر هذه الآمال تحفظ واشنطن، إلا أنها لا تفسر سبب عدم استشارة الإدارة مع حلفائها الرئيسيين في أوروبا. ونتيجة لذلك، عندما أنشأت الولايات المتحدة عملية "حارس الازدهار" الغير فعالة في 18 ديسمبر/ كانون الأول، حصلت على دعم دولي ضئيل من قبل الدول الأوروبية الرئيسية التي أعلنت عن عملية خاصة بها في منتصف فبراير/ شباط 2024.
و في غياب اتفاق رسمي، أعلن المبعوث الخاص للأمم المتحدة غروندبيرغ في 23 ديسمبر/ كانون الثاني خريطة طريق نحو السلام تتضمن "التزام الأطراف بتنفيذ وقف إطلاق النار على مستوى البلاد، ودفع جميع رواتب القطاع العام، واستئناف صادرات النفط، وفتح الطرق في تعز وأجزاء أخرى من اليمن، وتخفيف المزيد من القيود على مطار صنعاء وميناء الحديدة، والاستعداد لعملية سياسية يمنية تديرها الأمم المتحدة".
و كان ترحيب المجلس الانتقالية الجنوبي بهذا الإعلان، لنقل أقل استجابة. وكانت الدول الإقليمية، ولا سيما المملكة العربية السعودية، أكثر إيجابية، وعبّرت الإمارات العربية المتحدة ومجلس التعاون الخليجي المكون من ست دول عن دعمهما.
و حاول غروندبيرغ تقدم خارطة الطريق الخاصة به، ولكن التصعيدات التي حدثت في البحر الأحمر تُهدد بشكلٍ متزايد هذه الجهود. و في 11 يناير/ كانون الثاني، قامت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بتنفيذ عملية "حارس الازدهار" ضد أهداف في الجزء البري من اليمن للمرة الأولى، وذلك بهدف تقليل قدرة الحوثيين على إطلاق الصواريخ والطائرات المُسيّرة. و في البداية، تم تقديمها على أنها "مرة واحدة"، لكن الضربات أصبحت تقريبًا يومية، وبحلول نهاية فبراير/ شباط، كانت قد استهدفت 230 موقعًا في جميع أنحاء البلاد.
ومع ذلك، لم يقل عدد هجمات الحوثيين. على الرغم من أن القليل من السفن تتعرض للضرب، وأن تلك التي تعرضت للضرب تكون قد تعرضت لأضرارٍ طفيفة فقط، إلا أن سفينة "روبيمار" التي تعود ملكيتها لبريطانيا تعرضت للضرب في 18 فبراير/ شباط غرقت بعد أسبوعين من مهاجمتها، ملوثة البحر بالأسمدة وتسرب نفطي ضخم. و لا يوجد أي علامة على انتهاء هجمات الحوثيين، و على الرغم من أسابيع الضربات، لا يزال المسؤولون الأمريكيون غير واضحين بشأن تأثيرها بسبب عدم وجود معلومات عن مخزونات الحوثيين من القذائف.
وفي الوقت نفسه، يدعم غالبية اليمنيين الإجراءات الحوثية في دعم فلسطين، حتى لو كانوا غير راضين عن حكم الحوثيين. و الدعم الوحيد المعلن للضربات الأمريكية والبريطانية داخل اليمن يأتي من اللجنة الانتقالية الجنوبية، حيث طالب عدد من قادتها بأن تكون الضربات مكملة بالتجهيزات والتدريبات والدعم العسكري الآخر لمحاربة الحوثيين وهزيمتهم بطريقة ما.
يُعتبر دعم الحوثيين للفلسطينيين، على نطاق واسع، أنه تصرف في الدفاع عن الفلسطينيين، ويبدو أن شعبية الحوثيين قد ارتفعت بشكل حاد على الصعيد المحلي والدولي، خاصة في الدول العربية والدول ذات الأغلبية المسلمة.
وفي حال تصعيد المشاركة الأمريكية والبريطانية في النزاع في اليمن، وهو احتمال يزداد واقعية بسبب الضربة القاتلة التي وقعت يوم الأربعاء، فإن الآفاق المتعلقة بتفاقم الوضع تتصاعد أيضاً، وتشبه بشكل متزايد ما حدث في العراق أو أفغانستان منذ عقود.
وفي حين يبدو أن المشاركة السعودية في حرب اليمن قد انتهت، وإن كانت بشكل غير رسمي، فإن اليمنيين يواجهون الآن احتمال تدخل دولي جديد في أزمتهم، إلى جانب تفاقم الوضع الاقتصادي والأزمة الإنسانية التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها "الأسوأ في العالم" بين عامي 2015 وحتى وقت قريب.
و للأسف، في ظل عدم وجود أي احتمال قريب لانتهاء الدمار المأساوي الذي تتعرض له غزة على يد إسرائيل، يبدو أن آفاق السلام في اليمن تبدو بعيدة بشكل متزايد.