تعرّف أشرف، في 2021، خلال فترة تفشّي جائحة كورونا، إلى أساتذة جامعيين وطلاب هندسة يمنيين يقدّمون المساعدة لطلاب سعوديين عبر الإنترنت مقابل مبالغ مالية، الأمر الذي شجعه على الانضمام إلى مجاميع تهتم بالهندسة، على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وواتساب، وتليغرام. وهكذا، أنشأ شبكة علاقات مع مهندسين وممثلي مكاتب هندسية سعودية، وعثر على فرص تمثّلت في طلبات لعمل تصاميم هندسية ضمن تخصصه.
يقول مستذكراً: "بمرور الأيام، تعرفت على الكود السعودي الخاص بالبناء، وأنجزت العديد من التصاميم الإنشائية مقابل مبالغ مالية، فالعملاء ينشرون طلباتهم الخاصة بالتصاميم في مجاميع خاصة على واتساب وتليغرام، وأنا حريص على الاطلاع عليها والتواصل مع طالبيها". والكود السعودي الذي تحدث عنه أشرف، يعني طريقة البناء في المملكة العربية السعودية، وما تحدده البلدية من شروط تتعلق بالبناء، وهي تختلف من بلد إلى آخر.
ويلفت إلى أنه يبذل جهوداً كبيرةً في إنجاز تلك التصاميم، لأنها تختلف عن التصاميم اليمنية من نواحٍ عدة، يبيّنها قائلاً: "علينا أولاً فهم الاشتراطات الخاصة بالبناء وفق الكود السعودي، مثل الارتدادات من جهة الشارع، ومن جهة الجار، والارتفاعات الخاصة به، وأيضاً ارتفاع الملحق العلوي الذي ينبغي ألا يزيد عن 3.60 متراً وهذا شرط أساسي تضعه البلديات في السعودية".
وعن سبب لجوء مكاتب هندسية سعودية إلى مهندسين يمنيين يضعون لها التصاميم، يقول أشرف: "لأن الأجور التي نطلبها قليلة، بسبب فارق العملة، وأوضاعنا الاقتصادية الصعبة تجعلنا في بعض الأحيان نقبل العمل بأقل الأجور الممكنة".
ولم تتسنَّ لنا معرفة أسعار التصاميم الكاملة التي تبيعها تلك المكاتب لعملائها في السعودية، إذ إنها تتفاوت من مكتب إلى آخر، لكن وبحسب مهندس سعودي تواصلنا معه، ذكر أن متوسط الأسعار للتصميم المعماري لطابق واحد عن طريق الإنترنت يبلغ 800 ريال (213 دولاراً)، وقد يصل إلى 2،500 ريال (666 دولاراً).
أما عن التصميم الإنشائي لطابق واحد فقط عن طريق الإنترنت، فيبلغ متوسط الأسعار 2،100 ريال (560 دولاراً)، وقد يصل إلى 2،250 ريالاً (600 دولار).
والفرق بين التصميمين المعماري والإنشائي، أن الأول يتعلق بالتقسيمات والتفاصيل المعمارية والواجهات، أما الثاني فيتعلق بأساس المبنى، وتصاميم القواعد والأعمدة والرقاب والجسور والسقوف.
وبالعودة إلى أسعار التصاميم في السعودية، يبلغ سعر التصميم الداخلي الثلاثي الأبعاد (3D)، أكثر من 20 ريالاً (5.33 دولاراً) للمتر المربع الواحد، وسعر تصميم واجهة بيت أو فيلا، يصل إلى 2،500 ريال (666 دولاراً). وفي جميع الأحوال، فهي تعادل أضعاف ما يتقاضاه أشرف وزملاؤه الذين يبيعون تصاميمهم عبر الإنترنت، فأعلى أجر يتقاضونه عن تصميم بناء كامل بطوابق عدة هو 1،500 ريال سعودي (400 دولار).
•غياب الدور النقابي
تبلغ مدة دراسة الهندسة في اليمن قبل حصول الطالب على شهادة البكالوريوس، خمس سنوات، والجامعات التي تمنحها في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين هي جامعات إب وصنعاء وذمار، بينما الجامعات التي تمنحها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دولياً هي جامعات عدن وحضرموت وتعز، وأبرز أقسامها هي الإنشائية والمعمارية والاتصالات وتقنية المعلومات.
