للنزاع تأثيرٌ مدمرٌ على التعليم؛ فهو عاملٌ رئيسي في الحد من الوصول إلى التعليم الجيد، وله، أيضا، تأثيرٌ سلبي على الصحة العقلية وعلى الإنتاجية لدى الأطفال والفتيان.1 هذا؛ علاوة على أنه يفكك التماسك الاجتماعي، ويفاقم من حالة عدم المساواة في المجتمعات.2 وإذا طرحنا هذه التأثيرات الناتجة عن النزاعات جانبًا لننعم النظر في جوانب أعمق وأدق، فإننا نجد أن ثمة دراسات قد أخذت تنأى عن النظر إلى النزاع بوصفه عقبة أمام توفير التعليم؛ وتتجه، عوض ذلك، نحو سبر أغوار ما يمكن وصفه بـ«العلاقة المربكة» بين النزاع والتعليم.3 ووفقًا لهذا النهج من النظر، فإنّ من شأن الممارسات التعليمية التي تعزِّز القمع الثقافي وتعمد إلى التلاعب بالثقافة والتاريخ من أجل خدمة أهدافٍ سياسية – من شأنها أن تولِّد العنف وتعزِّز حالة عدم المساواة في المجتمع.4
في الآونة الأخيرة، أدخل الحوثيون، المعروفون أيضًا باسم أنصار الله، تغييراتٍ جديدة على الكتب المدرسية التي يتم تدريسها في التعليم الابتدائي في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم. تعبِّر التغييرات عن آرائهم الأيديولوجية والدينية والسياسية.5 وهو أمر يمكن توقعه، ففي أثناء النزاعات، عادة ما يتم تسييس التعليم بصورة متطرفة، ويصير المعلمون والمدارس والطلاب أسلحة وأهدافًا للحرب.6 وقبل هذه الحرب ظل المشهد الديني والسياسي في اليمن في حالة اضطرابٍ خلال العقود القليلة الماضية.7 وفوق ذلك، فقد كانت اليمن قبل عام 1990 منقسمة إلى دولتين مختلفتين، جنوبية وشمالية، وكانت الأولى تدار من طرف قيادة شيوعية، أما الثانية، فقد كانت تابعة للمعسكر الليبرالي الرأسمالي. في الشمال وبعد سقوط الإمامة الزيدية8، توسَّع الإسلام السني9 والسلفي10 حتى في المناطق التي ينتمي إليها أتباع المذهب الزيدي. وشملت الأنشطة إنشاء مدارس دينية لم يكن إنشاؤها يتطلَّب موافقة رسمية. في عام 2000، كان هناك في اليمن 1200 معهدٍ ديني بها 600000 طالب.11 كانت هذه المعاهد مدعومة من قِبَل الأحزاب السياسية والحكومات المتعاقبة، ومنها المعاهد العلمية، التي كانت تدرِّس المذهب السني، ويرعاها حزب الإصلاح12، بدعمٍ من الحكومة المركزية والمملكة العربية السعودية. كما انتشرت المدارس السلفية في جميع أنحاء اليمن، ومنها مدرستهم الشهيرة المعروفة بـ «دار الحديث» التي أُنشئت في محافظة صعدة التي تعد من أهم معاقل الزيدية في البلد. وقد رأى الزيديون في صعدة أن هذا التوسُّع السلفي بمثابة حربٍ تشن على مذهبهم الزيدي.
