تعتمد جميع الأُسَر اليمنية ذات الدخل المحدود، على تداول الأوراق النقدية الصغيرة من الفئات: 50، و100، و200، و250 ريالًا، من أجل توفير متطلباتها اليومية الضرورية، من القوت الأساسي، وأجور وسائل النقل والمواصلات العامة داخل المدن، حيث تعد هذه الفئات المالية الأكثر استخدامًا في المناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وسط تدهور متواصل للأوضاع الاقتصادية في اليمن، وتدهور المعيشة في جميع مناطق البلاد.
ويواجه اليمن واحدة من أهم الأزمات التي فجرتها الحرب والصراع الدائر في البلاد، متمثلةً بالانقسام المالي والمؤسسي والنقدي، حيث فرض سياستين مختلفتين في التداول النقدي وسعر صرف العملة المحلية.
إذ تتداول مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا، التي قامت بنقل إدارة عمليات البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن في نهاية العام 2016، فئات من النقد المطبوع الذي ترفض سلطة أنصار الله (الحوثيين) تداوله في مناطق نفوذها، التي تعاني من أزمة نقدية حادة مع تدهور الأوراق النقدية القديمة التي تم ضخها للتداول في السنوات الأولى للحرب، خصوصًا من الأوراق ذات الفئات الصغيرة بالرغم من أنها كانت معدة للإتلاف.
هذه الأوراق النقدية لم تعد قابلة للتداول والاستخدام، كونها ممزقة وتالفة، خلافًا لبقية الفئات النقدية من العملة المحلية، نظرًا للحاجة المستمرة لها لإتمام عمليات الشراء، أو دفع أجور المواصلات العامة في شوارع وأحياء المدن الرئيسية.
ويقول خبراء اقتصاد ومصرفيون إنّ الأزمة الحادة للسيولة النقدية، التي أجبرت الناس على التعامل بأوراق تالفة، سببها حالة الانقسام للنظام المالي والمصرفي في البلاد، إضافة إلى عدم توحيد السياسة النقدية، وطباعة العملة بدون غطاء تأميني، وهو ما أدّى إلى تفاقم هذه الأزمة النقدية على كافة المستويات.
المحلل الاقتصادي خليل العبسي، يرى في حديثه لـ"خيوط"، أن الانقسام المالي والنقدي كان له تبعات كارثية على الوضع المعيشي لليمنيين، ولا يتوقف عند حدود انهيار العملة المحلية وارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية، بل يمتد إلى مختلف الجوانب المعيشية والقطاعات الاقتصادية مع ارتفاع تكاليف النقل التجاري الداخلي والخارجي، إضافة إلى أزمة السيولة الحادة في مناطق سيطرة "الحوثيين"؛ بسبب تهالك الأوراق النقدية المتداولة وتناقصها وما ألقته من تبعات متعددة على الأسواق والمعاملات اليومية.
بالمقابل، يشكو باعة مواد غذائية واستهلاكية، وسائقو باصات الأجرة بصنعاء، من هذا الوضع الذي أُجبِروا عليه، واضطرارهم إلى التعامل مع الأوراق النقدية الممزقة، مع عدم توفر الأوراق المناسبة للتداول، في ظل تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين.
•تفاقم الأزمة
في ظل استمرار شحة الأوراق المالية، وزيادة حدة الأزمة النقدية بمناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، لجأ المواطنون إلى تدبير حلول ترقيع هذه الأوراق النقدية المتهالكة، محاولين إعادة تجميع قطعها الممزقة، ليسهل عليهم التعامل بها وتوفير احتياجاتهم الضرورية منها.
يقول المواطن محمد الكوكباني، لـ"خيوط": "لم نعد نمتلك أوراقًا نقدية جديدة فئة 100 ريال، الموجودة كلها مُقطعة ودامرة، رجعنا نلصقها ونرقعها حتى نمشي حالنا، كل وقت ونحن في جدل مع أصحاب البقالات والباصات، هذا الحاصل، ما نفعل؟ من أين لنا فلوس جديدة؟ لا بنك ولا رواتب ولا دولة".
