انهارت جهود الوساطة الأممية بخصوص الهدنة في اليمن، تسرّب الكثير عن أسباب فشل الاتفاق الوشيك، وتوجّه كثير منها إلى اتهام الحوثي باختلاق مطالب مستحيلة في آخر لحظة، سواء بهدف الضغط والحصول على أكبر قدر من المكاسب، أو بسبب اشتراطات خاصة بحليفه الإقليمي إيران.
ربما تعدّ المشكلة الأكبر في كلّ جولة مفاوضات الاختلال في موازين القوى، حيث الحكومة اليمنية في عدن وحلفاؤها الإقليميون في وضع أضعف من الحوثي، وهذا ما ظهر في شهور الهدن السابقة التي تمدّدت، رغم عدم التزام الحوثي بتنفيذ أيٍّ من المطلوب منه، مثل رفع حصاره عن مدينة تعز.
واقعاً، عدم توازن القوى، وكذا الضغوط الواقعة على كل طرف، هي نتيحة للفارق بين طبيعة طرفي الحرب الأساسيين، فبينما يدخل الحوثي الحرب بصفته جماعة مغامرة لا تملك شيئاً فعلياً يمكنها أن تخسره ومجرد بقائها مكسب، ويستمر هذا المنطق المغامراتي في تفكيره، حتى بعدما أصبح سلطة أمر واقع مسؤولة عن ملايين البشر، في ما يعد عبثاً واضحاً بمصالح الناس وأرواحهم.
وفي المقابل، السعودية وحلفاؤها جهات لها ارتباطات دولية، ما يسهل من عملية الضغط عليها، لكنّ الطرف الآخر استفاد من الحرب بشكلٍ يجعل من الصعب إغراءه بالتنازل للهدنة أو التسوية.
نشأت جماعة الحوثي من ضلع حرب، وهي حروبها مع القوات الحكومية (2004 - 2010)، ومع تعاظم الفراغ السياسي بعد انتهاء مدة المرحلة الانتقالية وشلل النخبة السياسية اليمنية، تمدّد الحوثي بالسلاح، مدركاً بشكل جيد أنّه يستطيع الحصول على مكاسب سياسية بالسلاح أكثر من أي عمليةٍ سياسيةٍ أو انتخابية.
في البداية، لم يتصوّر الحوثي سهولة وبساطة تداعي الدولة أمام جموعه المسلحة. ومن منطلق الغرور الذي أصيب به سريعاً، خصوصاً مع الخلفية الأيديولوجية المغلقة وأوهام التصوّرات الدينية حول التمكين الإلهي، استمر الحوثي في التمدّد عسكرياً نحو الجنوب، والذي أدخل البلد في دوّامة جديدة من الصراع الإقليمي.
منذ لحظة صعود الحوثي وتمدّده، كان الاستخفاف بخطورة الحرب وتداعياتها سمةً ظاهرة على خطاب الحوثي وتصوّراته، في ما تسميه الجماعة التحدّي والصمود، بغضّ النظر عن مدى ضرورة الحرب وإمكانية تفاديها. ولهذا كان التدخل العسكري الخارجي، بقيادة السعودية، أكبر هدية حصل عليها الحوثي، في وقت كانت الجماعة تواجه فيه فقداناً كلياً للشرعية وغضباً شعبياً كبيراً من اعتمادها الكلي على السلاح وإغلاقها المسار السياسي.
أكبر مكاسب هذا التدخل العسكري الخارجي حصول الحوثي على غطاء شرعيةٍ كان يفتقده بشدة. من منطلق هذا المكسب، بدأ الحوثي يمارس سلطته، ويسيطر على أجهزة الدولة المختلفة. ثم أصبح هذا التدخل ذريعةً لتدهور الأوضاع المعيشية، وليس الفساد وسوء الإدارة، كما أضفى مبرّراً لتنكيل الحوثي بخصومه، بحجّة أنّ البلد يعيش حالة حربٍ وعدوان. إجمالاً، ككلّ الحروب السابقة، ازدهر الحوثي وترسّخت قدراته العسكرية، بل حققت هذه الحرب للحوثي ما يطمح إليه وهو التحوّل إلى قوة إقليمية.
منذ بداية نشأة هذه الجماعة، ومن خطابات مؤسسها حسين الحوثي، ورغم المنطقة المعزولة التي انطلقت منها الجماعة، كان التطلّع إلى الخارج دوماً حاضراً بوصفه هدفا أساسياً، وهذا يتّضح من أمور كثيرة، فمثلاً بدأت خطب حسين الحوثي التركيز دوماً على شيعية الحركة وارتباطها بغيرها من حركات الإسلام السياسي الشيعي، والطعن في نظيرتها السنية.
وكان خطاب التحريض الطائفي حاضراً دوماً في اليمن في العقود الأخيرة، وكان المتّهم الأول هو الجماعات السلفية ضد الزيود، لكنّها لم تصل إلى رأس السلطة مثل الحوثي، التي تتبنّى هذا الخطاب بشكل صريح حيناً، ومواربٍ أحياناً، هذا غير فرض معتقداتها على المجتمع. فالحركة الحوثية التي تعتقد أصحّ الكلام بعد القرآن هو خطب حسين الحوثي التي تتضمّن اتهامات صريحة لعقائد السنة بالبطلان، ما يشكّل خطورة غير مسبوقة على السلم الاجتماعي.