لقد شكَّل إنشاء المدارس السلفية في المناطق الزيدية تهديدًا للمناطق التي يسكنها أغلبية من الزيديين. زاد هذا التهديد من اهتمام أتباع الطائفة الزيدية بالتعليم كآلية دفاعية للحفاظ على هويتهم الدينية. إضافة إلى ذلك، بعد ثورة عام 1962 في شمال اليمن ضد الإمامة، تم إقصاء الأسر الحاكمة من الهاشميين13 وتجريدهم من السلطة، مما جعلهم يشعرون بالمظلومية.14 شهد عام 1990 تأسيس حزبين إسلاميين زيديين، الحق واتحاد القوى الشعبية، إلى جانب المعاهد والمعسكرات التعليمية15 التي سيكون لها دورٌ فعَّالٌ في عسكرة التعليم. التسلُّل الديني والإقصاء السياسي والاقتصادي وغياب الخدمات الحكومية في صعدة، صارت كلها من العناصر التي ساعدت حسين الحوثي، زعيم جماعة أنصار الله، على خلق حركة متطرفة عند عودته من رحلاته التعليمية الأكاديمية والدينية في إيران والسودان.16
ليس من المُستغرب إذن أن ينشر الحوثيون التعليم لتعزيز هويتهم وشرعيتهم منذ اندلاع النزاع عام 2015، عندما أعلن التحالف الذي تقوده السعودية حربه ضد الجماعة، حيث حشد الصراع الخلافات العقائدية (الإسلام الزيدي-الشيعي مقابل الإسلام السلفي والسني) كبيئة أخرى للحرب.17 تعمل التغييرات التي أُدخلت على الكتب المدرسية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين على «ترسيخ الهوية الدينية»18 وتعزيز مزاعم محاربة الإمبريالية الغربية وعملائها الإقليميين والمحليين. بالإضافة إلى ذلك، يفرض الحوثيون ممارساتٍ معينة في المدارس مثل حظر الاختلاط بين الجنسين، واستبدال الأغاني والأناشيد الترفيهية بشعارات الحوثيين وبالأناشيد الدينية.19 تعكس التغييرات الجديدة الطموحات السياسية والأيديولوجية للجماعة، وتسعى إلى إقامة معرفة خطابية مهيمنة لتشكيل نظامٍ عامٍّ وسياسي يعمل على تطبيع العنف والصراع وإضفاء الشرعية على الرؤية الأيديولوجية والسياسية للحوثيين.
يلجأ هذا التقرير إلى التحليل الموضوعي لهذه التحولات عن طريق استخدام المنهج النوعي. فهذا المنهج يتيح للباحث تناول التفصيلات والتشعبات المتصلة بالموضوعات التي تنطوي عليها المادة الخام من البيانات المجموعة.20 ويهدف البحث إلى استكشاف كيف يمكن لهذه التغييرات التي استحدثت في الكتب المدرسية في شمال اليمن أن تؤدي إلى تصعيد الصراع وإضعاف الجهود المبذولة لتحقيق السلام. ومن أجل هذه الغاية، فقد عمد الباحث إلى تحليل 57 كتابًا مدرسيًّا من الصف الأول إلى التاسع (الفئة العمرية من 7-16 عامًا) في الموضوعات التالية: الدراسات القرآنية، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية، والدراسات الاجتماعية (التي تشمل الجغرافيا والتاريخ).
•الوجه السلبي للتعليم
تمثِّل الكتب المدرسية الشكل الرئيسي لبث الروح المجتمعية، وتُستغل بوصفها «تَدَخُّلًا» واسع النطاق بين «الثقافة المقبولة» للسلطة والطلاب.21 ويفترض في الكتب المدرسية أن تكون ذات صلة بالواقع وأن تكون محل ثقة المجتمع.22 أما التعليم ذو التوجه السياسي، فإنه غالبا ما يكون إقصائيًّا؛ وذلك أنه يفشل في تمثيل الهويات الوطنية الجماعية المختلفة. وقد يكون من شأن التعبئة السياسية من خلال التعليم أن تؤدي إلى تعزيز الانقسام الاجتماعي، وتؤدي في نهاية المطاف إلى العنف ضد مجموعات معينة، وزيادة العنف ذي الصيغة البنيوية الشاملة.23 والعنف البنيوي هو «حالة تكون فيها القوى غير المتكافئة والقمعية والعنصرية كامنة في بنيات المجتمع المختلفة».24 إن العنف ليس استجابة طبيعية لحالة لاختلاف المجتمعي، ولكنه نتيجة من نتائج انعدام الإطار القيمي الجامع ولمراوغة النخب الاجتماعية والسياسية التي يفترض فيها أن تكون المبادرة إلى إصلاح النظم التعليمية. وعلى سبيل المثال، وكما لوحظ في أماكن أخرى، فإن تدريس مادة التاريخ للتلاميذ يمكن أن يكون وسيلة من وسائل إنشاء صورة معينة بخصوص الهوية الذاتية أو بناء مجتمعات متخيلة اعتمادا على سرديات تقدّم بخصوص «الآخر».25 ويمكن تعزيز ذلك من خلال التأكيد على «الهويات الطائفية التي تقدِّم صورًا سلبية ونمطية عن الآخر، وتطبيع تفوُّق مجموعات معينة أو كونهم ضحايا».26