ويشير اقتصاديون إلى أنّ استمرار تداول أوراق نقدية تالفة، له تداعيات خطيرة على السوق المالية، وعلى سياسة النقد، وتبديد متواصل للأموال وإضعاف للعملة الوطنية.
ويفتقد المواطنون في صنعاء وبقية المناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، أيَّ خيارات مالية أخرى، مع توسع أزمة السيولة النقدية، بحيث أصبحوا مجبرين على التعامل بالأوراق النقدية المتهالكة، كونها سياسة مصرفية سائدة.
•نزاعات دائمة
يخوض أغلبية السكان الكادحين من مختلف الفئات العمرية، رجالًا ونساء، حالة من الصراع اليوميّ الدائم لأجل تصريف أوراق النقد التالفة، والحصول على حاجتهم بما يقابل قيمتها السوقية.
تتكرر المشاهد اليومية للمشاجرات الشفهية بين المنتفع من جهة، وباعة متطلبات الغذاء الأساسية، أو سائقي الباصات من جهة أخرى، وعلى مضض يتم قبولها، فيما يصر بعضهم على ضرورة استبدالها.
الموظفة نجيبة رسام، قالت لـ"خيوط": "أصحاب الباصات والمحلات لا يقبلون الفلوس المقطعة، كل يوم أنا وهم في صياح، وأنا ما معي أبو 100 ريال جديدة، أحيانًا نمشيها بمغالطة السائق بها وقت الزحام، وأحيانًا شريعة نحن وهم".
وتأتي المشادات اليومية التي يخوضها السكان، في سياق توسيع رقعة المعاناة التي يمرون بها، منذ اندلعت الحرب قبل سنوات، وخسارتهم كافة سبل العيش الكريم، بما في ذلك توقف صرف مرتبات موظفي الدولة، وانعدام فرص الدخل البديلة، وكذلك الجرعات السعرية المتتالية، واستمرار اختلاق الأزمات المعيشية.
وتواجه الفئات النقدية الصغيرة ضغطًا كبيرًا، كونها الأكثر تداولًا واستخدامًا، إلا أنها أصبحت نادرة الوجود في حالتها السليمة.
•أعباء معيشية مضاعفة
كانت جماعة أنصار الله (الحوثيين) قد منعت المواطنين في مناطق سيطرتها، من التعامل بأي أوراق نقدية طبعت حديثًا من قبل البنك المركزي اليمني بعدن، التابع للحكومة الشرعية المعترف بها دوليًّا.
حيث أصدر البنك المركزي بصنعاء، في 18 ديسمبر/ كانون الثاني 2019، قرارًا بحظر التعامل بالأوراق النقدية ذات الطبعة الجديدة. وشرعت في تبديل كل الأوراق النقدية الجديدة للمواطنين عبر بنك صنعاء، بأوراق قديمة من فئات "100 و200 و250" ريالًا، جلُّها تالفة وغير صالحة للتداول، تم جمعها إلى خزائن البنك المركزي في فترات سابقة، بغرض إتلافها والاستعاضة عنها بطبعة جديدة لاحقًا، وهو ما لم يتم نتيجة الأحداث المتسارعة التي شهدتها البلاد.
ويؤكّد مسؤول سابق في البنك المركزي بصنعاء -فضّل عدم الإشارة إلى هويته- في حديثه لـ"خيوط"، أنه "تم ضخ جميع الأوراق النقدية التالفة إلى السوق، بعد قرار سحب الأوراق المالية الجديدة، وكانت تلك الأوراق قد جمعت للتخلص منها، وطباعة أوراق جديدة بديلة عنها. هذه القرارات لا تحد من انهيار العملة، ولا توفر حلولًا للناس".
وأدّت هذه الإجراءات إلى مستوى كبير من الاضطراب والخلل في السياسة النقدية، حيث يعيش أغلبية اليمنيين أوضاعًا معيشية بالغة السوء.
وتقلص الأداء الاقتصادي والتجاري في البلاد، واتسعت فجوة التدهور الاقتصادي، إذ انخفضت القدرة الشرائية، وتراجعت مستويات العرض والطلب إلى أدنى مستوى مع توسع الانقسام وتبعاته الكارثية على العملة الوطنية ومعيشة اليمنيين.