ثم عند تولي جماعة الحوثي السلطة، بدأت احتفالاتهم بعاشوراء، وهو أمرٌ غير مألوف أو اعتيادي بالنسبة للزيود في اليمن، الذين لم يعتادوا الاحتفاء بعاشوراء، لأسبابٍ عقائدية كثيرة، وهذه الاحتفالات مع خطاب الفرز الطائفي الصريح للجماعة دائماً يثير قلق الزيود في اليمن، في ما يرونه مروقاً عن ممارسات مذهبهم وخطابه.
بحكم أنّهم موجودون في وسط غالبية سنية، كان زيود اليمن دائماً يتباهون بطبيعة مذهبهم القريبة من السنة، والتي لا تصدم بمعتقداتهم كما لا تمارس طقوساً مغايرة، لذا ظل الخلاف بين الطائفتين محصوراً على الحكم ونظرية الحكم التي كان من المفترض أنّ الثورة الجمهورية عام 1962 قضت عليها. الأمر يختلف لدى الحوثيين، بحكم التطلّعات الإقليمية للجماعة التي ترى أنّ اليمن أقلّ من طموحاتها، ما دفعها إلى التوجّه نحو مظاهر ومعتقدات تعدّ غير مألوفة للزيدية اليمنية التقليدية، بسبب طبيعة المجتمع المختلط مذهبياً، لكنّ هذا الاعتبار لا يشغل الحوثي الذي يتطلع أكثر إلى الخارج، وإلى أن يكون جزءاً من جماعات شيعية في الخارج، من دون اكتراث بالسلم الأهلي الوطني، بل إنّ مؤسّس الجماعة حسين الحوثي، وقياداتها الحالية، ما زالت تحلم بجموح أنّها من سيحرّر الأقصى، لذا أوهام بعض أتباع الجماعة أنّ قائدهم عبد الملك الحوثي هو المهدي المنتظر لم تأتِ من فراغ.
نجحت الحرب، وبدعم إيراني واضح، في تطوير قدرات الحوثي العسكرية، ليهدّد دول الجوار بشكل مستمر، هكذا تحوّل الحلم إلى حقيقة، وصار الحوثي جماعة إقليمية مهدّدة وبالتالي مؤثرة... هكذا يقيس الحوثي مكاسب الحرب بحجم تضخّم أهميته الإقليمية، لكنّه لا يعبأ بحجم الخسائر الوطنية، فالجماعة قبل ثماني سنوات سيطرت على عاصمةٍ تمتدّ سلطتها على كل مساحة اليمن التي تزيد عن نصف مليون كم2، وأصبحت الآن العاصمة تحت سيطرتهم، لكنها لا تحتكم إلا على ثلث هذه المساحة.
يتباهى الحوثي بحجم ما تكبّدته السعودية من خسائر، والتي تعد لا شيء قياساً بحجم ما خسره اليمن، فالبلد تشظّى سياسياً واجتماعياً بشكل غير مسبوق، كما فقد سيادته كلياً، إضافة إلى الدمار الذي أصاب بنيته التحتية التي بنيت بشقّ الأنفس في دولةٍ فقيرة الموارد غير الفقر والمعاناة العظيمة للناس.
الجماعة التي تطالب المجتمع الدولي بإطعام اليمنيين وتعتمد على المساعدات، وفي عهد سلطتها أغلقت مدارس ومستشفيات، تفترض بمنطقها الأعوج أنّها سوف تصبح قوة متغلبة إقليمياً ودولياً. لا يرى الحوثي مشكلة في الجهل والفقر اللذين يزدهران برعايةٍ خاصّةٍ منه، بل وينفق ملايين ينتزعها من أفواه الناس لاحتفالاته التي لا تنتهى على مدار السنة، مستعرضاً سلطته، ولكي يكرّر رسائله الديماغوجية الفجّة وخطابه المعتمد على الجهل، وتكريس منطق الخرافة.
قد يصبح الحوثي كالمغول آلة عسكرية مدمّرة وضخمة تصل إلى أقاصي الأرض، من دون ذكر لأيّ منجز حضاري وإنساني. لكن حتى هذا غير مرجّح الحدوث، لأنّه ببساطة الحوثي يتطلع إلى الخارج ولا ينظر إلى الأرض التي ينطلق منها، ولا يدرك أنّ أبرز ما يهدّده ليس العداء الإقليمي، بل الكراهية والغضب الداخلي. ففي خطابهم الذي يزعمون أنّه موجّه إلى العدوان الخارجي، يتجاهل الحوثيون أنّهم قتلوا من اليمنيين أعداداً تفوق بكثير غير اليمنيين، ويتناسون، في خطابهم الوطني المزعوم، أنّهم دمّروا وفرضوا الحصار على مدن يمنية، وليس غيرها، وفي غمرة حماستهم وثقتهم المفرطة بالنفس جرّاء انتصاراتهم ضد الأطراف الخارجية، لا يلتفتون لحظة إلى حجم الدمار والتشظّي الذي أصاب بلدهم.