بنَت اليمن أغنيتها على جمهور قليل متحفظ، مارس الفن بالسرّ غالبًا، مع ذلك لم تصبر الأغنية اليمنية كثيرًا حتى كان لها الانتشار في المحيط، لجودتها الطربية سريعة الذوبان والإطراب بين الآذان العربية.
تعمّرت الأغنية اليمنية كثيرًا بنفس لونها الأصلي الذي لم يتغيّر كثيرًا إلى اليوم، مع مرورها بفترات قليلة من نهوض وظهور وتجديد، وما زالت نقوش متحجرة تحكي بصور واضحة كيف أترف فن الغناء موائد الأغنياء اليمنيين في السابق البعيد منذ مئات السنين، قبل لغة الأغنية الحمينية حتى.
في وقفتين سنتحدث عن هذه الرحلة الصعبة، وباختصار يلمّها، سأحاول طرح الأهم فالمهم، وكما وصلت الأغنية اليمنية اليوم إلى هذه الحالة الصعبة أساسًا، كان لها بداية ملحمية، وهي ما ستحويه هذه الوقفة، وستكون وقفتنا التالية بمرور الأغنية اليمنية بعصر الإمامة والاستعمار وقصتها هناك، وانتقالها إلى عصرها الذهبي وانتعاشها في فترة الحلم الجميل المفاجئ.
البداية المحاصرة بين الحكمي والحميني
عجن الغناء اليمني في بداياته نوع من الحدود الضيقة، بالغناء الفصيح بكلمات ما عرف بالشعر الحكمي، الذي جاء أغلبه من خارج اليمن، أو كان على لون ما نظم خارجها دون خصوصية محلية، من نفس العروض والقواعد التقليدية شكلًا، أو معنى في اختفاء الغزل في صفوف التصوّف، وتمترست أبيات الحب بين التهليل والصلاة على النبي، وتنازعت المفردات معاني التسبيح والغزل، وبين حب الله والمصطفى إلى حب الهوى الجسماني، كاد بذلك الخوف من فضيحة الحب أن يتكوّر الغناء في الإنشاد، لولا صوت الوتر في الأغنية.
بهذا التحفظ الشديد لم تتجرأ الأغنية اليمنية في بداية ظهورها شبه الناضج، أن تخرج من قافية العارفين بالفقه واللغة، فشدا مطربو المجالس الضيقة بكلمات الفقهاء والأولياء، من شعر البرعي إلى ابن الفارض وابن علوان وابن عربي، وغيرهم ممن تحدثت كلماتهم برموز الحب الإلهي عن العشق البشري.
وبالتخفي تحت غطاء هذه الرموز، وصف الحبيب محبوبته، ووصف المطرب بوقار بالغ حبه عن حب الله، وحتى وصفت الأبيات حلاوة سُكر السلافة مستعينة بوصف سكرة رؤية وجه الله، فيقول ابن الفارض:
"شربنا على ذكر الحبيب مدامة *** سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
يقولون لي صفها فأنت بوصفها *** عليمٌ أجل عندي بأوصافها علم
صفاء وماء ولطف ولا هوى *** ونور ولا نار وروح ولا جسم
فلولا شذاها ما اهتدينا لحانها *** ولولا سناها ما تصورها الوهم".
وهكذا تبنّى العديد من المطربين في القرن الرابع عشر الميلادي وما قبله هذا التلوّن والتخفي، حتى اهتدى للشعر غير القانتين. فكان الزجل الشعري العامّي أكثر حرية من سابقه الفصيح؛ لأن من بدؤوا به كانوا خارج إطار أحكام التدين واللغة، وسمّي شعرهم "حمينيًّا"، وكان أدنى مرتبة من قصائد علماء الفقه واللغة الفصيحة عند أصحاب رأي ذلك العصر.
