في اليمن، حتى إنجاب طفل جديد يخضع بالدرجة الأولى للعادات والتقاليد الاجتماعية، فلا يتم الإنجاب وفق مشروع يتصوره الأب والأم معاً، بل كاستجابة لعوامل عديدة، معظمها عبارة عن ضغوط مجتمعية وأسرية، لتصبح هذه العملية المهمة، والتي من المفترض أن تُعد لأجلها خطة مكتملة لمواجهة ما يترتب عليه مجيء شخص للحياة، وتكاليف هذه الخطوة، نفسياً ومادياً، على الأبوين والطفل، مجرد حدث عشوائي يضيف أعباء معيشية على الأسرة وتكوينها، وله آثار تدميرية، أولها: أطفال لا يحصلون على الرعاية الكافية، وأمهات يتحولن إلى آلات إنجاب دون مراعاة أثر الأمر على صحتهن، وكل ذلك في سبيل إرضاء رجل يطيع مطالب الآخرين بوجوب الإنجاب سريعاً، وعدد كافٍ من الأطفال، بالإضافة إلى أن هناك سلوكا تمييزيا يتم بضرورة وجود جنس الذكور، لدرجة أن إنجاب إناث قد يدفع للمزيد من الإنجاب بحثاً عن ذكر، وإذا فشل الأمر، يذهب الزوج إلى الزواج أخرى، أو الانفصال عن زوجته، وهذه الإشكاليات، التي تبدأ بنوع اجتماعي معين، تتسع وتتراكم، لتصبح مشكلة عامة تصيب المجتمع والبلد
•الإنجاب بدافع التقاليد
في اليمن، ينجب الشخص ليس لأنه يرغب بالأمر، أو بسبب وصول الأبوين للكفاءة الكافية لإنجاب إنسان جديد، ورعايته، بل لأن المجتمع يطلب ذلك، وفي مقدمتهم أُسرتا الأبوين. هذا الإنجاب اللاواعي له آثاره ليس على الأبوين، والطفل الجديد فحسب، بل على المجتمع، والبلد بشكل عام.
عن هذا الأمر، تقول افتكار السحولي، وهي استشارية بمؤسسة المرآة الآمنة ورئيس قسم التدريب والإرشاد النفسي بقطاع المرأة: "كثرة الإنجاب تترك مشاكل عدة، اجتماعيا وعلى مستوى الدولة، ففي بلد يعاني من ضعف في الموارد، ولا يقدم الرعاية الصحية والتعليمية، تؤدي فيه زيادة السكان، إلى تراجع مستوى التأهيل العلمي والفكري مثلاً، وحتى إذا أستطاع الفرد تطوير ذاته، لا يجد الفرص التي يريدها، وهنا تكون النتيجة: مجتمعا لا ينتج ولا يقدم أي فاعلية".
أيضاً، هناك العديد من الأسباب العامة التي تدفع للإنجاب في اليمن، مثل رغبة الأبوين بوجود أبناء للاحتماء بهم عند بلوغ سن الشيخوخة، وما إلى ذلك. لكن، هناك أسباب اجتماعية بالإمكان وصفها بالبدائية قد ينجب الأبوان بسببها.
في هذا الشأن، تقول أشجان الفضلي، وهي أستاذ مساعد علم الاجتماع: "أحياناً، يتم إنجاب المزيد من الأطفال بسبب التقليد، على سبيل المثال: الأب يريد أن ينجب عددا موازيا للذي أنجبه أخوه الأكبر، وإذا جميع إخوته أنجبوا أكثر من خمسة أطفال، يريد أن ينجب نفس العدد، ويبحث عن ذلك، دون مراعاة مثلاً حتى لظرف زوجته، فقد تكون موظفة، بينما زوجات إخوته لا يعملن، على سبيل المثال". كما توجد أسباب كثيرة مشابهة، وأغلبها يفرضها المحيط الأسري على الأبوين.
•عادات تتحمل أعباءها المرأة
في الأساس، الإنجاب العشوائي تتحمل أعباءه الصحية المرأة، لأن إنجاب العديد من الأطفال يسلبها صحتها. كما أن الأمر يتضاعف سوءاً في اليمن، بسبب عادة إنجاب المزيد، والذي يذهب إليه الأبوان، مدفوعين بعادة التفاخر بالخلفة الكافية.
عن هذا الأمر، وأثره الصحي على الأم، تقول الاستشارية الأسرية، ومدربة الدعم النفسي، افتكار السحولي: "الإنجاب المستمر يؤثر بشكل سلبي للغاية على صحة الأم، بل قد يصل إلى فقدان حياتها أثناء الولادة، لأن هذه المسألة تستنزف كامل طاقتها وصحتها، ففي كل حمل، تفقد الأم جميع العناصر الغذائية الموجودة في جسدها، وهذا يؤدي إلى ضعف عام، وتصبح حتى غير قادرة على أداء المهام اليومية المتوجب عليها أن تقوم بها، هذا بالإضافة إلى أنها تكون عرضة للإصابة بجلطات القلب والمخ، وكذلك سرطان الرحم، وفقر الدم، وغيرها من الأمراض".
صحيح أنه في حالة الإنجاب الزائد تقع الأعباء على صحة المرأة، لكن أيضاً في حالة عدم الإنجاب تطرأ للمرأة مشكلة، كذهاب الرجل للزواج بالثانية.