ويمكن ملاحظة هذا الاتجاه في التوظيف الأيديولوجي للتعليم في واقع اليمن اليوم. خلال السنوات الأربع الماضية، خضعت الكتب المدرسية المستخدمة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين لتغييرات أيديولوجية وسياسية. تمتلئ الكتب المدرسية بالمواد التي تروِّج للنزاعات الصفرية (طرف الحق المطلق/ طرف الباطل المطلق)، وهذا الطرف الأخير ينبغي أن يكون الخاسر ويجب القضاء عليه. والواضح أن هذا النهج من التعليم يستهدف غرس قيم معينة وتوجيه مسار التنشئة الاجتماعية السياسية وزرع الطاعة. في الآونة الأخيرة، مع تحرُّك اليمن نحو الحوار والمفاوضات، تشير العديد من الديناميات السياسية إلى رغبة التحالف في التحرك نحو التخلي عن الصراع. ومع ذلك، فإن التغييرات من قبل الحوثيين، بما في ذلك في مجال التعليم، تشير إلى رؤية طويلة المدى تغيب عنها آفاق السلام، وربما تكون مدفوعة بالرغبة في الاستمرار في التشبث بالسلطة السياسية في الشمال. قد يكون لهذه التغييرات آثارٌ بعيدة المدى على الأطفال، الذين هم بذور أي احتمالاتٍ للسلام؛ خاصة عندما لا تتردد الأطراف المتصارعة في تجنيد الأطفال.27. تبحث الأقسام الأربعة التالية في بعض الطرق التي تم بها تغيير الكتب المدرسية لغرس أفكار الأيديولوجية المختارة.
•تكوين صورة ذاتية إيجابية
يدَّعي الحوثيون أن لهم حقًّا إلهيًّا في حكم «الأمة»، في إشارة إلى الأمة الإسلامية، والزعامة في جميع مجالات الحياة. جاء ذلك ضمن الوثيقة التي أصدرها زعيمهم عبد الملك الحوثي عام 2012، التي تسلط الضوء على:
«أننا نؤمن أن الله تعالى اصطفى آل بيت الرسول وجعلهم مرشدين للأمة وورثة للكتاب المقدس بعد رسول الله حتى يوم القيامة، وأن الله في كل زمن يقيض علمًا من أعلام الهدى ليكون نورًا هاديًا لعباده، قادرًا على قيادة الأمة ومناصرتها في كل حاجاتها».28
والتغييرات الجديدة في الكتب المدرسية تؤكد هذه المعتقدات من خلال الاحتفاء بقادة الحوثيين الدينيين والسياسيين بوصفهم أحفاد النبي محمد (آل البيت)؛ والغرض من ذلك بناء صورة ذاتية إيجابية ولديها المشروعية في حكم البلد. تشيد التغييرات بجهود قادتهم ومقاتليهم، وتبجلهم باعتبارهم صناع التاريخ اليمني. في جميع الكتب المدرسية التي خضعت للتحليل، تصوِّر الكتب صورة إيجابية وبطولية للمقاتلين. وفي الوقت نفسه، تعطي الكتب صورة سلبية عن «الآخرين» الموصومين بـ«الخونة»، في إشارة إلى رجال الحكومة المعترف بها دوليًّا الذين يصورون بأنهم «باعوا أنفسهم مقابل المال للأمريكيين والسعوديين والإماراتيين والإسرائيليين». ويجد المرء أيضا مفرداتٍ مهينة، فخصوم الحوثيين يقدمون باعتبارهم منعدمي القيمة الأخلاقية، وأنهم يحاولون تدمير الثقافة اليمنية ومبادئها الإسلامية. يذكر كتابٌ مدرسي للغة العربية للصف السادس قصيدتين تمجِّدان بطولة «المجاهدين» في محاربة «الأذناب» (وهو مصطلحٌ مهينٌ يشير إلى الأطراف اليمنية الأخرى المنخرطة في الحرب والمدعومة من السعوديين والإماراتيين؛ ويستند هذا الوصف إلى فكرة أنهم امتدادٌ لقوى الأمريكيين والسعوديين والإسرائيليين). وفي الصف السابع، أُدخلت قصيدة عن آل البيت إلى كتاب الدراسات الإسلامية، تحثُّ الناس على اتِّباعهم، «فلن يضل من يتبعهم أبدًا».
تضفي هذه التغييرات طابعًا رومانسيًّا على الخطاب المتشدد المتخفي بزي إسلامي. على سبيل المثال، ترتبط كلمة «مجاهد» بالبطولة الإيجابية والفروسية للدلالة على أولئك الذين يقاتلون من أجل قضية إسلامية عادلة. كما ترتبط كلمة «شهيد» بالتضحية والإيثار في خدمة الإسلام وحماية الناس. تستغل الكتب المدرسية العلاقات الاجتماعية والأسرية، حيث يُصوَّر الجهاد على أنه واجبٌ يورثه الآباء للأبناء، وتُصوَّر الشهادة على أنها وراثية. على سبيل المثال، في كتاب مدرسي للغة العربية للصف الخامس، توجد صورة لأبٍ مع ولديه يطلقون النار باستخدام البنادق، مما يطبع فكرة أن الأطفال يجب أن يتبعوا خطوات آبائهم. وفي كتاب الدراسات القرآنية للصف السابع، تم توظيف سورة كاملة لشرح بطولة المشاركة في الجهاد للدفاع عن الوطن والضعفاء من الغزاة والخونة (الذين يُعتبَرون في هذه السردية خونة للمسلمين لأنهم يتبعون الأمريكيين والإسرائيليين).
ومن المثير للقلق مدى إصرار هذه التغييرات الجديدة على تمجيد «الجنود الأطفال». في العديد من المناسبات، يوصف بوضوحٍ كيف يتمكَّن الأطفال من تدمير الأهداف الإستراتيجية، وتحويل ميزان القوى في المعركة إلى صالح الحوثيين. على سبيل المثال، في كتاب مدرسي للغة العربية للصف السادس، توجد وحدة مكوَّنة من خمسة دروسٍ تناقش «أعظم شهيد»، وهي قصة طفل جندي وُلِد في صعدة، تمكَّن من تدمير هدفٍ بتفجيرٍ انتحاري، مما أدَّى إلى تغيير مسار المعركة في نهاية المطاف.
•الهوية والقمع الديني
لطالما تمَّ التلاعب بالتعليم بشكلٍ عامٍّ لإفادة السلطات السياسية، لأنه يُعتبَر أداة أيديولوجية للتلقين ووسيلة يمكن التلاعب بها لترسيخ القيم، وتشجيع مواقف معينة إما للتغاضي عن العنف وإما زيادة تفاقمه.29 يمكن أن يتجلَّى هذا المعنى بوضوح من خلال ما تقوم به المناهج من بناء ذهني لصورة معينة للهوية وتقويض صور أخرى. فالتغييرات الجديدة في الكتب التي نتناولها في هذه المقالة تميل إلى تعزيز القمع الديني وتكريس فكرة تجانس الهوية. فهنالك حذف متعمد لبعض الأحداث والأماكن والشخصيات، مع استبدالها بأخرى تناسب السردية الهوياتية التي يقدمها الحوثيون. على سبيل المثال، ذُكر علي بن أبي طالب وفاطمة30 مِرارًا وتكرارًا، بينما حُذفت شخصيات إسلامية أخرى أو تم تقديم دورهم في التاريخ الإسلامي على أنه أقل أهمية، مثل عائشة زوجة الرسول، وأبي بكر، وعمر بن الخطاب، الذين يتبعهم ويحترمهم أهل السنة. بالإضافة إلى ذلك، هناك تركيزٌ على مثالية آل البيت واحترامهم في جميع الكتب المدرسية للصفوف الابتدائية. على سبيل المثال، ينص نصٌّ إسلامي للصف التاسع على أن السؤال الأول الذي يسأله الله يوم القيامة هو «هل تحب آل البيت؟»، كما يؤكد نصٌّ آخر على أن اتِّباع آل البيت فرضٌ ديني.
يهدف ادعاء الحوثيين بتمثيل آل البيت إلى بناء هويتهم بوصفهم أسمى مكانة، وإعطائهم حقًّا مقدسًا في اتِّباعهم وتقديس أفعالهم. وتذكر النصوص بعض قيادات الحوثيين المتوفين بوصفهم «شهداء»، في حين يتم محو الشخصيات الأخرى ممن لا ينتمون إلى آرائهم السياسية. علاوة على ذلك، يسعى الحوثيون إلى ترسيخ حقوقٍ دينية لا جدال فيها لتبرير التحصيل المفرط للأموال من اليمنيين. في كتاب الدراسات القرآنية للصف الثامن، استخدموا آية قرآنية للإشارة إلى أن ما أُخِذ في الحروب «كغنيمة» من دون قتالٍ يعود إلى آل البيت؛ ترسِّخ هذه التغييرات شرعيتهم السياسية كحقٍّ إلهي لا يجوز رفضه أو التفاوض بشأنه.
تعمل التغييرات الأخيرة في الكتب المدرسية على نشر الماضي القريب وتحويله إلى «ماضٍ نشط»، يمكن أن يكون بمنزلة نقطة انطلاق للشرعية السياسية. تناقش الكتب المدرسية الصراع المعاصر واستيلاء الحوثيين على صنعاء في عام 2014 كثورة ثانية، للتعبير عن «نقطة انطلاق» للتاريخ المكتوب من جديدٍ وتشكيل وجهات النظر السياسية للطلاب. على سبيل المثال، وصفوا الربيع العربي في 11 فبراير 2011 بالفشل، وقدموا يوم 21 سبتمبر 2014 على أنه ثورة تصحيحٍ، تلغي ما عداها. علاوة على ذلك، ذكرت الكتب المدرسية صعدة، العاصمة الأيديولوجية للحوثيين، أكثر من عدن وصنعاء، العاصمتين الاقتصادية والسياسية لليمن قبل 2015.
يقترح بعض العلماء أن استخدام «التاريخ، والأساطير، والذكريات، والروايات الدينية» يوفِّر الأساس لشيطنة «الآخر» كتهديدٍ للوجود،31 وإعادة تشكيل الصلات الاجتماعية المشتركة والإدراك. يمكن أن يؤدي هذا الإدراك الاجتماعي في النهاية إلى أعمال عنفٍ. سنرى خلال التحليل أن التاريخ، وخاصة التاريخ الإسلامي، احتلَّ جزءًا كبيرًا من المناهج الدراسية، حيث تُدَرَّس هذه الموضوعات في الدراسات القرآنية والدراسات الإسلامية واللغة العربية وكتب الدراسات الاجتماعية. على عكس علم الأحياء أو العلوم، توفِّر هذه الكتب المدرسية مساحة لإعادة سرد الأحداث التاريخية، وحذف أحداث وشخصيات معينة، والتلاعب بالمعرفة المشتركة. ويوفر هذا فرصة قيِّمة للقوة المهيمنة للتلاعب بالمعرفة المشتركة وتوظيف الإدراك الاجتماعي لتحقيق مكاسب سياسية.
•تطبيع العسكرة والتشجيع على المشاركة في النزاعات
في منطقة حرب مثل اليمن، تم تطبيع النزعة العسكرية والعنف من خلال التعليم المدرسي. هذا التطبيع مُستمدٌّ من العقيدة العسكرية التي بموجبها يُعتبَر كل طفل جنديًّا محتملًا في المستقبل. تناقش النصوص العنف بشكلٍ صريحٍ، لكن من المثير للاهتمام أنه لم يتم شرح أسباب العنف أو عواقبه. كثيرًا ما يُقدَّم العنف بشكلٍ إيجابي، إما كاستجابة اجتماعية وعائلية طبيعية للنزاعات، وإما كجزءٍ من الممارسات اليومية. على سبيل المثال، في كتاب اللغة العربية للصف الخامس، يوجد درسان يتحدثان عن المقاتلين الجرحى وما هو متوقع من الأطفال تجاههم، كما لو كانت هذه ممارسة عادية يومية. علاوة على ذلك، تستخدم النصوص القصائد لتطبيع النزاعات. يسهل حفظ القصائد وترديدها حتى خارج المدارس. على سبيل المثال، في كتاب اللغة العربية للصف الثاني، طُبِعت قصيدة قصيرة على الغلاف تشجع المشاركة في النزاعات كالتزامٍ بالدفاع عن البلاد. وفي كتاب اللغة العربية للصف الثالث، تظهر قصيدة مع صورة جندي يحمل قاذفة صواريخ محمولة، تشيد بالمشاركة في النزاعات والدفاع عن البلاد.
لتطبيع الأسلحة والعنف، استخدمت الكتب المدرسية صورَ الأسلحة والأطفال المتوفين وسفك الدماء وعسكرة الروايات بطريقة متكررة في جميع الصفوف الدراسية من الأول إلى التاسع. يمكن أن يؤدي استخدام هذه الصور إلى استمرار العنف كرد فعلٍ طبيعي على النزاعات، وكعملية مؤسفة يجب على اليمنيين تحمُّلها لحماية دينهم وثقافتهم وأرضهم. في كتاب الدراسات القرآنية للصف الأول، توجد صورٌ «لمجاهدي» الجيش بمدفعية ثقيلة، مع عبارة توضيحية تقول «المجاهدون يدافعون عن بلادهم». حقيقة أن هذا الموضوع خضع للمناقشة في إطارٍ ديني وهو ما يضفي على النزاع لبوس الحق والفضيلة؛ مما يجعل العنف أمرًا لا مفرَّ منه لتحقيق «هدف مقدس».
صُمِّمت الكتب المدرسية بطريقة انتقائية للغاية، لكن مع نقص التنسيق بين الروايات. الهدف هو تصميم روايات دينية وسياسية تتماشى مع أجندتهم. يحتوي كتاب اللغة العربية للصف السادس على ثمانية دروسٍ، تتناول «القائد الشهيد» حسين بدر الدين الحوثي: حياته، وموته، وحربه ضد «الأمريكيين وحلفائهم». بعد ذلك، توجد ثمانية دروس حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يحاول الكتاب المدرسي تأسيس علاقة بين النضال الفلسطيني وصراع الحوثيين في اليمن. إن تأسيس هذه العلاقة لتلائم هدفًا معينًا هو أمرٌ متكررٌ في الكتب المدرسية للغة العربية. وفي حين تعمل الكتب المدرسية على تأجيج الرسائل المؤيدة للعسكرة، هناك غيابٌ صارخٌ للرسائل التي تعزز السلام. على العكس من ذلك، تحثُّ كتب الدراسات الإسلامية للصف الثامن المتعلمين على رفض المفاوضات و«الحلول النصفية».
تصور الكتب المدرسية دعم النزاعات الحالية، ماليًّا و/أو جسديًّا، كممارسة دينية ومقدسة. في كتاب اللغة العربية للصف الثالث الابتدائي، درسٌ يشرح فضيلة دعم «المجاهدين» ماليًّا من خلال قصة أب يمتدح ابنه لقيامه بهذا العمل الكريم الذي يراعي الآخرين. ويتضمن كتاب اللغة العربية للصف السابع درسًا عن المكافآت السماوية للمقاتلين في جبهات الحرب، مليئًا بالآيات القرآنية التي أُخرجت من سياقها التاريخي. علاوة على ذلك، في الجزء الثاني من كتاب اللغة العربية للصف السادس، يتكوَّن غلاف الكتاب ووحدة كاملة من أكثر من درسٍ واحدٍ عن جندي طفل قُتِل في أثناء النزاعات الدائرة. يحاول الكتاب المدرسي تبجيل «تضحيته»، كما أنه يشجع الأطفال على فعل الشيء نفسه. من حين إلى آخر، تشجع الكتب المدرسية الطلاب على الذهاب إلى المعسكرات الصيفية وصلاة الجمعة، التي تُستغل حاليًّا للتجنيد العسكري والخطاب المناهض للتحالف.32
•دور الضحية ونزع الشرعية عن الآخرين
من خلال قراءة الكتب المدرسية، يمكن للمرء أن يلاحظ أن ثمة توجهًا متبعًا بشكل ممنهج ومطرد يهدف إلى خلق ذاكرة مجتمعية لما يعد من وجهة نظر الدين والتاريخ والثقافة بالأمر «المعروف بالبداهة أو بالضرورة». وبصورة محددة، فإن الكتب المدرسية تعمد إلى تصوير اليمنيين باعتبارهم ضحايا، أما العالم خارج اليمن فهو القوة التي تسعى إلى استغلال الموارد اليمنية وتدمير هوية اليمنيين الدينية والثقافية. ويجد المطلع على تلك المناهج أن القائمين عليها يستغلون النضال الفلسطيني كنموذجٍ لدور الضحية، من خلال فكرة أن صراعاتهم هي امتدادٌ لصراعات الفلسطينيين. بعد ترسيخ هذه الصورة المجتمعية، تذهب الكتب المدرسية إلى أبعد من ذلك، لإضفاء الشرعية على عنف الحوثيين، وتشير إلى كيف أنهم على الرغم من كونهم ضحايا فإنهم يدافعون ببطولة عن الإسلام والضعفاء في اليمن وخارجه.
تظهر الدروس التي تصور دور الضحية في الغالب في جميع الصفوف الدراسية التسعة. يذكر كتاب الجغرافيا للصف التاسع استيلاء الإماراتيين على جزيرة سقطرى، وقيام تحالف «العدوان» بسرقة النفط. في الصف نفسه، يتضمن كتاب الدراسات القرآنية تمرينًا يطلب من الطلاب التحدث عن شهيدٍ يعرفونه. وعلى نحوٍ متصلٍ، يوجد في كتاب الدراسات الوطنية للصف السابع تمرين يطلب من الطلاب المناقشة ومشاهدة الأطفال الذين ماتوا بسبب الضربات الجوية التي يقودها العدوان؛ تعزز مثل هذه الأمثلة روايات دور الضحية.
وفي الوقت نفسه يجد المرء أن تلك الكتب تميل بشكل كثيف إلى شيطنة المجتمع الدولي والدول الغربية ودول التحالف العربي. ثمة 21 كتابًا مدرسيًّا في جميع الصفوف الدراسية الابتدائية والمتوسطة تنحو باتجاه نزع الشرعية بشكلٍ كبيرٍ عن المعسكر المقابل وعن الجهات الفاعلة الدولية؛ وذلك بقصد إعادة بناء شرعية الذات. على سبيل المثال، في كتاب الدراسات القرآنية للصف الثامن، يدور تمرين حول مقاطع فيديو لجنود «العدوان»م وهم يفرُّون، مع التلميح إلى أنهم جبناء وهاربون ومنافقون (في إشارة إلى الحكومة التي يدعمها السعوديون). وبالمثل، في كتاب اللغة العربية للصف السادس، تدين قصيدة بعنوان «بلدي والجيران» المسلمين الذين يتبعون الأمريكيين والإسرائيليين والسعوديين، وتعدهم بخسائر فادحة.
•فرص الاستثمار في التعليم: بعض التوصيات
المدارس ليست كيانًا ثابتًا، فهي المظهر الحقيقي للديناميكيات المجتمعية، وهي واحدة من الأماكن، جنبًا إلى جنبٍ مع المساجد والجامعات، التي يتجمع الناس فيها من مختلف الأحياء، وهي مواطن صناعة الأفكار والسلوكيات والشخصيات. وفضلًا عن ذلك، يوفِّر التعليم فرصة لتعبئة الناس، وهو مجال قابل للاستثمار أو الاستغلال، وهذا هو ما فعله الحوثيون بطريقتهم الخاصة. ومن هنا، فإذا لم يُستغل مجال التربية والتعليم بشكلٍ صحيحٍ، على سبيل المثال لتعزيز السلام، فإنه سيظل بيئة حاضنة لتوليد التحريض على النزاعات.
قد تكون انتهاكات اليوم مولدة لصراعات الغد؛ وحتى لا يحدث ذلك فإنه لا بد من أن تصاغ المناهج الدراسية بطريقة تجعل الماضي يتصالح مع الحاضر والمستقبل.
ولإقناع الأحزاب السياسية بتجنُّب التلاعب بالتعليم سياسيًّا وأيديولوجيًّا، فإنه يجب العمل على الحفاظ على تاريخ وثقافة وهوية وكرامة جميع الأحزاب السياسية والمجموعات الجهوية والطائفية المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يجب توثيق انتهاكات حقوق الإنسان من دون تلاعب لتمكين العدالة الانتقالية التي يمكن أن تنطوي آلياتها على إعادة ذاكرة مجتمعية متماسكة.
لا يمكن للتعليم أن ينتظر.
إن توفير تعليمٍ جيدٍ منصف يبدأ بضمان أن يؤدي التعليم إلى تحسين مهارات الأطفال ورفاههم بشكلٍ متساوٍ وأن لا يساهم في النزاعات. ويجب على المانحين والمنظمات الوطنية والدولية غير الحكومية العمل «وسط النزاع» وليس «حول النزاع». يتطلَّب هذا اهتمامهم بدعم إصلاح التعليم الآن بدلًا من الانتظار حتى تنتهي الحرب. يمكن أن يحدث هذا من خلال إجراء تقييمٍ للكتب المدرسية الحالية في جميع أنحاء اليمن وتحليل مساهمتها في التحريض/أو/التخفيف من حدة النزاعات. يجب تعيين فريق عمل مشترك يمثِّل جميع مكونات المجتمع في اليمن بقيادة أطرافٍ محايدة لفحص وإعادة كتابة الكتب المدرسية حسب الضرورة. كما يجب أن يشير التقييم إلى ما يجب تغييره لتحسين جودة التعليم. ووفقًا لذلك، وبناءً على ما تظهره النتائج، فإنه ينبغي أن يسير الأمر نحو تغيير الكتب المدرسية في البلاد.
يجب أن تكون دروس وكتب تعليم السلام جزءًا من التعليم اليمني، وأن ينشر، بالتوازي مع ذلك، ما تنطوي عليه التقاليد الإسلامية والقبلية من توجيهات ووصايا تحث على المصالحة والسلام. إن من شأن تقديم دروس عن السلام في المدارس أن يعزز السلام والمصالحة المجتمعية، وأن يقلل من تأثير الكتب المدرسية المؤدلجة سياسيًّا.
كما أن استخدام مصادر تعليمية بديلة وإنشاء منهجيات تعلُّم غير تقليدية في اليمن من شأنه أن يقلل من التأثير السلطوي للكتب المدرسية، وهذا بدوره سيتيح فرصًا لزيادة جودة المهارات والمعرفة التي يتلقاها الأطفال.
يجب أن ندرج التعليم في محادثات السلام. يجب ألا تقلل مبادرات السلام من قوة التعليم في توجيه السلام. سيؤدي تضمين التعليم في محادثات السلام إلى الضغط على جميع وكلاء الحرب لتحييد هذا القطاع الحساس، الأمر الذي يمكن أن يخلق أرضية مشتركة للسلام في جميع أنحاء البلاد.
ما لم يتم الاضطلاع بهذه الأمور الآنفة الذكر، فإن الجهات الفاعلة في المعسكر المواجه للحوثيين ستعمد إلى استخدام التعليم بنفس الطريقة. بسبب طبيعة التعليم المُتنازع عليها والتغييرات الحالية في الكتب المدرسية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فإن من المتوقع أن تفعل الأحزاب السياسية الأخرى نفس الشيء، لا سيما في جنوب اليمن، حيث يطالب المجلس الانتقالي الجنوبي بالسلطة. ومن أجل المضي قدمًا، فإنه يجب أن تكون هناك محادثاتٌ منفصلة مع الحكومة المُعترف بها دوليًّا والمجلس الانتقالي الجنوبي والفاعلين السياسيين الآخرين لتجنيب التعليم هذا النوع من التأثير السياسي.