وبهذا التحرر الكلامي، والولوج أكثر داخل الحدود اليمنية، انتقلت القصيدة الغنائية من مواضيع الغزل الروحاني إلى الحب الخاص والنكهة المحلّية المؤطرة بالفكر اليمني الشعبي، فظهرت القصيدة الحمينية أكثر لوعة وهوى وحبًّا ووضوحًا وبتعبير ثقافي أقرب، إلّا أنها لم تتخلص من بدايات التهليل أو ختام الصلاة على النبي، فحافظت أغلبها وخاصة أوائلها على هذا النمط الذي يعطي قصيدة عاطفية غزلية كرتًا للعبور، وفرصة للتوبة أحيانًا. فمثل أحمد بن عبدالرحمن الآنسي الذي كان له نظمٌ حمينية كثيرة، يبدأ إحدى قصائده المغناة:
يا جزيل العطا نسألك حسن الختام *** فرّج الهم واكشف مضيقه
واجعل المصطفى شافعي يوم الزحام *** يوم يفر الشقيق من شقيقه
المعنّى يقول في هوى سامي القوام *** قد تحملت ما لا أطيقه
غصت في بحر ما له طرف يا أهل الغرام *** وأصبحت مهجتي فيه غريقة
ويختم أبياته:
والصلاة تبلغ المصطفى خير الأنام *** وعلى الآل أهل الطريقة
من المهم معرفة بدايات القصيدة الحمينية لربط ذلك تاريخيًّا ببداية التحرر اللفظي والمعنوي، فقد يشار إلى أسماء مهمة في شعر الزجل الحميني، روّاده الأوائل ابن فليتة والمزّاح، في قصيدة ابن فليتة الشهيرة "لي في ربى حاجر غُزيّل أغيد"، وقصيدة المزّاح "يا غصن مايس يا قمر مصوّر"، وكان لابن فليتة السبق في تأدية قصيدته في الغناء، لمعرفة المؤرخين به بأنه مطور للموشحات الأندلسية وناقل لها بتحوير يمني إلى موشح حميني في اليمن، وللمزّاح لقب أوّل شاعر حميني يساهم في موشحات الغناء الصنعاني الحمينية وإنضاجها.
إلّا أن اسمًا قد يسبق الاسمين السابقين، من خارج اليمن، هو الشاعر ابن سناء الملك شاعر الموشحات الأندلسية، الذي كتب قصيدته "يا نسيم السحر" المبيّتة قبل نظم ابن فليتة بمئة وخمسين سنة. ولكنها تأخرت في الوصول إلى أنغام المطربين في اليمن، إلى بعد تغنيهم بشعر ابن فليتة الحميني، ويعدّ ابن سناء الملك شاعر الحمينية الوحيد من خارج اليمن.
ولهذه القصيدة- "يا نسيم السحر"، شكل أول للقصيدة الحمينية، الشكل "المبيّت" الذي يتألف من فقرات؛ كل فقرة لها قافية مستقلة تشترك أواخرها بنفس القافية، وتتكون الفقرة عادة من ثلاثة أجزاء هي البيت (الجزء الرئيسي) والتوشيح (جزء يتوسط الفقرة) والتقفيل (جزء يختم الفقرة)، وذكرت في مصدرها الوحيد الذي ذكرت فيه في كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، الذي سمّى جزء "البيت" فيها بـ"الدور".
تطوّر الشعر الحميني شكلًا عن سابقه الفصيح الحكمي، فخرج بحرية إبداعية أكثر، سمحت بالتنويع اللحني حتى بعد أن كانت الألحان الصنعانية رتيبة ولها نفس النسق. فعملت الوقفات والأبيات والتقطيع على تشكيل اللحن، ورسم طرقه. وتغيرت مواضيعه، فناقش الشعر الحميني مواضيعَ أكثر قربًا من شغف الإنسان، حبًّا جسمانيًّا يضع لوصف المحاسن والمفاتن مكانة أكبر، كما جاء في القصيدة الحمينية:
شاقْسِم بمن قد رصف في صحن تلك الخدود *** أزهار متجانسة
أني تشككت حين عاينت تلك النهود *** في القامة المايسة
هن عنب أم ليم أم ليمون أم عنبرود؟ *** أمثال متقايسة
يا بدر في عشر وأربع ثم يا غصن آس *** يا من بحسنه سما
ونعرف من هذا المثال كم تجلّى وصف المفاتن الذي كان محظورًا في السابق قبل القصيدة الحمينية، أو يذكر برموز تغطي وضوحه بهذا الشكل.
كاد بهذه النقلة النوعية والانفجار في المعاني الذي حصل للشعر الحميني، أن يُنظر إليه بمرتبة دنيا حسب مزاج التحفظ الأول، إلى إنقاذ بعض الشعراء الحمينيين الذين تقدّموا للمعركة الحمينية وهم في كامل مكانتهم الاجتماعية المعتبرة في مجتمع ذلك العصر، أمثال الشاعر محمد ابن الإمام شرف الدين يحيى، فأعطوا الشعر مكانتهم الاجتماعية عند الولوعين بالمكانة الاجتماعية الزاهية، فأنقذ ذلك الشعر الحميني عندهم من الانفلات، إضافة إلى نزعة ابن شرف الدين الروحية، وأسلوبه الرقيق وإدخاله الأول لأسلوب القصة والحوار إلى الشعر الحميني.
كما ظهر الشعر الحميني ذكوريًّا إلى حدٍّ بعيد، فلا نحصل على قصيدة حمينية تلعب فيها المرأة دور المحب!
بل جاء شعر الرجل للمرأة متنوعًا بغزارة شديدة، بمختلف الأشكال والحالات، كما أنكر الشاعر ابن شرف الدين حبه لفتاة صغيرة:
"هو يرحمه قلبي من صغر سنه *** ما هو شَفَق من مبسمِه وعينه
وأنتم تقولوا أعشقه لحسنه *** وأن قده غرّني بغصنه
حسنه لنفسه أيش عليّ منه *** كيف أعشقه والهجر صار فنّه؟"
ورغم هذا التنوّع الكبير في شعر الذكور، لم يكن للأنثى أي دور إيجابي -وصل إلينا على الأقل- بين هذه الأشعار والغزليات، وحتى فيما سأتطرق إليه لاحقًا عن دور المرأة في الغناء اليمني، يكاد دورها أن يكون محدودًا جدًّا في التأدية دون إبداع الشعر.
وكما للأغنية العامية في هذه الفترة من مواضيع حاولت الخروج من سجنها الفصيح، تحدثت الأغنية الشعبية كذلك بلغة قوية، عن سخط أو عن فضيحة أو عن رفض لعادة مجتمعية، كما في أغنية "الدودحية" الشهيرة التي يبلغ عمرها أكثر من مئتي عام، إلى حوالي بداية القرن التاسع عشر، والتي عبّرت عن سلبية رفض زواج الأحبة، ومنعهم من الحب "الحلال"، إلى توريطهم في الوقوع في الحب "الحرام"، ومأساة العاشقة "الدودحية" وحبيبها اللذَين مُنعا من الزواج، فوقعا في علاقة غير شرعية وواجها المآسي من المجتمع، ومن الأغنية:
"والدودحية من أغوى عقلها
تقوم من الصبح تصيح من بطنها
أمان يا نازل الوادي أمان
يا دودحية أبوش كان مستريح
واليوم أُمِّش تعزّي (تبكي) وأبوش يصيح".
وبهذا كله انتقلت الأغنية اليمنية من ملحمة الكلمات إلى عصر حروب أخرى. ولوج يفتح لها أبوابًا صعبة كثيرة، إلى ظهور التسجيل وما تبعه، إلى انتعاش يردّ إليها روحها بل ويزيدها أرواحًا غنية، وهذا ما سنقف عنده في النصف الثاني من رحلة الأغنية اليمنية.
