الأستاذ أحمد، وهذا هو لقبهُ، كأنه الأُستاذ الوحيد لا سواه، إنسان بقي قابضاً على معناه الإنساني من الشهقة الأولى بين يدي القابلة حتى النفس الأخير الذي أسلم روحه إلى بارئها ووضع جسده بين يدي الحفار.
كان الأستاذ أحمد قاسم دماج جريئاً بما يكفي ليعيش الحياة بشروطه، ولم يندم أبداً عن ذلك.
كان صادقاً وحقيقياً، لم يضبط يوماً وهو يدّعي شخصية غير حقيقته الأصيلة ومعدنه الإنساني النادر. إنحاز إلى العدالة والمظلومين، وكل ما هو جميل في الحياة، وجعل من القِيم الوطنية والأخلاقية بوصلة يهتدي بها، لكنه لم يلجأ أبداً إلى اليقينيات الآيديولوجية من أي نوع ليُلقي همّه على ظهرها مستقيلا من عقله وذاته.
رفض أن يتوافق، لم يسلك الطريق الأقل تعباً، لم يأبه يوما بالربح والخسارة. النصر والهزيمة لا معنى لهما عنده؛ إن لم يكونا نتيجة للموقف القيمي الإنساني والروح الكفاحية من أجل العدالة والخير العميم لكل الناس.
لا يغيِّر موقفه عندما يتغلب نظام مستبد، أو تتغول قوى التخلف في حاضر اليمنيين ودولتهم وواقعهم الاجتماعي. هذا هو ما يفسِّر قوله في لحظات قاتمة كهذه، ساد فيها الظلم والنّخب النفعية المنتفخة بخوائها: "أنا في صف المهزومين، مع الهامش، مع المقصيين، مع المقهورين والفقراء المستضعفين".
ضحك في وجه الشدائد، وانحاز للناس دون أن ينظر إلى العواقب، ويزنها بموازين المكانة الشخصية، ومساحة ما تحققه من أبَّهة ونفوذ وانتفاخ استهلاكي.
- جيل القدوة الشخصية
هو من هذه السلسلة المتفرِّدة في تاريخ اليمن المعاصر، سلسلة من أسماء ذهبية أصيلة لها رنين: أحمد قاسم دماج، عمر الجاوي، محمد علي الربادي، يوسف الشحاري.
ما الذي ميَّز هذه الشخصيات، وصنع فرادتها في كل مجال طرقتهُ، وانتمت لهُ؟
هُم مناضلون، ولكنهم احتفظوا بنزاهتهم الوطنية والشخصية، ولم تتمكن أحابيل السلطة ومراوغات السياسة من جرهم إلى قاع سقط فيه كثيرون.
مارسوا السياسة دون أن تلوثهم برجماتيَّتها، وصراعات المصالح التي حولتها إلى ميدان انفلت بالتدريج من ضوابطه الأخلاقية والوطنية.
انتموا لأحزاب، وحافظوا على المسافة الفاصلة بين الفرد صاحب الموقف، والتنظيم الحزبي الذي انتموا إليه، ولم يذوبوا فيه، أو يفقدوا فعاليتهم الشخصية في "مؤسسته".
كانوا أدباء، ولكن الأدب عندهم جزء أصيل من شخصياتهم، لا حالة تقيم برزخها خارج نبض الحياة، تبرره باسم الجمال وكأنه شيء يتحدد لذاته خارج الإنسان، واشتباكه بذاته وبواقعه وعالمه المحيط به.
كلّما فكرت بالأستاذ أحمد، يحضر رفاقه، تحضر هذه القامات السامقة؛ رفاقه في الانتماء لتيار الوطنية اليمنية الذي كانوا من مؤسسيه وروّاده وزملائه في "اتحاد الأدباء اليمنيين" كمؤسسة ذات دور ريادي في تاريخ اليمنيين.
النزاهة هي ما يميِّز الأستاذ أحمد؛ نزاهة اليد، ونزاهة الروح، ونزاهة المسلك، ونزاهة المقصد، ونزاهة الذات.
ضرب مثلا في القدوة الشخصية، ولكنه لم يشكُ يوماً من ضيم، ولم يُضبط متذمِّراً من عدم الإنصاف.
لا ثروة مادية، ولا أرصدة في البنوك، عاش متنقلاً في بيوت الإيجار، لكنه ينظر في عينيك كأنه يملك الدنيا بما فيها.
- لمحة من مواقفه ورؤيته الوطنية
في عام 2007، كثّف أحمد قاسم دماج رؤيته حول نظام صالح الذي أعَّد البلاد للسقوط الكبير، بهذه الحملة من مقابلته مع صحيفة "الشارع":
"النظام القائم الآن مش حق الشمال ولا حق الجنوب. النظام الآن نظام منحط يمني بشكل كامل؛ لأنك لو تشوف الأزلام الذين يصنعون المستبد، ستجد أنهم من صنعاء بقدر ما هم من عدن وحضرموت.. هؤلاء الأزلام الذين يدعمون الانحطاط القائم الآن هم من كل مناطق اليمن. هذا نظام تجمعت فيه رواسب صراع أطراف الثورة اليمنية، إن صح التعبير. من أحداث أغسطس في صنعاء، عام 1968، إلى أحداث يناير في عدن عام 1986؛ تجمَّعت النفايات هذه كلها وشكَّلت هذا النظام".
ينتمي للجمهورية، ويُقدِّر السلال، ويراه الأقرب له، وكان من فريقه؛ إذ عمل أميناً عاماً لأول مجلس وزراء بعد الثورة، لكنه لا يُعادي القاضي الإرياني، الرئيس الذي جاء به انقلاب 5 نوفمبر، وسُجن مرتين في عهده.
قال لي ذات يوم: "القاضي الإرياني يتميَّز بثلاث: نزاهته؛ يده نظيفة، والثانية وطنيّته: لم يكن عميلاً للخارج، وعقلانيته: لم يكن متطرفاً".
كان يدرك تماما تركيبة القوى التي اتخذت القاضي الإرياني مظلَّة لها.
- منظور يتجاوز الفرز بين فسطاطين
على مبدَئِيّته، وحِدّته حينما يتعلق الأمر بما يمسّ قيمه وما يؤمن به، لم يكن من النّوع الذي يركن على فرز جذري عقيم، ويعجز عن إيجاد مساحة للفعل والتأثير مستنداً للخط الفاصل.
هنا تتجلى أصالة الأستاذ أحمد؛ الحضور والفعل والتأثير والموقف، لا الانسحاب والعدمية.
ينصف القاضي الإرياني، متأملاً في تاريخنا المعاصر، لكن مرتكزه الأساسي مع جيل الجمهورية وشبابها الذين تماهوا بها معنى وقيمة ومسلكا نضاليا، ووهبوا حياتهم لأجلها.
الشباب الذين زج بهم انقلاب 5 نوفمبر في السجون، نكلوا بهم وسحلوهم في شوارع المدينة التي دافعوا عنها حين هربت القيادات خارج اليمن.
في قصيدة له يرثي محمد مهيوب الوحش، قائد قوات المظلات والصاعقة، الذي خلف القائد عبدالرقيب عبدالوهاب، واغتيل وسط ميدان التحرير، كتب يقول:
الجبال
الشرفات
الناس
وجدان المدينة
وزوايا الألق المحروس في التاريخ مما لم يباغته الخراب
كلها شاخصة نحو الذُرى تبحث عن سر البداية
عن تفاصيل هي المعنى إذا ما انطمست في عمرنا كل المعاني
وتلاشى في سراديب من الوحشة ما خلناه فجراً وانبثاقاً
*
التهاويم
البلاد
الشجر المسكور
أسراب العصافير وهجس الأقحوان
تتقرى في الذرى أسرار من فجرها ماء وأعطاها المهابة
وأتى يخلق للأشياء مضموناً وأسماء لأسماء الإشارة
عن غلام جعل الخندق آماداً ووجه الأرض زهواً
والمسافات حصان الخطوة البكر حسام الابتسام
- أبعاد متعددة، وذات غير منفصمة
توهّجت وروحه حتى الثمانين وبقيت عيناه محتدمتين حتى أنطفأت الحياة في جسده وغادرته روحه لتحلِّق في فضاء الله اللا مرئي.
اعتصم بصدقه وأصالته وانتمائه كإنسان من أول شهقة حتى آخر نفس.
عاش في منطقة التماس بين أبعاده المتعددة.
هو كلها، وبينها في الوقت نفسه.
لا تستطيع أن تُلِم بِه من زاوية انتمائه كحزبي انتمى للحركة الوطنية من أول وهج لها.
ولا تستطيع الإمساك به فقط من بُعد فعاليته المدنية والنقابية والقيمية التي تمازجت كلها في دوره المؤسس لاتحاد الأُدباء والكُتاب اليمنيين.. وكفى.
ولن يكون بمقدورك حصره كشاعر فذ ومتميِّز، وقراءته من قصيدة هنا أو هناك، بمعزل عن حياته التي مثَّلت قصيدته الأصيلة الممتدة لثمانية عقود.
ولا يكفي أن نستشرفه من منبعه كإنسان أصيل طَبع علاقته مع كل من حوله في أبعاده الخاصة والعامة بطابعه كشخصية أصيلة وذات حضور ثري ومؤثِّر على كل من حوله وما مرّ وسطه وانتمى إليه.
هو كل هذه الأبعاد مجتمعة في سبيكة إنسانية نادرة تُدعى أحمد قاسم دماج.
ذات غير قابلة للتجزأ والازدراجية والانفصام والتناقض.
لا تستطيع أن تفصل الشاعر فيه عن الدور الريادي الوطني، وعن الحزبي الذي انتمى للتنظيم الذي يشبهه في وحدة المشروع والمؤسسة، وعدم تجزُّؤهما كنقيضين (الحزب الديمقراطي)، وعن دوره المدني النقابي الوطني الوحدوي "اتحاد الأدباء والكُتاب".
كان فيها كلها
ومنفلتاً منها كلها في اللحظة نفسه.
داخلها دور وفعالية.
وفي منطقة التماس بينها كلها كحرية.
وخارجها كلها إذا تعلق القياس بعلائق اللزجة، العلائق المعيقة التي تتشكل على جوانب كل مشروع وفعل، كجانب ملازم لكل منظمة وفعل عام.
أخذ الأستاذ أحمد قاسم دماج، باستمرار مسافة كافية من النخبة الطافية على السطح، من دون عدائية أو إحساس بالغُبن، مع الاحتفاظ بفعاليته كاملة، وبعلاقاته مع الجميع.
هذه المعادلة قلّ مَن يجيدها ويطبِّقها، دون أن يقع في اليأس، وانعدام الفعالية:
أن تكون أصيلاً تنجو بذاتك من الوقوع في العجلة التي تفرم ناس بلا حدود، حتى من كانوا متوهجين ذات يوم، وممتلئين بالحُلم.
وأن تنحت فعاليتك وحضورك في الوقت نفسه بأبعادك كلها التي اختزتها لتخط عبرها سفرك في الحياة كإنسان وهوية وفعالية عامة.
- شعر يتخلق من نبض القلب
أحمد قاسم دماج الشاعر، مُقل في الكتابة. لا يكتب إلا ما يجبره إحساسه على كتابته، ولا يجد منفذاً للإفلات من ضرورة توضيحه بالكلمات.
فرادة إحساسه وإعراضهُ عن الإفراط في شرح عالمه الداخلي بالكتابة الشعرية، حولت قصائده إلى علامات دالة على امتلاء المعنى وجودة التعبير عنه. ما كُتبت من قصائد تضعه في مرتبة كبار الشعراء العرب، ذلك إن مقياس الإكثار من الكتابة لم يكن يوماً مقياساً للتميّز وجودة الشعر.
هو يشبه الشاعر أمل دُنقل والمتصوّف والشاعر الكبير عبدالهادي السودي، لم يكن أحداً منهم يكتب الشعر إلا عند ما يصيبه الوجد، وتخضه أحداث تلامس عمق إحساسه.
أتذكر أن أحد أبنائه أخبرني أنه يكتب القصيدة، ويتركها مهملة وسط كتاب، أو في فوض أوراق مرمية في مكان هامشي، أو يمزّقها في اليوم التالي.
يذكر الدكتور جعفر الظفاري مسلكا شبيها عند السودي: "يذهب محبوه وأشياعه إلى القول بأنه كان لا يكتُب إلا وهو مجذوب، ويخط ما يعانيه، في حالة الوجد هذه، على الجدران مما يقع في يده من فحم، أو غيره من مراتن الكتابة، حتى إذا ما اختفى الوجد، أو قلّت حدتهُ وانسدل الحجاب من جديد، راح يمسح ما خطه على الجدران. فكان صنيعه هذا دافعاً لمريديه على الإسراع في نقل حمينياته المرسومة على الجدران في أوراق خاصة".
ولد أحمد قاسم دماج ليجد نفسه "رهينة" في سجن الإمامة وهو ما يزال طفلاً في بداية تفتح وعيه بالحياة، حيث اقتطفت ثماني سنوات من عمره الغض كرهينة.
ورحل عن ثمانين عاماً، نزيهاً صادقاً كصفحة روحه البيضاء يوم أخذ أول خطوة في الحياة بين يدي القابلة.
يعلمك الأستاذ أحمد أن أحلك الأوقات، في بعض الأحيان، يمكن أن تأخذنا إلى أكثر الأماكن إشراقاً. وأن أكثر صراعاتنا إيلاما يمكن أن تمنحنا النمو الأكثر ضرورة.
في هذا المقطع من قصيدته في رثاء محمد عبده نعمان، يبدو وكأنه يعكس صورته هو في صديقه الأحب إلى قلبِه:
"فوق صهوة أيامه
يستريح الفتى
لن يداري الليالي، ولن يندب العمر
يمضي وحده على مهرة الشوق
بين نسيم الرجاء، وانكسار الجبال
له طُهر أوجاعه، لوعة الجرح
له زهو التضور في هدأة الليل
كل الذي لا يطاق له،
وله ما يطاق
الفتى اختبر اللحظات التي تنجب
الفجر
واللحظات التي تلد الليل
شق الثواني ممسكاً جمرة الحب
لاعبها بين كفيه دهراً
ومازال يحمل جمرته
كلما خاتل الليل أحلامه
كلما اشتد إمعانه
يا لهذا الفتى كيف يشدو؟
ومملكة الصمت تنشر أجنادها
وسكون المقابر يبسط سطوته في
الجهات
يا لهذا الفتى ذاهباً في الغواية
كالزوبعة،
وحتى النهاية كالزوبعة"
- حنين لقصائدك القادمات
في هاوية الشتات والأفق المسدود الذي يلف اليمن كلها، يتلبسنا حنين استثنائي لكل نجم أشرق ذات يوم في سمائنا، وانطبعت سيرته في ذاكرتنا الجمعية؛ الأستاذ أحمد قاسم دماج واحد من هذه الإضاءات النجمية الفريدة، التي التمعت في النصف الأخير من القرن العشرين.
سيرة حياة، تذكُّرها يجعلنا نعزّي أنفسنا واثقين بأن هذا الانهيار، مهما استطال، سيظهر، في نهاية المطاف، كمجرد فاصل في الإيقاع الأبدي لتقدم لحياة، وأن هذه الهاوية هي ظُلمة الرّحِم لا ظُلمة القبر.
أردت أن أقول للأستاذ أحمد: "افتقدناك". كلمة يتردد صداها الآن في رأسي، وأنا أقرأ هذا المقطع من قصيدة الدكتور عبدالعزيز المقالح في وداعه:
افتقدتك يا صاحبي
وافتقدتُ عصاكَ التي كنتَ
-في السنوات الأخيرة-
تحملها بأصابعك الناحلات
تهش بها غنم اليأس حيناً،
وحيناً تخط بها في الهواء
قصائدك المقبلات
وترفعها في وجوه الذين
يبيعون للظالمين
جواهر ما ادّخرته اللغات
من الكلمات
وما اكتسبته القصائد.
من زخم العفة
الخالدةْ.