هناك ما يُعرف في الصحافة الأميركية ب"مكب يوم الجمعة" وهو لتصنيف الأخبار الهامة التي لا تريد الحكومة الأميركية أن تحظى بالكثير من الانتباه فيتم تسريبها الجمعة أي قبل عطلة نهاية الأسبوع.
وهكذا كان الحال الجمعة الفائت بتسريب لصحيفة الوول ستريت جورنال يفيد بأن واشنطن ستسحب "ما يقرب من 8 بطاريات باتريوت من دول بينها العراق والكويت والأردن والسعودية، ومنظومة (ثاد) من السعودية، وسيتم تقليص أسراب المقاتلات المخصصة للمنطقة". كما أن الانسحاب سيشمل إعادة الانتشار مئات الجنود في الوحدات التي تشغل أو تدعم تلك الأنظمة.
الخطوة نقلها وزير الدفاع لويد أوستن لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وتقول واشنطن انها نسقتها مع باقي الأطراف ولن تؤثر بالتزاماتها بأمن المنطقة.
التأكيدات الاميركية العلنية والالتزامات المعروفة لا تقلل من أهمية القرار وأبعاده الاستراتيجية على السعودية والمنطقة.
فمنظومة "الثاد" فاوضت السعودية للحصول عليها خلال السنوات السبع الفائتة خلال رئاسة باراك أوباما الذي رفض منحها ومن ثم وافق عليها دونالد ترامب في 2017 وحصنها في 2019. وها هو جوزيف بايدن يتراجع عنها بشطبة قلم وعبر وزيره المقرب منه أوستن.
التراجع وسحب الـ"باتريوت" والـ"ثاد" فسره البنتاغون بإعادة تموضع اميركية تقضي نشر الصواريخ في مناطق أخرى او اعادة تأهيلها، وهنا المقصود آسيا وأولوية التعاطي مع التهديد الصيني والذي تراه ادارة بايدن أكثر الحاحاً من أي ملف خارجي آخر.
إنما هناك أيضاً هدفٌ غير معلن وهو بخلق توازن في الشرق الأوسط ودفع نوع من التفاهم بين السعودية وإيران. فالمفاوضات الايرانية-الاميركية الغير مباشرة في فيينا ولو انها محصورة بالملف النووي إنما تتقاطع فيها ملفات إقليمية وإعادة تصور للمنطقة بشكل يعفي واشنطن من الانغماس بأزماتها.
فهناك اليوم تفاهم ضمني بين إيران وأميركا بتفادي المواجهة في العراق، العمل على إنهاء حرب اليمن، وحصر الدور والقواعد الأميركية في سوريا بأماكن محدودة.
الوجه الآخر من هذا التفاهم هو في دفع دول المنطقة للحوار مع إيران، وما من رسالة أوضح للوصول لذلك من سحب الصواريخ الأميركية التي كانت موجودة أصلا لردع ايران بعد الهجوم على المنشآت النفطية السعودية.
اليوم واشنطن تقول بالفم الملآن للسعودية وحكومتها "رتبوا أموركم مع ايران." وهذه رسالة فهمتها الرياض التي بدأت فتح قنوات تفاوضية مع إيران من البوابة العراقية. هذه القنوات ستستمر حتى بعد تولي ابراهيم رئيسي السلطة في إيران، وكونها في مصلحة الطرفين خصوصا في ضوء الالتفاتة الاميركية الى آسيا.
وكان حديث رئيسي عن إمكانية إعادة فتح السفارات بين السعودية وإيران وقول الرياض أنها ستحكم عليه من أفعاله وليس أقواله، بادرة أخرى حول مستقبل المنطقة من دون الغطاء الأميركي الأمني الثقيل العيار.
فحتى من دون الالتفات الى آسيا، لم تعد واشنطن ترى منفعة من وجودها وذرفها المال والسلاح في أماكن غير ضرورية في الشرق الأوسط،وهي تؤيد فكرة الحوار الإقليمي مع إيران بغض النظر عما ستوصل إليه المفاوضات النووية. فاليوم تفاوض واشنطن على العودة للاتفاق وليس على اتفاق جديد، وذا بحد ذاته تنازل اميركي.
عبء الشرق الأوسط بات ثقيلاً وغير مربحاً على الولايات المتحدة، وبايدن يعود بسحبه نظام "الثاد" من السعودية إلى عقيدة أوباما بالنظر شرقاً والتهيؤ لشراكة إقليمية بين دول المنطقة أولهما السعودية وإيران.