نصف القرن العشرين الأول.. بين التسجيل والحظر
منذ بداية القرن العشرين، استهلّت تسجيلات الأغاني بعد إنشاء أولى شركات الأسطوانات في عدن، وكانت تجلب الأسطوانات حينها من إنجلترا ويسجّل عليها في عدن، وأنشأت شركات أهلية عدة، منها أسطوانات "طه فون" و"التاج العدني" و"جعفر فون"، فشهدت عدن تطورًا سريعًا وانتشارًا سابقًا لتسجيل الأغاني، وخاصة مع حظر التسجيل أو تداول التسجيلات الغنائية وأدوات الطرب آنذاك في شمال اليمن.
بهذا المنع سافر كثير من مطربي الشمال إلى عدن وغيرها من المدن خارج اليمن، من جيبوتي أو أديس أبابا، لتسجيل أغانيهم واحتراف الغناء، ومنهم صالح العنتري، الشيخ المطرب الزبيدي الذي تعلّم الغناء على يدي المطرب اليمني محمد شعبان في أثيوبيا وسجّل معظم أعماله في عدن.
وكانت أسماء كثيرة قد ظهرت في عدن بخلاف الشمال، تنافست وتلوّنت وتعددت حتى استوردت شعر الغناء الصنعاني إليها لتشدو به، فسجّلت أغانيَ حمينية كثيرة في عدن، بأصوات أشهر مطربيها آنذاك في بداية القرن العشرين إلى منتصفه أمثال القعطبي والمسلمّي وإبراهيم الماس وباشراحيل والجرّاش.
وفي صنعاء، سكن الغناء في المجالس ومقايل القات من دون تسجيل، فاشتهر فيها مطربون محدودون كانوا يحيون مجالس الأمراء والأغنياء بالغناء، أمثال قاسم الأخفش، ولم تخرج ألحانهم ولا كلماتهم عمّا اعتادت عليه هذه المجالس منذ مئات السنين. بخلاف الأغنية الرسمية التي كانت تغنّى بإنشاد عام ومسموع ومسموح؛ لأنه لا يمس العاطفة والحب بل يثير الحماسة لخوض الحرب، فكان يؤدي جند الإمام يحيى نصًّا بلون "الزامل" الشعبي بشكل جماعي، كما في كلمات أغنية جنود الإمام يحيى:
"والعزّ يا صبيان قومي
ما يأتي إلا بالغضايب
والذي يجني بأول شبابه
ما حصّله والرأس شايب
يا من تمنّى حربنا
لا بد ما يطلب عوافي
أو ينادي بالصلاح".
في إذاعة صنعاء، عانت الأغنية كثيرًا، بين إذاعة متسللة لها، لواحدة في ليلة، وبعدها واحدة أخرى بعد ليلتين أو أكثر، وبين منع يصل إلى شهرين أو ثلاثة أشهر، لميول الإمام أحمد إلى الذين أمروا "بالنهي" عن بث الأغاني، فكانت تبث من دون أمر رسمي، وتُمنع به.
بذلك كان محدودًا جدًّا لمن سُمح لهم إذاعة أغنية في إذاعة صنعاء شحيحة الإذاعة أصلًا، وكان المطرب محمد أبو نصّار من أوائل من أذاعوا أغانيهم فيها، فانتمائه للأسرة الحاكمة في شمال اليمن آنذاك، سهّل له طريق بث الغناء كما صعّبه في بدايته لتحفظ أسرته، مما اضطره لاستخدام كنية أبو نصّار، وفي نهايته كذلك بقيام الجمهورية وغنائه من المنفى ومنع أغانيه داخل اليمن. كان محمد أبو نصّار يحمل همًّا بعيدًا عن مشاركة الحكم والسلطة، فاندمج بتلحين أشعار أخيه الشاعر يحيى بن حسين حميد الدين وغنائها.
وللمرأة من ذلك الغناء نصيب خجول، فقد اشتهرت أصوات نسائية من صنعاء وحولها بأسماء مستعارة، كانت تسجّل، إن تم ذلك، في عدن، وكما اشتهرت هذه المدينة بطبع الأسطوانات، نشرت ثلاث أسطوانات فقط معروفة اليوم لأصوات نسائية من صنعاء هي: فاطمة الصنعانية، والمطربة المحجبة، وبنت البلد.
أما في صنعاء فقد تخفّت المطربات داخل البيوت، فما صح أن هناك ثلاث مطربات عوّادات فقط كنَّ في صنعاء، بنتان وأمهما، اشتهرن صوتًا لا اسمًا ولا شكلًا. ولما كان في صنعاء من احتفاء بالإنشاد اشتهرت كذلك منشدات معروفات، أمثال الديلمية ومريم مجلّي وصفية البابلي، وكن معروفات لإباحة الإنشاد الديني وإقامة الموالد آنذاك دون الغناء.
كانت هذه الفترة، في النصف الأوّل من القرن العشرين الماضي، محدودة الإنتاج الجديد في الشمال، وكان أغلبه في أمثلة بارزة في الجنوب كانت تغطّي الحاجة، فكان الأمير القمندان سيلًا من الشعر يمر على ألحان فضل اللحجي- رائد الغناء اللحجي الأوّل، ولشعراء آخرون مثل عبدالله هادي سبيت، وعمر عبدالله نسير، دورٌ في المشاركة الشعرية الأقرب إلى قلب الثقافة اليمنية آنذاك.
وللاستعمار البريطاني في جنوب اليمن دور مهمّ في انتشار الأغنية اليمنية، العدنية تحديدًا، رغم مضايقته لها، إلّا أن سبل الإعلام من التلفزيون والإذاعة أتاحت الفرصة للأغنية العدنية بالظهور، فكانت أوّل أغنية تسجّل "فيديو كليب" في شبه الجزيرة العربية هي أغنية عدنية، أغنية "جاني جوابك" التي لحنها وغناها المطرب محمد محسن عطروش، من شعر عمر عبدالله نسير، في بداية الخمسينيات من القرن العشرين.
تحددت أغلب المواضيع الغنائية في تلك الفترة في العاطفة وحب الأرض ووصف الطبيعة، ولم تطل دور الكفاح السياسي إلّا باقتراب اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963، حيث اشتعل الغناء جنبًا إلى جنب مع النضال الشعبي ضد الاستعمار.
حلم الفترة الذهبية بعد الثورتين
تمكنّت الأصوات الغنائية من الظهور أكثر بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر، في الشمال والجنوب، وشهد الغناء اليمني مرحلة أخرى جديدة خاصّة في الشمال مع ظهور العديد من المطربين والشعراء الغنائيين، خاصة في فترة نهاية الستينيات وعقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. فقد كانت هذه فترة ذهبية للأغنية في شمال اليمن، ظهرت فيها أسماء لمطربين في قمة حماسهم وإنتاجهم مثل علي بن علي الآنسي، وعلي عبدالله السمة، وعبدالباسط عبسي، وأحمد السنيدار، ومحمد حمود الحارثي، وأيوب طارش، وغيرهم الكثير من الأسماء التي انفجرت خلال هذه الفترة بغزارة، منها أسماء نسائية شهيرة، مثل منى علي، وتقية الطويلية، ونبات أحمد، بصورهن وأسمائهن وأصواتهن هذه المرة.
وتخلّت الأغنية الصنعانية عن عزلة العود بإدخال التخت الموسيقي المتكامل، كما في تجربة علي الآنسي الأولى نهاية الستينيات، التي سجل فيها 10 أغانٍ صنعانية في بيروت، بتخت موسيقى عربي متكامل.
وناقشت مواضيع الغناء في هذه الفترة مع تأثير الثورة التي تملّكت جميع أطراف الحياة آنذاك، وطن الجمهورية والانتماء لها مع بعض الحب الباقي في رائحة الأرض والبن و"حمينيّة" الأغنية الصنعانية، كما تجددت الأغنيات القديمة إما بأصوات وأساليب جديدة، كما أبدع الحارثي بتأدية الأغنية الصنعانية القديمة، أو باستعارة شكل القصيدة الحمينية، أو باستيحاء مواضيع والعمل على قوالب جاهزة بشكل جديد، مثل تجربة مطهر الإرياني في استعارة (الدودحية) وإلباس كلماته لحنها التراثي القديم، ربما ليخفف بذلك القوة الصريحة التي كانت بها الكلمات الأولى، ويرققها، ويخففها عما أحدثت من مشكلات، فتحدث بكلمات العاشق لـ"الدودحية"، فكانت مطلع كلماته الشهيرة:
"خطر غصن القنا
وارد على الماء نزل وادي بنا
ومر جنبي وبأجفانه رنا
نحوي وصوَّب سهامه واعتنى
وصاد قلبي
أنا يا بوي أنا
أمان يا نازل الوادي أمان".
بهذا تجددت المواضيع وتنوعت، فكان مطهر الإرياني يناقش حبًّا سجينًا بين الأرض والخواطر والشكل الحميني، كما تغسلت كلمات الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان بلون الخضرة والحب والوطن الكبير، ورقّت كلمات محمد عبدالباري الفتيح للأرض والقرية، وأما كلمات سلطان الصريمي، فقد رقّت للحب والجنون ونضال الرمزية، ومن ينسى أغنية "نشوان"؟
كانت "نشوان" تحفة الصريمي والمرشدي الخالدة، تحدثت عبرها الأغنية بصوتها العالي جدًّا. فبعد أن نشرها الصريمي نصًّا لم يمتعض منها أحد، ولكنه اعتقل في صنعاء مع أوّل إذاعة لها في عدن سنة 1979، وحظر سماعها في الشمال، فقد كان لألحانها التي شدا بها المرشدي بحثٍّ من نظام الحكم في الجنوب آنذاك، صدى خارقًا أحدث شرخًا أكبر في مسامع نظام الشمال آنذاك، إبان الحرب بين نظامي الشمال والجنوب، التي حدثت في تلك السنة.
كان جنوب اليمن في تلك الفترة مسرحًا كبيرًا للأغنية، متبنّيًا ما طوره في عهد الاستعمار، جاء بأسماء كبيرة أنضجت شكل الأغنية اليمنية، موضوعًا ونغمًا.
لأسماء مثل أحمد بن أحمد قاسم موسيقار عدن الكبير، والمرشدي- محمد مرشد ناجي، ومحمد محسن عطروش، ومحمد سعد عبدالله، وأحمد صالح عزاني، وإسكندر ثابت، وغيرهم من فناني جنوب اليمن، فهمٌ واسع في الأغنية اليمنية، وشكّلوا مرحلة أخرى تواكب مرحلة الأغنية في الشمال، كما كان مجالهم واسعًا كذلك في إقامة الحفلات العامة وإذاعة الأغاني. وكما كان للشمال، كان للجنوب صوت نسائي أوضح، مطربات كبيرات مثل أمل كعدل، وفتحية الصغيرة، وكان لهن ظهور أكثر وصوت أعلى وإنتاج أغزر.
وتكلمت حينها الأغنية العدنية في شعر لطفي جعفر أمان برقّة حب وبخيال رومانسي كبير، حتى تحمّلت ريادة الشعر الرومانسي اليمني من خلال كلماته. كما عاشت كلمات القمندان أكثر في ألحان فيصل علوي، وتجددت مرة أخرى في ألحانه كلمات عبدالله هادي سبيت وأحمد سعيد ثابت، ونشطت على كلمة محمد سعيد جرادة في مجالس الغناء، وسماع الدان الحضرمي، وأخيرًا من رقائق حسين أبوبكر المحضار، بعد أن كان يكتفي أبوبكر سالم بالغناء بلهجة عدنية في إذاعة عدن. وظهرت قوالب جديدة على عدن بهذه الاحتفالات الكثيرة، مثل المونولج.