في هذه المسألة، تتحدث افتكار السحولي قائلة إن هذه العادة الاجتماعية تتطلب الكثير من التوعية، والعمل على المدى الطويل لتغيير فكرة مترسخة منذ سنين، والذي تقوم على ضرورة الإنجاب. لكن، مبدئياً، حتى لا يتم التسرع في ظلم المرأة، "يجب التوعية بأن تأخر الإنجاب قد يكون بسبب سلوكيات بسيطة، وليست مشكلة جذرية عند أحد الأبوين، فمن الممكن مراجعة مختص، وإجراء فحوصات، وكذلك التوعية بفترات التبويض، وأهمية الصحة النفسية، والغذاء، والتوعية بأن هذه المسألة تعود للقدر الإلهي".
لا تقتصر العادات على إنجاب المزيد، بل هناك سلوك منتشر في اليمن، وهو سلوك تمييزي في ذاته، يتمثل في ضرورة إنجاب ذكور، وإذا تم إنجاب أناث، يتم إنجاب المزيد بحثاً عن ذكر.
تقول الإخصائية الاجتماعية أشجان الفضلي: "يعود ذلك الأمر إلى ترسخ فكرة أن الرجل يسند العائلة، بينما المرأة تضيف أعباء على العائلة. وهذه أسباب ثقافية، وتترك آثارا على الأم، التي تعيش تحت ضغط، وشعور بالتهديد من إنجاب إناث، بل قد يدفعها لكراهية بناتها، جراء التوتر الذي تعيشه، لأن إنجاب إناث قد يدفع الزوج إلى الزواج بالثانية، وكذلك يمتد الأثر إلى الطفل ذاته، فعندما تشعر البنت بأن مجيئها لم يكن مرغوبا فيه، يفقدها الثقة والاستقرار والشعور بالانتماء، وما يضاعف المشكلة أن هذه العادات يتم ممارستها وكأنها شيء عادي، وطبيعي".
•أطفال بلا مستقبل مدروس
هذه التقاليد الاجتماعية التي تضغط بالإنجاب، تولد العديد من المشاكل، بعضها يواجهه الأطفال في المستقبل، وهناك مشاكل أخرى تطرأ أثناء الطفولة.
عن ذلك تقول أشجان الفضلي: "بالتأكيد هذا الانفجار السكاني ينتج العديد من المشاكل، وجميعها تعود إلى الظروف الاقتصادية للبلد، والتي تؤثر على مستوى دخل الأسرة، وبذلك تصبح الأسرة غير قادرة على تلبية احتياجات هؤلاء الأطفال الأساسية، بل إنه مؤخراً وصل إلى مستوى التغذية، فعندما يفتقر الطفل إلى التغذية الجيدة، تتأثر مناعته، مما يجلب له العديد من الأمراض، ناهيك عن الآثار المستقبلية، كالافتقار للتأهيل والتعليم، وكذلك الأثر النفسي كالشعور بالحرمان".
في نفس السياق، تؤكد المتخصصة افتكار السحولي أن الإنجاب العشوائي لا يؤثر على الطفل فحسب، بل على المجتمع ككل، قائلة بأنه يساعد في زيادة معدلات الفقر والأمية والجهل وعمالة الأطفال والعشوائيات والأمراض النفسية والعنف الأسري والمجتمعي واختلال الاستقرار الأمني...
•غياب الوعي بالمشكلة
ما يجعل الأمر مقلقا حقاً، أن المشكلة المتجذرة في المجتمع لا يبدو أن هناك حلولا لها، في المدى القصير على الأقل. كما أن هذه المشكلة تتفاقم في الوقت الحاضر.
تقول أشجان الفضلي: "الإنجاب المستمر يؤثر في كل شيء، فالازدحام منتشر على كل المستويات؛ في المقاعد الدراسية والطرقات والمدن، والمستشفيات... كما أنه في العصر الحالي تضاعفت مشكلة زيادة الإنجاب بسبب زيادة المهام، فالأم مثلاً أصبحت مشتتة بين العمل والأسرة، والمسؤوليات الاجتماعية". وتضيف الفضلي أن هذا يتطلب القيام بالتوعية الشاملة على عمل فواصل بين إنجاب طفل وآخر، وأن إنجاب القليل مهم لكي يتلقى الطفل الرعاية، وينمو بشكل سليم، وبالتالي ينعكس ذلك على المجتمع ككل.
ولأجل تغيير عادة وسلوك غير صحي بالمجتمع، تقول افتكار السحولي: "لا بد من وجود توعية حول الإنجاب ضمن برامج الجهات ذات العلاقة والمختصة بمجال الصحة والأسرة، وإقامة دورات تدريبية وحلقات نقاشية وورش عمل ومحاضرات ولقاءات موسعة لمجالس الآباء والأمهات في المدراس، وعبر قنوات التواصل الاجتماعي والإعلام المختلفة وخطباء المساجد، لنشر الوعي في مجال الأسرة والصحة الإنجابية".
في النهاية، لا تعتبر مسألة الصحة الانجابية أمرا ثانويا، بل ركيزة أساسية في إنشاء مجتمع متحضر، يدرك مخاطر الإنجاب العشوائي، والذي لا يراعي الوضع الصحي للمرأة، ولا مستقبل الطفل ذاته، ولا حتى الوضع العام للبلد، فمن المهم العمل على برامج عامة تعزز مفهوم الصحة الانجابية، والخلفة المخطط لها، وتكريس هذه الأفكار بكل الوسائل، حتى ينعكس الأمر على أرض الواقع، فكل فرد يأتي بطريقة سليمة لا تضر بصحة الأم، ولا بوضع الأسرة، ويتلقى الرعاية الجيدة، وينمو بشكل سوي، يثمر الأمر على مستوى المجتمع، ومستقبل البلد بشكل عام.
* تم إنتاج هذه المادة ضمن مخرجات برنامج التغطية الإعلامية الجيدة لقضايا الصحة الإنجابية والعنف القائم على النوع الاجتماعي، الذي ينفذه مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي بالشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان.