[ معرض الإلكترونيات الاستهلاكية (CES) الذي عقد في لاس فيغاس مؤخرا شهد اندفاعا لتبني اتجاه المنازل الذكية (مواقع التواصل) ]
بلغت قيمة سوق المنازل الذكية العالمي أكثر من 79 مليار دولار أميركي في عام 2020، ومن المتوقع أن تصل إلى 313.95 مليار دولار أميركي بحلول عام 2026، بمعدل نمو سنوي مركب بنسبة 25.3%، وذلك حسب ما ذكرته منصة "موردون إنتليجانس" (mordorintelligenc) مؤخرا.
إن الاتجاه العالمي للمنازل الذكية في ازدياد مستمر، كما تطورت الأنظمة المستخدمة بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية، فكل شيء داخل هذه المنازل أصبح تحت الرقابة وذكيا بدرجة لا تصدق، وبإمكان الآباء الآن مثلا مراقبة مدة مشاهدة أطفالهم التلفاز، مع خيار إيقاف تشغيل الشاشة عن بعد إذا تجاوز الصغار الوقت المسموح لهم، أو إرسال رسالة لهم للتوجه إلى أسرّتهم وقت النوم.
وعندما تشير البيانات التي تم جمعها من محطات الطقس المحلية إلى أن المطر سيضرب الجانب الشرقي من المنزل في غضون 5 دقائق بالضبط، فإن النظام يخبر مالك المنزل بالنوافذ المفتوحة على هذا الجانب، والتي يجب إغلاقها على الفور.
أما إذا لم يكن في المنزل وحاول أحدهم السطو عليه، فسينفجر مكبر صوت ذكي مخفي مع ضوضاء نباح عدوانية تدب الرعب في قلوب المتطفلين. هذه بعض الأشياء الرائعة التي أصبحت متاحة الآن في البيوت الذكية التي تزداد انتشارا يوما بعد يوم في مختلف أرجاء العالم.
ويبدو أن التكنولوجيا التي تعمل آليا أو تتحكم عن بعد في الوظائف المنزلية المختلفة؛ من الإضاءة إلى الأمان، تصبح اتجاها سائدا في العالم، وقد كان للوباء دوره في هذا التحول، حيث أجبرتنا جائحة كورونا على البقاء طويلا في بيوتنا، ودفعتنا لإنفاق المزيد من المال على وسائل راحتنا؛ مثل مكبرات الصوت وأجهزة الرقابة والسيطرة الذكية.
هل هذه الأدوات تجعل الحياة أفضل؟
هل "المنازل الذكية" هي طريق المستقبل أو أنها مجرد وسيلة يتبعها التجار للتحايل التسويقي الأكثر تطورا؟
والسؤال الأهم: هل نحتاج حقا لكل هذا الذكاء في منازلنا؟
هذه الأسئلة طرحها الكاتب والخبير الأسترالي المختص في شؤون التكنولوجيا جيمس بروتيل، وناقشها باستفاضة في مقالة له نشرتها منصة "إيه بي سي نيوز" (ABC news) قبل أيام.
ويمكن أن يكون كل شيء "ذكيا" حتى صنبور المياه، وحسب كثير من الخبراء والمراقبين -كما ينقل الكاتب- فإن الأقفال والأضواء وأجراس الأبواب التي يمكن التحكم فيها من خلال الهواتف الذكية وبرمجتها لأداء المهام تلقائيا أصبحت شيئا شائعا في الآونة الأخيرة، وكما يقولون فإن هذه مجرد البداية لتغير جذري كبير قادم في علاقة منازلنا بالتكنولوجيا.
وفي هذا السياق، شهد معرض الإلكترونيات الاستهلاكية (CES) الذي عُقد في مدينة لاس فيغاس الأميركية مؤخرا اندفاعا للاستفادة من هذا الاتجاه، إذ أطلقت العلامات التجارية الكبرى في العالم مجموعة من الأجهزة الذكية المتصلة؛ من صنابير المياه التي يتم التحكم فيها عن طريق الأوامر الصوتية إلى أبواب الأمان المتصلة بالكاميرات والتي تطلق صوت نباح كلاب عدواني عند اقتراب أي غريب من المنزل.
وتشمل المنتجات الأخرى -التي تم عرضها في المعرض المذكور- الكثير من الكاميرات الأمنية الرخيصة، ومصباح يمكنه تتبع نومك ومعدل ضربات القلب والقياسات الحيوية الأخرى باستخدام الرادار، وآخر يمكنه نشر الزيوت العطرية في أرجاء المنزل، وجهاز صغير يستخدم مستشعرات ضغط الهواء والضوضاء والحركة لاكتشاف الدخلاء، وباب أمامي يجمع بين الطاقة والأضواء وأجهزة الاستشعار وجرس باب بالفيديو وقفل ذكي مع أنه يبدو بابا عاديا تماما، ومعيار تشغيل جديد للمنزل الذكي مصمم لجعل الأجهزة المنزلية المتصلة تعمل معا.
وتتوقع شركة أبحاث السوق "تلسايت" (Telsyte) أن يضم منزل أسرة متوسطة في بلد مثل أستراليا على سبيل المثال أكثر من 10 أجهزة متصلة بحلول عام 2025. وستكون معظم هذه الأجهزة الجديدة عبارة عن منافذ طاقة ذكية ومكبرات صوت ومصابيح كهربائية، بالإضافة إلى أجراس أبواب تعمل بالفيديو وأقفال يتم تنشيطها عن بُعد وكاميرات مراقبة، حسب ما ذكره بروتيل في مقاله.