وكان للأغنية اليمنية في هذه الفترة، كما في كلمة لطفي جعفر أمان، تحوّلًا ملحوظًا، من شعبية عامية إلى عامية فصحى أكثر اتزانًا ورقة وشفافية، فكان لطفي جعفر أمان شاعرًا ناقدًا يرى في الشعر الرومانسي العاطفي والوطني مجالًا لتطوير وتهذيب الأغنية اليمنية والعدنية خاصة، فكتب بالفصحى وبالعامية جامعًا لهما في حفلة تحوّل كبيرة، فتحف خالدة مثل "أسمر وعيونه" التي غناها الفنان الكبير أحمد قاسم بنكهة لا تخلو من التأثر المصري، وكما غناها الفنان أبوبكر فارع، وغيرها الكثير كتحفة أخرى "إلى متى؟" التي غناها الفنان محمد مرشد ناجي، التي وضحت فيها لهجة عدنية بالغة الاتزان والرقة، ومن كلماتها:
"إلى متى أحتار في حبك كده؟
واسأل ظنوني عن هواك
وأخاف يضيع عمري سدى
قول لي بصراحة أيش نهاية حبنا من بعد ده
هي كلمة وحدة.. كلمة منك
يا كده وإلا كده"
لذهبية وغزارة هذه الفترة يصعب علينا الإلمام أكثر بما أنتج فيها من الأغنية اليمنية شمالًا وجنوبًا، وما ذكرناه موضحًا للصحوة الفنية للأغنية اليمنية فيها، إضافة إلى تكوّن فِرَق الغناء بشكل جديد على الأغنية اليمنية، فكانت فرق الغناء التي تتبع عادة الجهات الحكومية شكلًا رسميًّا منضبطًا ومرتبًا يظهر على الشاشات الرسمية لتأدية الأغنية أو النشيد، وما تؤديه أحيانًا من رقصات شعبية كان له لون جديد غير مسبوق من قبل، أو مثل دخول قوالب أخرى جديدة على الأغنية اليمنية كالمونولوج.
لم تستمر هذه الفترة الذهبية كثيرًا، فعقدة التغيرات السياسية والشحنات التي أثرت سلبًا على الأغنية اليمنية، أيقظت الأغنية من حلمها الجميل، لتعود بها للترديد والتكرار بمحاولات يائسة أو غير مجدية للتجديد، عادت الفِرَق الموسيقية إلى العدم، وعاد العود والإيقاع سلطاني الأغنية اليمنية، كما كانت قبل مئات السنين.
واليوم، يكتفي المستمع للأغنية اليمنية بالموجود، ولا ينتظر الجديد؛ لأننا نواجه ركودًا مخيفًا في التجديد، يعود هذا أولًا للوضع القائم، ولفكرة نبذ الفن التي تبناها العديد من الناس منذ مطلع التسعينيات لأسباب كثيرة، كان للوضع السياسي الأمر الأول فيها بتأثير الأفكار التي تنبذ الفن أو بأحسن الأحوال تعتبره من الكماليات غير الضرورية للنهضة الثقافية.
مع ذلك، فإن الاستمرار الذي ينازع اليوم، ونضال الأغنية اليمنية من أجل الصمود، مؤشر مهم لما تحويه من أهمية وقيمة كبيرة لم تتمكن أي قوة متنكرة لها من محوها أو إخضاعها أو إسكاتها، وتؤكد الأغنية اليمنية أنها النقش الذي لن يمحى أبدًا من ثقافة هذا البلد.
المراجع ومصادر المعلومات:
- الثقافة والثورة في اليمن، عبدالله البردّوني، الفصل العاشر: معالم ثقافية، مذياعا صنعاء وعدن.
- الثقافة والثورة في اليمن، عبدالله البردّوني، الفصل الرابع: الجانب الثقافي، كتابان عن المرأة.
- الثقافة والثورة في اليمن، عبدالله البردّوني، الفصل السابع عشر: أطوار الفن الغنائي.
- شعر الغناء الصنعانيّ، د. محمد عبده غانم، دار العودة – بيروت.
- رحلة في البلاد العربية السعيدة، نزيه مؤيد العظم، مؤسسة فادي برس – لندن.
- لطفي أمان: دراسة وتاريخ، علوي عبدالله طاهر، الباب الثالث: لطفي والأغنية اليمنية.