لطالما اتسم خطاب مجلس التعاون الخليجي تجاه إيران بالتشدد. ترتفع حدته غالباً بسبب الأزمات الإقليمية المستمرة والمتداخلة، ثم تنخفض قليلاً في أوقات متباعدة.
ولعقود طويلة، بقيت دول المجلس تغرّد في سرب واحد عندما يتعلّق الأمر بإيران، باستثناء دولة واحدة: سلطنة عُمان.
هذا التمايز عاد ليظهر بوضوح أكبر في الأيام الماضية، عندما دعا وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي، خلال مشاركته في “منتدى حوار المنامة 2025″، الذي عقد في نوفمبر الجاري، إلى دمج إيران في منظومة الأمن الإقليمي الشامل، مشدداً على أن عزلها لم يكن حلّا.
ولطالما حافظت السلطنة على نهج دبلوماسيّ جعلها تراقب الأزمات، التي تكون إيران طرفاً فيها، أكثر مما تنخرط بها. وإذا ما قدّر لها أن تلعب دوراً بشأنها، فإنه غالباً ما يصبّ في اتجاه البحث عن حلّ لها واستضافة الوفود الدبلوماسية الساعية إلى تحقيق هذه الغاية.
وتقف أسباب عدة وراء هذا الاختلاف في الرؤية بين عُمان وباقي الدول الخليجية تجاه إيران، فيما تطرح تساؤلات حول تأثيره على وحدة الخطاب الخليجي بشأن الأزمات الإقليمية والعلاقة مع إيران.
السلطنة تنحاز للحياد
عام 1979، بادرت سلطنة عمان إلى الاعتراف بالنظام الجديد المنبثق عن الثورة ضد شاه إيران شاه، خلافاً للموقف الخليجي العام المتوجّس من مجريات الأحداث في هذا البلد.
ومنذ ذلك التاريخ، واصلت السلطنة تمسّكها بسياسة الحياد إزاء طهران: رفضت استخدام أراضيها لشنّ أيّ عمليات عسكرية ضد إيران خلال حرب الأخيرة مع العراق في الثمانينات، سعت لاستضافة محادثات سرية لوقفها عام 1987، نأت بنفسها عن “عاصفة الحزم” ضد الحوثيين في اليمن، ثم وسّعت تعاونها الاقتصادي مع طهران.
يقول المستشار السياسي الدولي أحمد الخزاعي إن “السلطنة في محطات حساسة، مثل الخلاف الخليجي مع قطر، أو الحرب في اليمن، أو العلاقات المتوترة مع إيران، آثرت أن تكون جسراً للحوار لا طرفاً في الاصطفاف، ما جعلها تبدو، في نظر البعض، خارج الإطار الجماعي، بينما هي في الواقع تمارس دوراً مكمّلاً داخل المنظومة الخليجية”.
وكانت السلطنة قد رفضت عام 2013 الموافقة فكرة الاتحاد بين دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تشكّل “مواجهة التحديات الإقليمية” أحد أهم أهدافه، وهددت بالانسحاب من المجلس في حال الإصرار على تنفيذها.
وطرحت السعودية الفكرة وسعت إلى تنفيذها عام 2013، أي بعد نحو عامين على انطلاق “ثورات الربيع العربي” وامتدادها إلى البحرين، وسط اتهامات بحرينية لطهران بالتدخّل في شؤون المملكة.
ويوضح الخزاعي، في حديثه لـ”الحرة” أن “عُمان رأت في فكرة الاتحاد نوعاً من مركزية القرار التي قد تُفضي إلى هيمنةٍ إقليمية” مؤكداً، في الوقت ذاته، أن هذا الخيار لا يعني انفصالاً عن المنظومة الخليجية، بل “بحثاً عن توازن يحفظ التنوع ولا يضعف التضامن”.
“دمج إيران”
لم يمض وقت طويل، حتى أعادت عُمان التأكيد على التمسّك بالحياد في سياستها الخارجية، إذا آثرت عدم المشاركة في العمليات العسكرية ضد الحوثيين في اليمن، في إطار “عاصفة الحزم” التي انطلقت عام 2015. كما نأت بنفسها عن الأزمة التي اندلعت بين قطر وعدد من الدول الأخرى، وأبقت على علاقاتها الدبلوماسية معها.
يعتبر الأكاديمي المتخصص في العلاقات الدولية وشؤون الخليج والشرق الأوسط الدكتور عبدالله باعبود أن هذا المسار ينبع من مرتكزات أساسية، أهمها المدرسة الدبلوماسية العُمانية التي تقوم على تصفير المشكلات وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وخصوصية العلاقة التاريخية مع إيران، والقائمة على التواصل الدائم والتعاون في مضيق هرمز”.
ويرفض باعبود القول إن عُمان “تغرّد خارج السرب الخليجي”، ويرى أن “هذا الانطباع خاطئ لسبب جوهري، وهو أنه لا يوجد سرب خليجي واحد، بل ست سياسات خارجية مستقلة تتقاطع أحياناً وتختلف أحياناً أخرى”.
لكن الخزاعي يؤكد أن الموقف العُماني من إيران “يمثل نقطة خلاف جوهرية داخل المنظومة الخليجية، لا مجرد تمايز في الأسلوب أو الأدوات”. يضيف: “تتعامل الدول الخليجية مع طهران بوصفها مصدر تهديد مباشر، بينما تتجاهل مسقط في كثير من الأحيان السلوك العدائي الذي تمارسه إيران تجاه جيرانها”.
وعلى مدى عقود، أثارت “سياسة تصدير الثورة” مخاوف وهواجس دول الجوار الإيراني، فيما جاء الدعم الإيراني لميليشيات في اليمن والعراق وسوريا ولبنان ليزيد من حدة هذه المخاوف.
واصطفت إيران ودول خليجية على طرفي نقيض حيال العديد من أزمات المنطقة، ودعما أطرافاً متحاربة في اليمن وسوريا.
يقول الخزاعي إن السياسة الخارجية العُمانية “قد تكون مفيدة في بعض اللحظات، لكنها لا تصلح قاعدة دائمة للتعامل مع طرف يُثبت مراراً أنه لا يحترم قواعد الجوار ولا يلتزم بمواثيق حسن النية”. ويرى أن “إشراكها في منظومة أمنية مشتركة دون شروط قفز فوق الواقع”، معتبراً أن هذا النهج يضعف الموقف الخليجي الموحّد ويمنح إيران مساحة أوسع للمناورة”.
لكن ثمة من يرى العكس ويمتدح الموقف العماني باعتبار أنه أبقى على إحدى أهم قنوات التواصل بين إيران ومجلس التعاون في زمن الأزمات، ولعب دوراً مهماُ في تقريب وجهات النظر، ليس بين إيران والدول الخليجية فقط، بل بين إيران والدول الغربية أيضاً.
“هذا التمايز في الموقف العُماني ليس خروجاً عن الصف الخليجي، بل صوت النغمة الهادئة داخله” يقول باعبود، مشيراً إلى أن “التوازن الذي تمارسه عُمان يوفر للمجلس خيار التهدئة بدل الاحتكاك، ويفتح قنوات تفاوضية حين تسد الطرق أمام الحلول العسكرية، كما حدث في ملفات معقدة مثل الاتفاق النووي الإيراني أو التسوية في اليمن”.
وبهذا المعنى، يقوّي التمايز موقف دول مجلس التعاون الخليجي ويمنحها “مرونة تكتيكية” على المناورة، كما يؤكد باعبود.