ومن الصعب معرفة أعداد المهندسين الذين يمارسون مثل أشرف وزملائه الـ"هندسة أونلاين"، وذلك نتيجة غياب دور نقابة المهندسين، إثر تدهور أعمال النقابات اليمنية بفعل الحرب. وأخبرنا العديد من المهندسين الذين تواصلنا معهم أنهم ليسوا بحاجة في أي حال إلى إخطار النقابة بما يقومون به، لأنه يتعلق بجهودهم الذاتية الخالصة من دون عون أو مساعدة من أي جهة رسمية أو غير رسمية.
عضو نقابة المهندسين اليمنيين في العاصمة صنعاء، المهندس عمرو العاقل، ذكر لرصيف22، أن "الحرب قلبت حياة المهندسين رأساً على عقب، فهم أكبر شريحة تأثرت بها، وكثيرون منهم غادروا البلاد خصوصاً مَن يمتلكون الخبرة، سواءً من حملة شهادة الدكتوراه في الهندسة أو البكالوريوس. البلاد باختصار أصبحت طاردةً للمهندسين".
وقال إن عدد المهندسين في اليمن يتجاوز الـ20 ألفاً، من جميع التخصصات، لم يبقَ منهم في البلاد سوى ما يقرب من 40% فقط، "بعضهم يعمل أونلاين والبعض الآخر في مهن أخرى في القطاع الخاص ويعيشون في المجمل ظروفاً قاسيةً، ويشهد الله أن وضع المهندس مزرٍ".
أما عن وضع نقابة المهندسين في الوقت الراهن، فيبيّن أنه "مزرٍ كذلك: رئيس النقابة سافر إلى مصر، وكثر من أعضائها هاجروا إلى دول أخرى، ويمكن عد غالبيتهم من المشرّدين في تلك الدول، أما مبنى النقابة، فتُستخدم غرفه حالياً كمكاتب شخصية"، من دون أن يحدد الجهة أو الأشخاص الذين يتخذون غرفه مكاتب شخصية لهم.
ويؤكد العاقل الحاجة إلى إعادة ثقة المهندس اليمني بالنقابة من خلال تفعيل عملها مجدداً، و"صياغة قانون اعتماد مزاولة مهنة الهندسة الذي يسمح للمهندس الجديد بالحصول على التدريب والخبرات وإيجاد العمل المناسب لخبراته ومؤهلاته".
أحمد صبري (40 سنةً)، مهندس معماري وأب لسبعة أبناء، كان عمله قبل نشوب الحرب يشهد تقدماً مستمراً، إذ كان يعمل في مكتب هندسي في مدينة تعز جنوب غرب اليمن، ويملك شبكةً واسعةً من العلاقات مع مقاولي بناء، مكّنته من العمل في العديد من المشاريع الخاصة والعامة، غير أن تداعيات الحرب أجبرته على الانضمام إلى صفوف العاطلين عن العمل على غرار مئات الآلاف من المواطنين الذين فقدوا أعمالهم ومصادر دخلهم.
يقول لرصيف22: "بدأت العمل أونلاين لصالح عملاء في السعودية العام الماضي، وساهم هذا بشكل كبير في التخفيف من معاناة أسرتي، فقد تمكنت أخيراً من تأمين متطلبات الحياة اليومية لهم على الرغم من قلة الأعمال التي أحصل عليها، لكوني جديداً على هذا الأسلوب من العمل".
لكن عمل "الهندسة أونلاين"، ليس خالياً من المنغصات والمصاعب وفقاً لأحمد، ففضلاً عن المعاناة التي يتكبدها للحصول على أجوره بسبب العوائق المصرفية، يقول إنه يتعرض في بعض الأحيان للسرقة، لا سيما إذا كان العميل مجرد شخص وليس مكتباً هندسياً، إذ يقوم البعض وبمجرد استلامهم التصاميم المنجزة، بحظر التواصل من دون تسديد ما عليهم، "والبعض الآخر يقولون إنهم لم يقتنعوا بالتصميم الذي استلموه، وإنهم يريدون استبداله بآخر، ولا يمكننا طبعاً معرفة إنْ كان ذلك صحيحاً أو لا".