أتمتة المنازل والوعي بالسياق
ويرى الكاتب أن هذه مجرد البداية فقط، حيث يدفع قطاع صناعة المنازل الذكية باتجاه تبني مفهوم جديد يعرف باسم "الوعي بالسياق" (Contextual Awareness)، وهو يعني أن تتكيف البيئة المنزلية مع رغبات و"روتين" سكانها؛ مثلا تقرأ المنبهات جدول عمل المالك وتضبط نفسها وفقا لذلك، وتكتشف المستشعرات الصحية علامات المرض وتطلب تلقائيا الأدوية، وتقوم البرامج بالتحكم في درجة الضوء وتشغل الموسيقى حسب قراءتها عادات الشخص الساكن في المنزل أو حتى مزاجه الظاهر.
وفي هذه المنازل يمكن تشغيل مضخات المسابح تلقائيا في منتصف النهار عندما تنتج مجموعة الطاقة الشمسية الموجودة على السطح طاقة زائدة، كما يمكن تدريب الكاميرات الأمنية على التمييز بين الشخص الأمين والمتسلل، ويمكن تنشيط مفاتيح الإضاءة عن طريق الأوامر الصوتية، ويمكن للستائر أن تشرق مع الشمس، ويمكن لأجهزة التلفزيون أن تنبض بالحياة عندما يتقلب الشخص على الأريكة. وهناك الكثير والكثير من الأشياء الممكنة في هذه المنازل؛ فمثلا إعداد الحمام قبل الاستيقاظ أو زيادة درجة إشراق الشمس على نافذتك قبل نصف ساعة من الاستيقاظ، أو حتى تشغيل ماكينة صنع القهوة قبل أن تقوم من سريرك.
لكن، هل تحتاج ذلك حقا؟
إذا كان المنزل الذي يدرك وجودك، ويمكنه أن يطفئ الأضواء تلقائيا، يبدو شيئا "جهنميا" بالنسبة لك، أو على الأقل لا معنى له، فأنت لست وحدك.
ففي عام 2020، أجرى باحثون من جامعة موناش الأسترالية مقابلات مع أسر في مقاطعات فيكتوريا ونيو ساوث ويلز لمعرفة أفكارهم حول "رؤى الصناعة" لكيفية عيش معظم الناس في المستقبل، وتم نشر نتائج الدراسة على منصة الجامعة حينها.
كان البعض منهم متحمسا في البداية لإمكانيات التكنولوجيا الفائقة، لكن الأغلبية قرروا في النهاية أن هذا "المستقبل اللامع" لا يتناسب مع حياتهم، وذلك كما ذكرت كاري دالغرين، إحدى المشاركات في الدراسة.
وتقول كاري "كان البحث يحاول فهم التقنيات الجديدة والبراقة التي يمكن أن يقبلها الناس في منازلهم.. وجدنا أن هناك قبولا أوليا بهذه التقنيات، ولكن بعد قليل من الوقت رأوا أن هذا المستقبل لا يتطابق بالضرورة مع الحياة التي يرغبون فيها؛ فلا أحد يريد جزازات العشب الآلية".
وهناك كثير من الناس يفضلون التحكم اليدوي في منازلهم حتى لو تطلب هذا بذل المزيد من الجهد، وفي الحقيقة إن هذا الجهد قد يكون متعة لكثير من البشر، مثلا العناية بالحديقة، وزراعة الورود والأشجار، وقص العشب الزائد أو حتى متعة صنع القهوة في الصباح، هي متع صغيرة لكنها تعني الكثير للبشر.
منازل بلا أسرار
كل ما سبق لا يقاس بسؤال الخصوصية، كما يؤكد بروتيل، الذي يتساءل: من يريد أن تعرف شركات تصميم هذه الأنظمة الذكية كل شيء عن حياتهم الخاصة بين أهلهم وذويهم، فلا توجد أسرار أبدا في هذه المنازل؛ فالشركات التي تصمم هذه الأنظمة لديها وحدات تحكم مركزية وقادرة على الوصول إلى أدق أسرار جميع أفراد العائلة، فهم يعرفون متى تنام ومتى تستيقظ، وماذا تشاهد على التلفاز، وما نوع وجبات الطعام المفضلة لديك، ومن يزورك، ومن لا يزورك؛ هم بكل بساطة يعرفون أدق تفاصيل حياتك وحياة كافة أفراد عائلتك.
لكن هذا لا يقاس فيما لو حدث أي تسريب أو اختراق للبيانات من قبل جهات خارجية أو متطفلين أو قراصنة المعلومات الذين ينتشرون في كل مكان بالدنيا؛ هؤلاء بإمكانهم إذا اخترقوا بياناتك أن يصلوا لكل أسرارك العائلية والاجتماعية وحتى المالية منها.
وهناك شيء آخر قد يكون الأخطر على الإطلاق، وقد يتسبب في دمار النسيج العائلي والاجتماعي، وهو قدرة أفراد العائلة على التجسس على بعضهم البعض، ولم لا، فكل شيء مسجل في هذه المنازل التي لا أسرار فيها على الإطلاق. تُرى من يستطيع العيش من دون أسرار صغيرة؟