نرى الناس العزّل اليوم في خضمّ هذه الحرب المدمّرة، وفي عيد فيروز التسعين، يرفعون بصوتها أصواتهم من حفرة اليأس، ويغنون معها لبيوتهم وديارهم وأطفالهم وأشجارهم وشبابيكهم وذكرياتهم ووطنهم الجريح المكلوم. .
بعد عودتها من جولة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية في أواخر العام 1981، حكت السيدة فيروز في مقابلة صحافية عن تفاعل جمهورها اللبناني معها في الغربة، ونقلت أن الناس كانوا “يقولون لي بصوت عال كلما أُطلُّ عليهم بالرداء الأبيض: يا ملكة، يا بنت بلدنا، خذينا معك”. وتتابع فيروز: “كانوا يفتخرون بإطلالتي ويعبّرون عن حبهم العميق للوطن… غالباً ما كنت أبكي عندما ألتمس طيبة الناس وعفوية تصرفاتهم”. ثم تختم قائلة: “لا أدري، ربما الغربة تكشف أحاسيس التعلق بلبنان الأرض والإنسان”.
كان لبنان غارقاً في حربه الأهلية، بالتزامن مع تلك الجولة، وكانت فيروز قد آثرت ألا تحيي حفلات في لبنان المزروع بـ”النار والبواريد”، وأبقت على هذا القرار حتى انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لتعاود إحياء الحفلات في التسعينات والسنوات الأولى من الألفية الجديدة. المغتربون في الخارج بغالبيتهم تركوا لبنان آنذاك، لأن الحياة فيه باتت أكثر صعوبة مع احتدام الحرب في العام 1975، ثم حصول اجتياح إسرائيلي في العام 1978. وكانت فيروز تنهي جولتها الأميركية على أعتاب اجتياح ثان كانت تحضّر له إسرائيل، ستصل فيه إلى العاصمة بيروت في حزيران/ يونيو 1982.
كان قرار فيروز حاسماً ضد الحرب. واستخدمت “سلاحها” اليتيم، صوتها، في الدفاع عن صورة البلد الذي تتمناه وتحلم به. وضعت مع شريكيها عاصي ومنصور، “استراتيجيتها الدفاعية” المبنية على الغناء، كقبّة موسيقية، تسقط بها الصواريخ والطائرات وتوقف الرصاص وتشلّ الدبابات والمقاتلين، كما لو أنها “المختار” في فيلم “المصفوفة”(مايتركس). وعلى طريقة إيليا سليمان في “يد الهية”، تواجه بالدبكة الآلة العسكرية، وبـ”إسوارة العروس” جنازير الدبابات وهي تفلح في أرض بلدها. في مواجهة الحرب غنّت فيروز لبناناً مخترعاً، يطغى فيه سحر الوطنية على قذارة الاحتلال والتقسيم، فتمحو فيه فيروز بصوتها الأشبه بتعويذة، كل عائق أمام اليوتوبيا المنشودة. بجملة واحدة تستطيع أن توقف الحرب نظرياً، وترسم صورة ناصعة للمستقبل: “قلتلن بلدنا عم يخلق جديد، لبنان الكرامة والشعب العنيد”. وتستطيع بجملة غنائية أخرى أن تحوّل “شوية صخر وتلال” إلى “صخرة الحب وقصر الدني”، وطنها لبنان.
ونالت فيروز ومعها الأخوان رحباني على هذه الاستراتيجية انتقادات لاذعة حتى من ابنها زياد، الذي كتب مسرحيات ضد لبنان الذي اخترعه والده وعمّه ووالدته، واعتبره وهماً يخدّر الناس في علاقتهم بالواقع، ورأى فيه فولكلوراً قائماً على القوافي لا يستطيع الصمود في وجه قسوة الواقع المحشوّ بالكراهية والعنف والمتفجرات.
في هذه الحرب التي فُرضت على لبنان واللبنانيين، يعود الحديث عن الوهم، لكن هذه المرة تتجه أصابع الاتهام إلى الواقع. كل ما باعه “حزب الله” على مدى سنوات للبنانيين من بضاعة استراتيجيته الدفاعية وتوازن الرعب الذي يفرضه على الإسرائيلي، تبيّن أنه وهم خالص. وهنا لجأ كثير من اللبنانيين إلى فيروز بوصفها الوهم المجرّب والناجز، والقادر على رسم وطن متخيّل لكنه يبدو أكثر واقعية من الوطن الذي يعد فيه “حزب الله”.
عندما اجتاحت إسرائيل الجنوب لجأ كثيرون إلى “إسوارة العروس” و”فيكم تنسوا” و”خلصوا الأغاني هني ويغنوا عالجنوب”، وحينما طاول القصف بعلبك وهدّد قلعتها، غنى كثيرون “بتروح كثير وبتغيب كثير وبترجع عا دراج بعلبك”. أشادوا بكلمات الأغنيات “حرزاً” وهمياً يحمون به أماكنهم وذكرياتهم بعدما عجزت الصواريخ التي خزّنها “حزب الله” لسنوات عن ردّ العدوان وعن اللطف فيه.
في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1988، استقبل وزير الخارجية الفرنسي رولان دوما فيروز في وزارة الخارجية في باريس، ودام اللقاء 45 دقيقة. بعد اللقاء قال دوما للصحافيين: “بما أن فيروز ممثلة رائعة لعذاب بيروت ولبنان، لم أتمكن من اختيار رمز أفضل من السيدة فيروز لنعبّر عن حبنا للبنان، وأمنيتنا بأن نرى هذا البلد وقد استعاد توازنه”.
هذا وزير خارجية دولة عظمى، كانت ذات يوم مُستعمرة للبنان، يقول إن فيروز ممثلة رائعة لعذاب بيروت ولبنان. هي بمعنى من المعاني صرخة الملايين في وجه العذاب واليأس والهزائم. ولهذا السبب حينما انفجر مرفأ بيروت باللبنانيين، اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يزور السيدة فيروز في بيتها وأن يكرّمها، لمعرفته أن صوتها انعكاس لقهر الناس المكتوم.
ولهذا أيضاً، نرى الناس العزّل اليوم في خضمّ هذه الحرب المدمّرة، وفي عيد فيروز التسعين، يرفعون بصوتها أصواتهم من حفرة اليأس، ويغنون معها لبيوتهم وديارهم وأطفالهم وأشجارهم وشبابيكهم وذكرياتهم ووطنهم الجريح المكلوم.
هي سلاحهم الأعقل في وجه كل هذا الجنون.
هي حقيقتهم الساطعة في وجه كل هذا الوهم.