ومن المشكلات الأخرى التي يتحدث عنها أحمد "ضعف شبكة الإنترنت، وانقطاع الكهرباء، فنحن نستخدم الطاقة الشمسية وهي في معظم الأحيان لا تفي بالغرض خصوصاً في الأيام التي تكون فيها الغيوم كثيفةً، أو عند هطول الأمطار الموسمية في فصل الصيف، فنضطر إلى انتظار عودة الإنترنت لأيام عدة في بعض الأحيان".
•توقف المشاريع
الخبير الاقتصادي رشيد الحداد يذكر لرصيف22 أن جميع قطاعات الأعمال في اليمن تراجعت منذ السنة الأولى للحرب، وتوقفت عشرات المشاريع الخدمية كإنشاء الطرقات وبناء المدارس والمستشفيات وغيرها، وذلك بسبب توقف إسهام البنك الدولي وعدد من الدول المانحة في تنفيذ تلك المشاريع، بالإضافة إلى حالة الانكماش التي أصابت قطاع البناء والتشييد، لتوقف عشرات الشركات العاملة في مجال المقاولات، وارتفاع معدلات المشاكل المتعلقة بالأراضي ووضع المزيد من القيود على بيع العقارات وشرائها، ما أدى إلى تقلص حاد في فرص العمل وتفشي البطالة والفقر، ويستدرك: "الأزمة عصفت بجميع الشرائح وليس فقط بالمهندسين، مع أنهم من بين أكبر المتضررين".
المهندس الإنشائي حمود عسكر (46 سنةً)، واحدٌ من بين المهندسين الذين تسببت لهم الحرب بمعاناة كبيرة، فقد كان يعمل موظفاً حكومياً في قطاع الإسكان في محافظة الحديدة، لكن المعارك ومن ثم توقف صرف الرواتب الحكومية بدءاً من أيلول/ سبتمبر 2016، جعلاه يختبر حياة الفقر مع زوجته وأطفالهما التسعة، ويخوضون معاً تجربة النزوح إلى مدينة إب.
يقول لرصيف22: "كانت حياتنا مستقرةً، بل أستطيع القول إنها كانت مرفهةً، وكان راتبي الشهري يصل إلى أكثر من 300 ألف ريال يمني، أي ما كان يعادل 1،200 دولار أمريكي وفق سعر صرف الدولار وقتها، ناهيك عن الحصول على بدل السكن والزيادات الشهرية وغيرها من الخدمات التي كانت توفرها الدولة للمهندسين الحكوميين".
غير أن ذلك أصبح من الماضي، فهو اليوم يعمل سائقاً لحافلة صغيرة داخل مدينة إب، ولا يكاد يغطي حاجة أفراد أسرته من الطعام، ويترقب مثل كثيرين غيره أن تستقيم الأوضاع في البلاد، ويعود لمواصلة وظيفته ومهنته الهندسية التي يفتقدها.
أما محمد حمود (36 سنةً)، وهو مهندس معماري من مدينة إب، ووالدٌ لثلاثة أطفال، فقد كان يعمل في مكتب هندسي خاص في مدينته، لكنه اضطر إلى مغادرتها بعد أن سيطر الحوثيون عليها في 2014، وانتقل إلى عدن ووجد هناك في 2018، بعد طول انتظار، فرصة عمل في مكتب هندسي.
يقول لرصيف22، إنه محظوظ لأنه يعمل في مجال تخصصه في حين أن كثيرين من زملائه الذين يعرفهم أجبرتهم الظروف على العمل في مهن أخرى. لكن ما يتقاضاه بالكاد يغطّي تكاليف المعيشة اليومية لأسرته الصغيرة، ويضيف: "أتقاضى 350 ألف ريال شهرياً، علماً بأن كلفة سلة الغذاء المكونة من الدقيق والسكر والملح وزيت الطبخ تصل إلى 100 ألف ريال، وهي لا تكفي سوى لأيام قليلة فقط".